مداد القلم.. في قضايا الأدب والسياسة والتأريخ (5 من 6)
في مكتبة المصوَّرات بالخرطوم..
الدكتور عمر مصطفى شركيان
[email protected]
مهما يكن من أمر، إذ لم نكد نخرج هذا العمل للعامة والخاصة دون أن نتطرَّق إلى ما ألمَّ بشعب النُّوبة بعد صدور نتائج الانتخابات الولائيَّة الملهاة العام 2011م، ومن ثمَّ إصدار الفتوى الثانية العام 2011م وإعلان الجهاد عليهم في عقر دارهم، وذلك بعد الفتوى الأولى العام 1992م بمدينة الأُبيِّض. تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ سلوك الفتاوي العشوائيَّة أو المغرضة سمة رائجة في كل زمان ومكان، وبخاصة في المجتمعات الكهنوتيَّة. إبَّان الحكم البريطاني-المصري في السُّودان (1898-1956م) كانت قوَّة دفاع السُّودان (نواة القوات المسلَّحة السُّودانيَّة حاليَّاً) تدين بالولاء للحاكم العام البريطاني. بيد أنَّ كثراً من الضبَّاط كانوا يعتبرون جزءاً من قوَّات الجيش المصري الذين سبق لهم أداء يمين الولاء لملك مصر، مما أخاف الإدارة البريطانيَّة في السُّودان، وبخاصة أنَّ أحداث حركة اللواء الأبيض العام 1924م كانت ماثلة أمام العيان. فقد تمَّ حل هذه الأزمة عن طريق اقتراح صدر من الشيخ إسماعيل الأزهري (مفتي الدِّيار السُّودانيَّة) مؤداه أنَّه يمكن للضبَّاط التحلُّل من أحد القسمين – وفي هذا الخصوص القسم السابق لملك مصر – بإطعام وإكساء عشرة فقراء أو بالصيام لمدة ثلاثة أيَّام. وبرغم من أنَّ لجنة العلماء رفضت تأييد ذلك الاقتراح، إلا أنَّ ما حدث هو أن قام الضبَّاط بأداء يمين الولاء للحاكم العام، وظلَّت هذه المسألة ردحاً من الزمان محلاً للجدل والحوار في صفوف الضبَّاط.
أيَّاً كان من أمر الفتاوي، فإنَّ التداعيات التي نتجت في عقابيل الحرب الأهليَّة الثانية في منطقتي جبال النُّوبة منذ 6 حزيران (يونيو) 2011م، والنيل والأزرق في 2 أيلول (سبتمبر) 2011م كانت مبعث الكتاب الضخم الذي أصدرناه بعنوان “في النِّزاع السُّوداني.. عثرات ومآلات بروتوكول جنوب كردفان والنِّيل الأزرق، مطابع أم. بي. جي. العالميَّة، الطبعة الأولى، لندن، 2015م”، وأسرفنا فيه سرداً للإرهاصات ونذر الحرب قبل تفجُّرها، وما آلت إليه الأوضاع الأمنيَّة منذئذٍ. فلا يسعنا أن نروي في شكل دقيق ما جرى خلال تلك السنوات؛ ذلك العهد قد أضفى على النُّوبة لوناً أحمر داكناً من الدِّماء. مهما يكن من شأن، فإنَّ شعوب المنطقتين ليسوا برعايا لأحد، بل هم مواطنون، وقد شرعوا في المطالبة بترسانة قانونيَّة تنصفهم، وتعترف بالمواطنة سبيلاً إلى التعايش السلمي في السُّودان. بيد أنَّ أهل الإنقاذ تلاعبوا بنتائج الانتخابات الولائيَّة في ولاية جنوب كردفان (جبال النُّوبة) – كما أبنا آنفاً – وقاموا بتأويلها حسب أهوائهم، وذلك لتبرير الاعتداء على المظلومين الشاكين. وما أن نشبت الحرب حتى أعادت إلى الأذهان قضايا ظلَّت تؤرِّق مضاجع المقهورين من أهل السُّودان، وهي قضايا وجوب الاعتراف بكل مكوِّنات السُّودان الدِّينيَّة والثقافيَّة واللغويَّة والهُويَّاتيَّة، وتأسيس التنافس الوظيفي على الكفاءة، ومحاربة الفساد محاربة حقيقيَّة، واختيار المستقبل السياسي المنشود، وتبنِّي الدستور الأسمى للبلاد برضا كافة المواطنين، وتمكين الخيارات الديمقراطيَّة الكبرى التي تتمثَّل في فصل السلطات (التنفيذيَّة والشتريعيَّة والقضائيَّة). إذ أنَّ عدم مقدرتنا على حسم هذه القضايا حسماً نهائيَّاً ثمثل ملامح التخلُّف الذي ما زلنا نتخبَّط فيه خبط عشواء. والآن ما زالت المنطقتان تراوحان مكانهما في حال لا حرب ولا سلام، وقد لا ينعم أهل المنطقتين خاصة، والسُّودان بشكل عام بالاستقرار والسَّلام ما لم تجد قضايا الهُويَّة وعلمانيَّة الدولة وحق تقرير المصير والتنمية المتوازية وغيرها حقها في النقاش والوفاق.
وفي هذه المقالات المتشعِّبة التي جُمعت في كتاب باسم “مداد القلم” لم نكد نتجاهل كذلك النظرة إلى الوراء من أجل استحضار التأريخ لنتعلم منه الدروس والعبر، وفي سبيل المضي قُدماً إلى الأمام مع تجنُّب عثرات الماضي وسلبيات الاستعمار، وبخاصة الاستغلال الذي لحق ببعض الشعوب الإفريقيَّة من تجاوزات الرجل الأبيض في حقوقها الإنسانيَّة كما حدث في جمهوريَّة الكونغو. إذاً، ماذا جرى في هذه الدولة إبَّان الاستعمار البلجيكي لها؟
ليس هناك ثمة كتاباً أثار شعوراً غاضباً وسط العديد من الكتب، التي ألَّفها رسَّام الكاركتير البلجيكي الأشهر هيرجي (اسمه الحقيقي جورجس ريمي)، مثل ذلكم الكتاب الموسوم ب”تينتين في الكونغو”. لقد تمَّ نشر الطبعة الأولى لهذه القصَّة العام 1931م، وهي التي تحكي عن مغامرات طفل شجاع صحافي استقصائي في المستعمرة البلجيكيَّة في مداخيل إفريقيا الوسطى. إذ يصوِّر الكتاب السكَّان الأصلاء كأطفال في أشكال كاريكاتيريَّة، وقد ذُهلوا بزائرهم الأبيض، وطفقوا يتحدَّثون بأسلوب تفكُّهي، ويمشون على ركائز. وقد وصلت الوقاحة بالكاتب حتى أخذ كلب تينتين المسمَّى “سنوي” يتَّهم الكونغوليين بالكسل. لا مريَّة في أنَّ هذه الاعتقادات البرجوازيَّة-الأبويَّة ضد الأفارقة، والنظرة الدونيَّة التأريخيَّة لهم، قد أثارت حفيظة أصحاب حركة “حياة السُّود مهمَّة، أو حياة السُّود تهمُّ” (Black Lives Matter) التي انطلقت في الولايات المتحدة الأميريكيَّة، وعمت العالم الغربي. فليس الطفل البطل الأسطوري وحده لا شريك له هو البلجيكي الوحيد الذي بات يواجه الأسئلة المحرجة عن الماضي الظلوم. إذاً، من ذا الذي يكون الشخص التهيم الآخر؟ إنَّه الملك ليوبولد الثاني الذي سيطر على الكونغو لأكثر من أربع حقب منذ العام 1865م، وترأس نظام استعماري وحش في أعظم ما تكون الوحشيَّة في هذه الدولة. لذلك تمَّ تلطيخ تمثاله في العاصمة البلجيكيَّة بروكسل بطلاء أحمر، وتمَّ إحراقه ثمَّ إنزاله بواسطة المتظاهرين الذين ارتأوا أنَّ هناك ثمة علاقة وثقى بين نشاطاته من ناحية، والعنصريَّة من ناحية أخرى في العصر الحديث، وبين عنف الشرطة ضد السود في الغرب عامة، والولايات المتَّحدة الأميريكيَّة خاصة.
والجدير بالذكر أنَّ الملك ليوبولد الثاني قد حاز على الكونغو بمساعدة هنري مورتون ستانلي، وهو ذلك المغامر الويلزي الذي اشتهر بأنَّه هو الذي عثر على المبشر المسيحي ديفيد ليفينغستون في قرية نائية في أعماق روديسيا (زامبيا حاليَّاً) في 10 تشرين الثاني (نوفمبر) 1871م، وذلك حين شرعت القوى الأوروبيَّة تتسابق نحو اقتسام إفريقيا العام 1884م، وقد سمح للملك ليوبولد بالاحتفاظ بالكونغو كإقطاعيَّة شخصيَّة. إذ سرعان ما أصبح الكونغو، الذي تبلغ مساحته أكثر من 80 مرة من مساحة بلجيكا، رديفاً للقساوة. وقد كان يتمُّ بتر أعضاء السكَّان المحليين الذين يفشلون في إنتاج كميَّة كافية من المطاط، أو قتلهم، أو حرق قراهم، ويزعم نشطاء حقوق الإنسان أنَّ 10 مليون شخصاً قضوا نحبهم، بينما يقدِّر المورِّخون أنَّ العدد يتراوح ما بين 500.000 إلى 1.5 مليون شخصاً. إذ دفعت هذه الفظائع إلى بروز أوَّل حملة لحقوق الإنسان في القرن العشرين، وشارك فيها – فيمن شارك من أصحاب الضمائر الإنسانيَّة – الأديب مارك توين، وهو الذي كان قد نشر منشوراً لاذعاً أذاعه في النَّاس، وهو يهاجم فيه ليوبولد العام 1905م. كانت دولة الكونغو موضع رواية “قلب الظلام” (1902م) للروائي جوزيف كونراد، وتمَّ إنتاجها كفيلم باسم “الكارثة الآن”. وبعدئذٍ سيطرت الحكومة البلجيكيَّة على مقاليد الأمور في الكونغو العام 1908م، وسعت إلى تحويلها إلى مستعمرة نموذجيَّة، ومن ثمَّ قامت بتأسيس المدارس والمستشفيات والطرق. ومع ذلك – كما يقول المؤرِّخون – فإنَّ السلوك الأبوي الذي مارسته بلجيكا على الكونغوليين حال دون ظهور صفوة متعلِّمة محليَّة، مما ساعد على سوء الإدارة خلال حقب الاستقلال تحت رئاسة حكام فسدة.
وللمقال خاتمة،،،