إعلان المباديء: العودة إلى منصَّةِ التأسيس!
نقاط على الحروف
الواثق كمير
[email protected]
تورونتو، 4 أبريل 2021
انطلقت مُفاوضات السلام بين الحكومة الانتقالية وحركات الكفاح المُسلِّح (الجبهتين الثوريتين) وتم التوافُق بين الطرفين بسلاسة، ولو بعد عامٍ كاملٍ، بتوقيع اتفاق جوبا للسلام في أكتوبر 2020. ذلك، بينما تعثَّرت المُفاوضات بين الحكومة والحركة الشعبية شمال، برئاسة القائد عبد العزيز الحلو، بسبب عدم التوّصل إلى اتفاق للمباديء يحكم العملية التفاوضية. سبب هذا التعثُّر يرجع إلى وضع الحركة الشعبية موضوع العلمانية (فصل الدين عن الدولة)، ليكون أساساً لإعلان المبادئ قبل الشروع في التفاوض، من جهة، وحق تقرير المصير كشرطٍ لازم إن لم يتم التوّصل لاتفاق حول فصل الدين عن الدولة، من جهةٍ أخرى. ومن ذلك الحين، ظلَّ الجدل مُحتدِماً بين السياسيين وكُتاَّب الرأي بالتعبير عن آرائهم المُتباينة، وانقسمت وجهات النظر بين المُطالبين بالدولة العلمانية، أو المدنية، وبين الرافضين والمناوئين لها.
ومنذ ذلك الحين، أحدث رئيس الوزراء، د. عبد الله حمدوك، نقلة نوعية مُتقدِّمة لكسر جُمود التفاوض بتوقيعه، في 3 سبتمبر 2020 بأديس أبابا، على “اتفاق سياسي”، وفَّر إطاراً لإعلان المباديء المفقود، نص في بنده الثالث على أنَّه “يجب أن يقوم الدستور على مباديء فصل الدين عن الدولة، وفي غياب هذا المبدأ، يجب احترام حق تقرير المصير”، إضافةً إلى أنَّه ” لا يجوز للدولة تعيين دين رسمي”. أُرفق الاتفاق ب “بيان مشترك”، جوهره إحالة موضوعي فصل الدين عن الدولة وحق تقرير المصير إلى “ورش عمل غير رسمية”، يُشارك فيها الجانبان لترفد التفاوض الرسمي”. وبالفعل، تمَّ عقد ورشة عمل غير رسمية بهذا الخصوص، بجوبا في نهاية أكتوبر 2020، توافق فيها الطرفان على سبع نقاط حول فصل الدين على صيغة تُعبِّر عن مبدأ “فصل الدين عن الدولة” في السياق السُّوداني، لإدراجه في إعلان المبادئ في المُفاوضات الرسمية المُرتقبة. ومع ذلك، لم تصل الورشة لنهايتها المنطقية بعد أن رفض الفريق كبِّاشي، رئيس الوفد الحكومي، مُخرجات الورشة في الجلسة الختامية. بجانب اعتراضات بعض فصائل الإسلاميين، وجزء من القوى السياسية، حتى داخل تحالف قُوى الحُرِّية والتغيير والمُكوِّن العسكري، وضع الفريق كباشي العصا في دواليب العملية السلمية، خاصةً بعد أن تخلَّت الحركة الشعبية عن شرط تقرير المصير طالما تمَّ إقرار مبدأ فصل الدين عن الدولة. وبذلك، تعطَّلت انطلاقة العملية التفاوضية التي لم يُقيض لها أن تبدأ منذ أول وآخر اجتماع بين طرفي التفاوض في 18 أكتوبر 2019.
وبعد التوقيع على اتفاق جوبا للسلام بين الحكومة والجبهتين الثوريتين، في أكتوبر 2020، وإعادة تشكيل مجلسي السيادة والوزراء، وتكوين مجلس شُركاء الحُكم الانتقالي، في ديسمبر 2020، وضعت الحكومة الانتقالية استكمال العملية السلمية على رأس أولوياتها الخمس. فعلى خلفية تفاهُمات رئيس الوزراء مع رئيس الحركة الشعبية- شمال، وما تبعها من نقاشات غير رسمية، التقط رئيس مجلس السيادة، ورئيس مجلس شركاء الحكم، قفاز المُبادرة هذه المرَّة بتوقيعه على إعلان المباديء المنشود مع رئيس الحركة الشعبية- شمال. وبذلك، أحدث اختراقاً يفتح الباب واسعاً لاستكمال عملية السلام كلبنةٍ أساسية في طريق بناء دولة المُواطنة السُّودانية، ذات الحقوق والواجبات المُتساوية والمساواة أمام القانون دون تمييز على أساس الدين أو الإثنية أو النوع.
للمُفارقة، بينما أُتهم رئيس الوزراء بمُحاولة إبعاد الدين عن الحياة والطعن في، وهدم الهوية الإسلامية، وقامت الدنيا ولم تقعد في رد الفعل على اتفاق أديس أبابا ومخرجات ورشة عمل جوبا غير الرسمية، فقد “جابت عاليها واطيها” (كما يقول المصريون) حالما تمَّ توقيع الاتفاق على إعلان المبادي، بين رئيس مجلس السيادة ورئيس الحركة الشعبية- شمال. فقد جاء الهجوم هذه المرَّة على رئيس مجلس السيادة أكثر عُنفاً وأشد ضراوة من ذلك الذي تعرِّض له رئيس الوزراء الذي وضع اتفاقه مع رئيس الحركة الشعبية حجر أساس إعلان المباديء. فبينما تعرَّض رئيس مجلس الوزراء لانتقادات من أطراف سياسية متفرقة (كما نوَّهت أعلاه)، فإنَّ المُلاحظ بجلاء أنَّ الحملة العنيفة المُكثفة ضد خطوة رئيس مجلس السيادة باتت محصورةً فقط على بعض أطياف الإسلاميين، وبكعبٍ عالٍ للسلفيين والغُلاَة، تحت لافتات مُتناسلة من الجبهة الإسلامية القومية، أو الحركة الإسلامية في عمومها. فبجانب البيانات المبثوثة على الأسافير لعددٍّ مهول من هذه الكيانات، التي تُعرِّف نفسها بمُسَّميات مُختلفة، بما فيهم ما يُسَّمى ب “اتحاد العلماء والائمة”، يكفي القارئ مُشاهدة تسجيلات قناة طيبة (التي أسميها الجزيرة- تركيا) خلال الأيام الماضية، والتي ما زالت تترى. فهؤلاء يعِدون الاتفاق خروجاً من الدين والمِلَّة وأشبعوا رئيس مجلس السيادة تقريعاً قاسياً، لحد استعارة وترديد بعض قياداتهم المرموقة لعبارة الفريق كبَّاشي، في حق رئيس الوزراء، “عطاء من لا يملك لمن لا يستحق”؟ لتنسحب على الفريق أول البرهان. فهكذا، أضحى الفريق كبَّاشي قائداً يستدِّلون بأقواله، فهل يجرؤ هو نفسه أن يعيد كلامه الماسخ هذا في وجه رئيس مجلس السيادة؟ يبدو أنَّه بسبب الاستهانة، والاستخفاف بالوزن السياسي لرئيس الوزراء وتصويره كمن لا يمتلك زمام أمره، وأنَّه لا يملك الحق في القرار الوطني، كان الهجوم عليه أقل وطأةً، ولكن خاب ظنّهم في مُضي رئيس مجلس السيادة قُدماً في طريق عبدَّه له ذات رئيس الوزراء.
ولتجنُّبِ التعميم المُخل، وتفادي وضع الكُلِ في سلةٍ واحدةٍ، هناك مِن قيادات وشباب الإسلاميين مَن يقاربون قضية العلاقة بين الدين والدولة بمنظور مُختلف. فهؤلاء يدركون ما وقعت فيه الحركة الإسلامية السُّودانية، بمُختلف مُسَّمياتها السياسية، من أخطاءٍ كارثية وقفت عقبة أمام التوافق الوطني السُّوداني، وقادت إلى تمزُّق البلاد. فهم يدعون إلى الخروج من “مأزق الثنائية العقيمة بين وحدة السُّودان وشريعة الإسلام، والدفع بالحوار الفكري بين الدين والعلمانية ودور الإسلام في المجال العام إلى محله الطبيعي ضمن أُطر المُجتمع ومُؤسساته المدنية”. هذه الطليعة من الإسلاميين اختارت تفضيل وحدة البلاد على قوانين الشريعة التي تُفرِّق بين السُّودانيين وتُشتِّت شملهم. واتطلع لأن تبِّثُّ هذه الطليعة الوعي وتنشر التنوير وسط قواعد الإسلاميين من كل حدبٍ وصوب، وأن توُّفر القيادة ثاقبة الفكر، المُشرئبة للمستقبل والمُستشرفة لآفاقه.
كنت، في مقالٍ سابقٍ، قد دعوت الإسلاميين الإجابة عن سؤال إمكانية إقامة دولة إسلامية في إطار الدولة القومية (الوطنية) في عالم اليوم على خلفية تجربتهم في الحُكم لثلاثة عقود من الزمان، وأين أودت بهم وبالبلاد (العلمانية في السِّياق السُّوداني: العودة إلى القوانين المدنية، سودانايل، 15 أغسطس 2020). فقد أثبتت هذه التجربة عدم جدواها في مُجتمعات مُتعدِّدة الأديان، لا تفيد أصحابها ولن تفيد السودان في شيء. الآن، على الإسلاميين المُناهضين لإعلان المبادئ أن يقروا بتناقض مواقفهم، خاصة أولئك الذين يتخذون قناة طيبة منصة لهم. فالبلد الذي يستضيفهم يحكمه دستور علماني خالص لم يقف في طريق الرئيس رجب طيِّب أردوغان وحزبه الإسلامي من الصعود إلى السُلطة عن طريق الانتخابات، وهي الآلية التي من الجائز أيضاً أن تُزيحه عن الحكم وتأتي برئيس آخر هو نفسه علماني حتى النخاع. ونقرةٌ واحدة على مُحرِّك قوقل تنبئك بدعوة الرئيس التركي للرئيس المصري محمود مرسي إلى وضع دستور مصر بناء على المبادئ العلمانية، مُعتبراً أنَّ تُركيا تشكل نموذجاً للدولة العلمانية المُناسبة. وليتمَّعن هؤلاء الإسلاميين في حديث رئيس حزب النهضة الإسلامي، راشد الغنَّوشي، المنشور على الأسافير، في حِوارٍ مع قناة “الجزيرة”، الذي قال فيه على حدِ تعبيره “ليس من مُهِّمة الدولة أن تفرض الإسلام، ليس من مُهِّمة الدولة أن تُفرض أي نمطٍ مُعيَّن، على المُجتمع. إنَّ مُهِّمة الدولة أن تحفظ الأمن العام، تحفظ العدل، وتُقدِّم الخدمات الناس. أمَّا الناس تصلِّي، ما تصلِّيش، تتحَّجب ما تتحَّجبش، تسكر ما تسكرش، هذا متروك للناس”. سأله المذيع: “هل هذا مفهوم راشد الغنَّوشي أم مفهوم حزب النهضة؟”، فردَّ عليه بحزم: “هذا مفهوم حزب النهضة”. والجدير بالذِكر، أنَّ حوالي 98 % من سكان تونس هم مُسلمون. فهل الإسلاميون السُّودانيين يتفوَّقون على غيرهم من الإسلاميين، أم هم يزايدون بالدين الإسلامي من أجل الوصول للحكم والسُلطة؟
وهذا ليس بالتناقض الوحيد للإسلاميين، بل هو مُجرَّد حلقة في سلسلة تاريخية من التناقضات مع الواقع ومع أنفُسِهم، على حدٍ سواء. وعلى نفس طُول الموجة، فلتستدرك الحركة الإسلامية نهج الكيلِ بمِكيالين الذي ظلَّت تستخدمه في مواقفها طوال تاريخها السياسي في السُّودان. فالحركة لم تنشأ ويشتدَّ عودها في ظلِ نظام استبدادي، بل في رحابِ المناخ الديمقراطي التعدُّدي. ورغم مُقاومتها لنظام عبَّود العسكري ومُساهمتها في ثورة أكتوبر، والتي أرست قواعد نظام سياسي مدني/علماني (دستور 1956 المعدل 1964)، ومع أنَّها ناهضت انقلاب مايو في أوَّل عهده، عادت لتتحالف معه في منتصف السبعينات طمعاً في الحُكم والسُلطة ولم تعبأ بكونه نظاماً علمانياً كامل الدسّم. فلماذا لم يناهضوه أو يقاوموه، و”يجيبو عاليه واطيه” كما يقدمون عليه الآن؟ ذلك، خاصة وقد اندغموا في الاتحاد الإشتراكي زرافات ووحدانا، الحزب الأوحد الذي صنعه الفرد الواحد، بينما هم الآن يضعون المتاريس ويزرعون الألغام في وجه نظام يتسم بقدر من الوفاق الوطني، أنتجته ثورة ضحي فيها شباب السُّودان بحياتهم ودمائهم. وبعد أن انقلب الرئيس نميري على الإسلاميين، في آواخر أيَّامه، عادوا ليلتحقوا، ولو على مضضٍ، بركب الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بحكمه. هكذا، كسبت الجبهة الإسلامية عدداً مقدراً من المقاعد النيابية وشاركت في الائتلاف الحاكم. وما أن اتفقت كل القوى السياسية والمُجتمعية على إلغاء قوانين سبتمبر الشائهة، دبَّرت الجبهة ونفذَّت انقلابها على النظام الديمقراطي في 30 يونيو 1989، والذي ما فتئت تسوق الذرائع وتُردِّد المُبرِّرات له. فهثم يعتقدون أنَّ الله يغفر لهم ما لا يغفره للآخرين، ويجتهدون في إيراد الأدِّلة الشرعية والمُسوِّغات الأخلاقية لأعمالهم لإجازة مشروعهم.
في اتفاق أديس أبابا بين رئيس الوزراء ورئيس الحركة الشعبية شمال إشارةً واضحة بأنَّ هذا (الاتفاق المُشترك) يسري “ويصبح ملزماً بعد المُصادقة عليه من قبل المؤسسات المعنية”. وبتوقيعِ رئيس مجلس السيادة على إعلان المباديء يكون عقد الاتفاق قد اكتمل، إذ صادق مجلس الوزراء، ومجلس شركاء الحكم، على الإعلان، ولا أظُّن أنَّ المجلس التشريعي إن قُيضّ له أن يتشكَّل وينعقد سيترَّدد في اعتماده. وربما الأهم إنَّ إعلان المبادئ يُعدُّ خطوة مُتقدِّمة لتمتين العلاقة بين العسكريين والمدنيين التي شهدت توتر واضطراب ملحوظين، خلافاً للتجربتين الانتقاليتين السابقتين في أكتوبر 1964وأبريل 1985، مما يُشكِّل أحد المُعوِّقات الرئيسة للانتقال. فإن كان توفير القيادة وتحقيق أكبر قدر من الوفاق السياسي يُمثِّلان شرطان أساسيّان للانتقال السلمي، فتمتين العلاقة بين المدنيين والعسكريين تظل شرطاً حاسماً لضمان هذا الانتقال وتحقيق التحوُّل الديمقراطي المُستدام. وهي العلاقة التي يسعى الإسلاميّون المُناهضون لإعلان المبادئ لتأزيمها وإشعال النيران من حولها كُلما سنحت الفرصة المُواتية. فهل يُريد الإسلاميون المناهضون للإعلان أن يكونوا حجر عثرة مرة أخرى في طريق الوصول للوفاق الوطني؟
من جِهةٍ أخرى، فمِن المُلاحظ، أنَّ المسرح السياسي بعد التوقيع على إعلان المباديء يتميّز بنفس الملامح والشبه للاصطفاف السياسي الذي تشكل عقب انتفاضة مارس/أبريل 1985، وخلال مُعارضة التجمُّع الوطني الديمقراطي خاصةً بعد مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية، فكُل القُوى السياسية توّحدت في مُواجهة الجبهة الإسلامية القومية، خاصةً فيما يتعلَّق بقوانين سبتمبر. ربما الفرق بين المشهدين يتجلَّى في أنَّ الإسلاميين كانوا حينذاك على قلبِ رجلٍ واحد تحت مظلَّة الجبهة، بينما تفرَّقوا الآن أيدي سبأ وذهب القَومُ شَذَرَ مَذَرَ. كُنتُ، في المقالٍ الذي أشِرتُ إليه سابقاً، قد وجَّهت رسالة إلى القُوى السياسية التي وقَّعت على مُقرَّرات أسمرا للقضايا المصيرية، دعوتهم فيها أنَّه، إن تمَّ الاعتراف بأنَّ وحدة السُّودان يتهدَّدها الخطر، مِمَّا أحدث اختراق في أسمرا بشأن العلاقة بين الدين والسياسة/ الدولة قبل رُبع قرن من الزمان، فما الذي يمنع هذه القُوى من التوّصل إلى اختراقٍ ثالث في هذه اللحظة الحرجة من تاريخ السودان؟ لم تُخيِّب هذه القُوى ظنّي، سواءً تلك المُشارِكة في مُؤسسات الحُكم الانتقالي أو تلك التي خارجه (مثلاً، وأنا أكتب في مُسوَّدة هذا المقال وقَّع مولانا جعفر الميرغني مع القائد عبد العزيز الحلو بياناً سياسياً مُشتركاً يدعم إعلان المباديء، وهو اللقاء الرابع من نوعه بين الطرفين 2019 و2021). وفي مقالٍ آخر، دعوت حركات الكفاح المُسلَّح إلى الرمي بثقلها لاستكمال عملية السلام، وألا تغُض الطرف عن الحركات الأخرى غير المُوَّقِعة على اتفاق جوبا للسلام، خاصة الحركة الشعبية- شمال (تحت قيادة عبد العزيز الحلو)، بالتمّسُّك فقط باتفاقية جوبا كمرجعية وحيدة، والاكتفاء فقط بدعوة الآخرين للانضِمام، مِمَّا قد يضع العصا في دواليب العملية السلمية. (قُوَّى الكِفّاح المُسلح: كيفَّ تدعمُّ السَّلام والانتِقال السِلمي؟ سودانايل،2 يناير 2021). وها هي الجبهة الثورية بشقيها وكل أطراف العملية السلمية تتداعى لدعم إعلان المباديء، مِمَّا يفتح الباب واسعاً لتفاهمات مُشتركة بين كُلِ هذه القوُى لتحقيق السلام الشّامل والتحوّل الديمقراطي الحقيقي. ذلك، خاصة وأن اتفافية جوبا للسلام التي وقعت عليها قوى الكفاح المُسلح تنص في المادة 1.7 على ” الفصل التام بين المؤسسات الدينية ومؤسسات الدولة لضمان عدم استغلال الدّين ووقوف الدولة على مسافة واحدة من جميع الأديان والمُعتقدات، على أن يُضمن ذلك في دستور البلاد وقوانينها”.
وقبل أن أختم هذا المقال، فلا شكَّ أنَّ الحركة الشعبية- شمال تُدرك أنَّ التوقيع على إعلان المبادئ وحده لا يعني نهاية الأمر، بل هي البداية لتفاوض شاق ومُعّقد. فالحركة تحتاج لدعم مواقفها التفاوضية حول ما طرحه الإعلان من قضايا، فقد استغرق التفاوض سنواتٍ عديدة حتَّى تم التوَّصل إلى اتفاقية السلام الشامل (1997-2005). هذا الدعم بدوره يستدعي أن تستخدم الحركة ثلاثة أدوات، طالما سكت صوت البندقية: 1) العمل على توسيع وتفعيل القاعدة الاجتماعية والسياسية للحركة وتنظيم مُؤسساتها وعقد مُؤتمرها القومي، بما يُشكِّل حُضوراً فاعلاً لها في كُلِ أنحاء السُّودان، وعدم الركون فقط إلى التفاوض في الغُرف المُغلقة.؛ 2) الانفتاح على القُوى السياسية والمُجتمعية والتفاعُل معها، وتنشيط تحالُفاتها السياسية، كما كان عهد الحركة خلال سنوات النضال المُسلِّح (1983-2005)؛ و3) السعي للتواصل الإقليمي والدولي وتحريك العمل الدِبلوماسي. فقد جاب الزعيم الراحل القارة الأفريقية من رأس الرجاء الصالح إلى الإسكندرية، وصنع علاقات قوية مع كل مُكّوِنات المُجتمع الدولي التي تجلِّت في “شركاء وأصدقاء الإيقاد”، بما في ذلك دُوّل الإقليم.
خاتمة: العودة إلى منصَّة التأسيس!
لأغراض التعبئة المُضادة، ولدعمِ موقفهم، يتذرّع المُناهضون للاتفاق بأنَّ إعلان المباديء يصبُ في مشروعٍ دولي (غربيٍ) يهدف إلى إبعاد الإسلام عن السُّودان بعد رميه في حضن أفريقيا المسيحية. هذا جهلٌ فاضح بنسبة المُسلمين في القارةِ، ففي أفريقيا 26 دولة ضمن العالم الإسلامي، يُشكِّلُ المُسلمون فيها أكثر من 50% من السُكَّان، وهي: أوغندا، وبنين، وبوركينا فاسو، وتشاد، وتونس، والجزائر، وجُزر القُمر، وجيبوتي، والسنغال، والسُّودان، وسيراليون، والصومال، وتوغو، والغابون، وغامبيا، وغينيا، وغينيا بيساو، والكاميرون، وليبيا، ومالي، ومصر، والمغرب، وموريتانيا، وموزمبيق، والنيجر، ونيجيريا، وليبيا. تخضع كل هذه البلاد إلى دساتير مدنية/ علمانية، فهل يا ترى وقعت كل هذه الدول ضحية للمشروع الغربي الاستكباري؟ إبتداءً، لم يكن مشروع الحركة الإسلامية يُعنى بالوطن المُعرَّف بالحُدود الجُغرافية للدولة، فصراعهم على السُلطة يُعكس فكرةً تعلق في أذهانهم، تُغلِّبُ الوطن الذاتي على الوطن الموضوعي ويُجسِّد مشروعاً يتخطَّى الحُدود الوطنية. إنِّ فصل الدين عن الدولة مشروعٌ وطني سُوداني بامتياز يقوم على إرث تاريخي من التشريعات أسهم في صياغتها جهابذة القانونيين السُّودانيين المُخضرمين من 1956 إلى 1983. لم يُقحِم الدين على الدولة إلا حاكم مُستبد لخِدمةِ أغراضهِ السياسية البحتة بفرضه قوانين سبتمبر (الشريعة) في سبتمبر من عام 1983، والتي اُستكملت وأُدمجت لاحقاً في قوانين 1991، دون مؤتمرٍ دستوري أو استفتاء. فبعد أن تضعضعت التحالُفات السياسية للرئيس نميري، لجأ إلى حيلةٍ أخيرة لعلَّها تمِدُّ عُمرَّ حُكمهِ وتُعزِّز من سُلطاته المُطلقة، فنصَّب نفسه إماماً للمُسلمين ووليُّ على أمرهم، ولم يعدم المُبايعين من أهلِ الحلِّ والعقد، وحاشية سلطانه. وبتلك الخطوة، مَهَّد نميري الطريق للجبهة الإسلامية القومية لفرض مشروعِها الأحادي الموسوم عسفاً وجوراً ب “المشروع الحضاري”، الذي ناهضته جميع القُوى السياسية والمُجتمعية حتى أفضى إلى تقسيم البلاد وذهاب جنوبها لحاله.
إنَّ إعلان المباديء وضع النقاط على الحروف ليعود السُّودان إلى منصَّة التأسيس والتحوّل الديمقراطي الحقيقي، الذي لا يهدف إلى إقصاء الإسلاميين، أو غيرهم من القُوى السياسية والاجتماعية، من الملعب السياسي، إنَّما كل ما يعنيه هو تسوية هذا الملعب ليحكم صندوق الانتخابات بين المُتنافسين.