العدالة والمحاسبة التاريخية (5 – 10)

 

✍🏿 متوكل عثمان سلامات
13/10/2020

إمتداداً للمقالات السابقة والتي أوضحنا فيها مفهوم العدالة الإنتقالية وتاريخها وعلاقتها ببعض المفاهيم والحقوق، سنواصل توضيح هذه العلاقة وأثرها في تحقيق العدالة والمحاسبة التاريخية.

العدالة الإنتقالية وإعادة كتابة التاريخ:
إن عملية المعرفة أو الكشف عن الحقيقة التي تقوم بها أدوات العدالة الإنتقالية تعتبر من أهم حقوق الضحايا، ولا يقتصر هذا الحق على الفرد أو الضحية أو أقربائه، وإنما الحق في المعرفة هو حق جماعي يعود أصله للتاريخ، وذلك لتلافي تكرار ما سبق من إنتهاكات، ويقابل هذا الحق واجب الذكرى الذي يقع على عاتق الدولة حتى تحمي ذلك التاريخ من التشويه، فمعرفة شعب ما لتاريخ إضطهاده يندرج ضمن تراثه وبالتالي يجب صونه وحمايته، فالشعوب المضطهدة الآن من قبل الدولة المسماة بالوطنية هي ذاتها الشعوب المضطهدة قبل ظهور الدولة الوطنية، فالإضطهاد الآني ماهو إلا إمتداد طبيعي للإضطهاد والقهر التاريخي أي أن الإستعمار الخارجي تم إستبداله بآخر وطني.
لم تشارك أو تساهم تلك الشعوب في كتابة تاريخها، فقد كتب تاريخها مؤرخون مطعون في موضوعيتهم وإلتزامهم بالحقائق المجردة، فلكل منهم منطلقاته الفكرية ومنطقه المبطن الذي يحدد من خلاله موقفه من الأحداث ويصف ويرتب ويصنف تلك الأحداث بناءً على ذلك المنطق المبطن.
فمن الضرورة أن تتجاوز العدالة الإنتقالية في الدولة السودانية مسألة (واجب تخليد الذكرى) للضحايا كمفهوم يقتصر على مجرد وضع نصب تذكارية وإحتفالات سنوية بذكرى ضحايا الإنتهاكات إلى مراجعة تاريخ الدولة وإسهامات تلك الشعوب فيه وإعادة كتابته على أن تدعم وتشرف على ذلك منظمة الأمم المتحدة عبر وكالتها المتخصصة وتبتعد الدولة بكل مؤسساتها ذات الصلة تماماً، على الأقل في الوقت الراهن لعدم حياديتها.
وتنبع أهمية إعادة كتابة التاريخ ومراجعة مادة التاريخ لما للتاريخ من دور كبير في إستخلاص الدروس والعبر من أجل الحاضر والمستقبل، ويعتبر مصدر للإلهام، وأهم مصدر لرؤوس الأموال الرمزية.

العدالة الإنتقالية في مخيلة رجال الدين وقوى السودان القديم:
عند رجال الدين فإن المصالحة هي الفكرة التي تتلاقى حولها كل الروافد الدينية، ويعتبرونها أحد تطورات الخطاب الديني المتعلق بالعدالة الانتقالية. وإن كانت لتلك الروافد اختلافاتها البينية أيضاً، فمثلاً تعتبر حقوق الإنسان فكرة محورية بالنسبة للفكر الكاثوليكي وبعض الطوائف البروتستانتية واليهودية، إلا أن الاهتمام بها يقل في الإسلام والبوذية والهندوسية، ويرون أن مفهوم العدالة الانتقالية، يتنافى مع مفهوم عدالة رب البشر؛ لأن العدالة لا ترتبط بزمان حتى تكون انتقالية، وكأننا نقول إننا في هذا الوقت سنُطبق عدالة موقتة مرحلية خاصة بمرحلة معينة إلى حين تطبيق العدالة الدائمة.
وهو فهم قد لا يتسق مع مفهوم العدالة الإنتقالية طالما إنتقاليتها مرتبط بإنتهاكات إنسانية نتيجة لصراع أو نظام حكم تسلطي إستبدادي، ومن أهم أهدافها إنصاف ضحايا تلك الإنتهاكات الإنسانية، ومفهوم الإنصاف هو مفهوم طبيعي أقدم من الأديان نفسها. فهذا الفهم المغلوط لمفهوم العدالة الإنتقالية تنطلق منه قوى السودان القديم .
فإذا كان سبب هذه الإنتهاكات في الدولة السودانية هي قوى السودان القديم التي تتخذ من الفكر الإسلاموعروبي مرجعية لها والذي من خلاله تقوم بالقتل والإغتصاب والنهب والتعذيب وتدمير الممتلكات وغيرها من الإنتهاكات ضد المسيحي أو صاحب المعتقد الإفريقي أو اللاديني أو المختلف في الطائفة الإسلامية الذي يواطنه، بحجة مقدسة وهي الجهاد، ثم تأتي نفس القوى بعد الثورة وتدعي أن لها برامج لإصلاح وضع ما بعد الجهاد، فيه إنصاف (للكفار) وتحقيق شفاف من أجل إسترداد حقوق أهل الكتاب من اليهود والنصارى وحقوق أصحاب المعتقدات الإفريقية أو اللادينيين وحقوق الطوائف الإسلامية الأخرى المختلفة معها، وفيه كذلك جبر لضرر الوثني واللاديني، إنه لضرب من الخيال، لأنها مجرد إمتداد للنظام البائد وسياساته ولايمكن أن يمنعوا وقوع مثل هذه الإنتهاكات مستقبلاً طالما أنها فريضة دينية وطالما الإختلاف الثقافي والديني موجوداً. ستعمل قوى السودان القديم في أسوا الحالات على إفلات الجناة من العقاب كتبني ما يعرف بالعدالة “الترميمية” التي ينادي بها حزب الأمة القومي وقد أوردنا مفهومها في مقال سابق. وقد تعتبر لجنة التحقيق في أحداث فض إعتصام القيادة العامة نموذج وجرس لفتح آزان الضحايا والنشطاء لما يمكن أن تؤول إليه عملية العدالة والمحاسبة التاريخية.
فالعدالة الإنتقالية التي تتلاقى حولها معظم الروافد الدينية وبعض الأحزاب الطائفية والإسلاموعروبية هي في الأساس إجراءات تقود للمصالحة ولاتساعد على تحقيق العدالة والمحاسبة التاريخية ولن تجبر ضرر الضحايا وتؤدي في نهاية المطاف للإفلات من العقاب لأن العدالة الإنتقالية عند هذه القوى مرادفة للصفح والعفو وهذا ما لايجب أن تقوم به الدولة المنصفة.

تعليق 1
  1. عباس عيسى سعيد بابكر يقول

    انا عباس عيسى سعيد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.