رِحْلتي مع مَنصُور خَالِدْ: الحلقة (42) الخروج من الذات لمُلاقاة الآخر! جون قرنق والبَحْثِ عن السَّلام والوحَدَّة

الواثق كمير [email protected]

 

الخلاف مع منصور حول ورقة القضايا!

كما نوَّهتُ في الحلقة السَّابقة، فقد قُمتُ بإرسال “ورقة القضايا”، حول مغزى ودلالات تمثيل الشماليين في المُؤسسات القياديَّة للحركة، إلى عددٍ من القيادات في قطاعي الشمال والجنوب، من الذين اعتقدتُ أنهم سيدعمون القضيَّة، بما في ذلك معظم أعضاء المكتب السياسي الذين تمكَّنتُ من الحُصُول على عناوين بريدهم الإلكتروني، وعلى رأسهم د. منصور وياسر عرمان. ومع ذلك، فلقد تلقيتُ رُدُود فعلٍ إيجابيَّة فقط من بعض القيادات التنفيذيَّة والسياسيَّة في الحركة، وهُم: لوكا بيونق، لوال دينق، إلياس نيامليل، لوكا مانوجا، وشيرينو أوفوه. ذلك، بينما ردَّ عليَّ، شفاهة وكتابة، عضوٌ واحد من المكتب السياسي، نيهال دينق نيهال، وهذا أمرٌ كنت أتوقعه، إلا أني تعجَّبتُ من عدم تلقي أي تعقيب من منصور، وكذلك ياسر عرمان. كما نوَّهتُ في الحلقة (37)، كان منصور دوماً متجاوباً ومنفعلاً بتبادُل الأفكار، شفاهة وكتابة، حول قضايا البلاد ومواقف الحركة الشعبيَّة، لم أكتب مُسودَّة مقالاً أو مذكرة إلا وكان لمنصور مساهمة تُضفي عليها قيمة مُضافة. ومع ذلك، زالت دهشتي، وأنا في القاهرة حينئذٍ، بعد اتصالٍ هاتفي من الصديق نيهال دينق، في منتصف سبتمبر 2008، وكان ردُّه إيجابياً على الورقة التي طرحتها على قيادة الحركة، وأيضاً علِمتُ منه أنه تحدَّث مع منصور وياسر حول الورقة وهُما، بحسب ما قالا لنيهال، يُعِدان “ورقة القضايا” شخصيَّة الدوافع، ولذلك ربَّما فضلاً عدم الردِّ عليها. وبعد عشرة أيام من مُحادثتي مع نيهال، في 25 سبتمبر، قُمتُ بالردِّ عليه كتابة في رسالة إيميل، في 25 سبتمبر 2008، سأقوم باستعراضها في السُطُور التالية: «عزيزي نيهال، الشكر مُجدداً على مكالمتك المُفاجئة الأسبوع الماضي عندما كُنت في القاهرة. لقد عُدتُ إلى تونس العاصمة منذ 10 أيام وما زالت كلماتك، بشأن “ورقة القضايا”، تتردَّدُ في ذهني. أنت محقٌ تماماً في التوضيح لمنصور وياسر أنَّ ما تناولتُهُ في ورقة القضايا لم يكن شخصياً بأي حالٍ من الأحوال، بل بالعكس هى ورقة للنقاش حلَّلتُ فيها بشكلٍ موضوعي معنى ومغزى وتداعيات تمثيل الشماليين في أعلى هياكل صنع القرار في الحركة الشعبيَّة، وحكومة الوحدة الوطنيَّة. يبدو أن منصور وياسر، بقصدٍ أو بغير قصد، اختارا التجاهُل، أو إغفال الحقائق التالية:

• أولاً، ما هي هذه القضايا؟ وما هو الشخصي فيها أو عنها؟ أليس صحيحاً أنَّ نسبة 1 إلى 2، فيما يتعلق بتمثيل قطاعي الشمال والجنوب، قد تمَّ تطبيقها على كُلٍ من المُؤتمر العام ومجلس التحرير الانتقالي، ولكن تمَّ تجاهُلها في حالة المكتب السياسي؟ سؤالي هو: لماذا؟ فما هو الشخصي هُنا؟ أليس صحيحاً أنَّ اقتراح تقسيم قطاع الشمال إلى قطاعات فرعيَّة قد رُفِضَ مرَّتين من قبل مجلس التحرير الانتقالي؟ أتفق مع اقتراحك بأنه يمكن التوفيق بين التمثيل “القومي” و“المناطقي”، ولكن كما ذكرت في الورقة، تفترض هذه المعالجة مسبقًا: أ) اتفاقٌ على المعايير الموضوعيَّة لهذا التمثيل، ولتحديد المناطق المُؤهلة للتمثيل، ب) الصفات القياديَّة والمُساهمة في الحركة الشعبيَّة قبل الشُروع في عمليَّة طرح الأسماء. لا يمكننا وضع العربة أمام الحِصَان. فما هو الشخصي هنا؟ أليس صحيحاً أنَّ قطاع الشمال، والشماليين يجب منطقياً تمثيلهم في حصة الحركة الشعبيَّة في السُّلطة التنفيذيَّة، لا سيَّما في حكومة الوحدة الوطنيَّة؟
من الواضح أن توزيع الحقائب الوزاريَّة يعتمد بشدَّة على الاعتبارات المناطقيَّة والعرقيَّة والقبليَّة، والتي تدعو أيضاً إلى تمثيل قطاع الشمال بما يتناسب مع وزنه في الهياكل القياديَّة للحركة. فما هو الشخصي هُنا؟ أليس من المنطقي إعطاء الفرصة لهؤُلاء القادة/الأعضاء الجُدُد في الحركة الشعبيَّة من الشمال لإثبات أنفُسهم وإظهار القُدرات التي من شأنها أن تُؤهِّلهم لتولي مسئوليَّات القيادة في الجهاز التنفيذي الرئيسي للحركة الشعبيَّة؟ لماذا، وما هو الشخصي هنا؟ أليس صحيحاً أنَّ مُمارسة الديمقراطيَّة، من خلال الانتخابات، قد تمَّ اختراقها في المُؤتمر القومي، وأنَّ الديمقراطيَّة لا يمكن تجزئتها، ولا يمكن مماررستها أن تكون انتقائيَّة؟ فما هو الشخصي في هذا؟ ومن ناحية أخرى، أليس صحيحاً أنَّ هناك ثغرات ونواقص في تنظيم قطاع الشمال (بالطبع، وكذلك في قطاع الجنوب)، تنعكس في عدم الوُصُول إلى فئاتٍ مُهمَّة وقطاعاتٍ مُؤثرة، ولا سيَّما المهنيين والعُمَّال والمُزارعين، وجماعات المُثقفين والقدامى من أنصار الحركة الشعبية.. الخ؟ ما هو الشخصي في هذا؟ أليس من الضروري تقييم وتقويم المُؤتمر القومي من حيث الإعداد والتنظيم والأنشطة والنتائج، بالإضافة إلى مراجعة ميزانيته ونفقاته من قبل شركة محاسبة مرموقة؟ ما هو الشخصي في هذا؟ وأليس من الأهميَّة بمكان للأمين العام ونائبيه في مجلس التحرير القومي أن يضعوا أيديهم معاً من أجل تحديد الثغرات وسدِّها، من خلال البناء على الهياكل التنظيميَّة القائمة للقطاع وتدعيمها لاستيعاب شرائحه المختلفة؟ فما هو الشخصي في هذا؟

• ثانياً: في الواقع، ليس من المُمكن فصل “التنظيمات السياسية” تماماً عن “الأشخاص”، لا سيَّما في حالات الانتقال، طالما أنَّ الدوافع الشخصيَّة، والأجندات، والطموحات لا تمس بأهداف، أو تُستخدم لبذر الانقسامات داخل المنظمة المُعيَّنة. إنَّ صراعات القُوَّة التي هزَّت قارب الحركة الشعبيَّة، في العديد من مراحل تطوُّرها، كانت متجذرة في التطلُّعات الشخصيَّة. على نفس المنوال، يتفاعل الأفراد احتجاجاً عندما يشعرون بأنَّ قيمتهم قد تمَّ إنكارها، أو يتعرَّضون للإهانة، أو إذا كانوا يعتقدون أنَّ المنظمة قد تخلت عن أهدافها الأصليَّة، أو إذا تبيَّن أنَّ التغيير المنشود قد أضحى سراباً. لعلَّك تتفق معي في أنَّ أحد هذه الاعتبارات، أو مجموعة منها، قد شكَّلت السبب/الأسباب الكامنة وراء ابتعادكم، أنت وعبدالعزيز الحلو وياسر، عن هياكل وأنشطة الحركة، ومغادرة البلاد لبعض الوقت.
إذا كنت تتذكَّر، في ذلك الوقت، تحدَّثتُ وتراسلتُ مع ثلاثتكم، ولا سيَّما مع ياسر وعبدالعزيز، حول أهميَّة عودتكم ومُشاركتكم الفعَّالة في قيادة الإصلاح من داخل الحركة، خاصة بعد الإشارات المُشجِّعة التي عكست رغبة رئيس مجلس الإدارة في الشروع في تنفيذ التدابير التصحيحيَّة المطلوبة. على ما يبدو، حان دوري الآن، وكذلك من حقي، للتعبير عن مخاوفي بشأن الخطأ الذي حدث في المُؤتمر القومي فيما يتعلق بتمثيل قطاعي الحركة، بما في ذلك وضع الأشخاص المُناسبين في الأماكان المناسبة، حيث يمكنهم إحداث الأثر المُتوقع، مع احترام مساهمة الأعضاء وبروتوكول الأقدميَّة. كما اعتاد الزعيم الرَّاحل أن يقول: «لسنا كهنة لنُبارك أي قراراتٍ يتم اتخاذها مهما كانت!». إن التواجد لفترة كافية في الحركة الشعبية يمنحني الحق في، على الأقل، التعبير عن رأيي، ولو لم أكُن مشّاركاً في عملية صنع القرار. وبالتالي، إذا تم التعبير عن هذه الاهتمامات الموضوعية، لعدد مُقدر من العضوية، وتقديمها من قبل شخص أكثر إلماماً بمسرح وكواليس الحركة، فإن هذا لا يجعل التمرين “شخصيًا”، أم هل علينا أن نبحث عن “متفرجين” للتحدث نيابة عن هذه العضوية حتى يصير الأمر “موضوعياً” وليس “شخصياً”؟

• ثالثاً، في ظلِّ معرفتنا، لبعضنا البعض، وعملنا سوياً لأكثر من 20 عاماً من النضال المُشترك، فإنَّ رفض كل من منصور وياسر لورقة القضايا، باعتبارها موسومة بـ“الشخصية” هو حقاً مُحبط ومُثبِط. إنهما آخر الأشخاص الذين توقَّعت تجاهُلهم التام للأسئلة المُهمة التي طرحتها، رغم أنهما كانا أوَّل من تلقوا المُذكرة. هذا التجاهُل في حدِّ ذاته مُؤشِّرٌ لمن هُو المُذنب الحقيقي الذي يميلُ إلى “شخصنة” القضايا.
• رابعاً، بصرف النظر عن أعضاء المكتب السياسي للحركة، قُمتُ أيضاً بمُشاركة الورقة مع بعض الرِّفاق الآخرين، الذين لم يُصوِّر أي منهم المُذكرة على أنها “شخصيَّة”، على العكس من ذلك، هناك من “أشاد وأوفي“. على وجه المثال، لوكا مانوجا، وزير العمل، الخدمة العامَّة، وتنمية الموارد البشرية (ووزير الصحَّة لاحقاً في أوَّل حكومة في دولة الجنوب)، كان قد بعث إليّ رسالة على الإيميل، في 10 يوليو 2008، رداً على مُسودَّة الورقة، قال فيها: «الرفيق العزيز الواثق كمير. كم هُو جميلٌ أن أسمع منك! لقد طبعتُ مقالتك بالأمس وقرأتُها بدقة. يا إلهي. لقد قدَّمتَ عرضاً بليغاً لدراسة حالة مُمتازة في المآزق السياسيَّة. أشاركُك اهتماماتك الرئيسة، وفي نفس الوقت آملُ أن تصل الورقة إلى المكتب السياسي حتى تلقى الاهتمام الذي تستحقه. الآن بعد أن تركنا أُبَّهة واستعراض المُؤتمر القومي وراءنا، نحتاجُ إلى أن يُشارك الجميع في التنمية المُؤسسيَّة والسياسيَّة المُستدامة للحركة الشعبيَّة، من خلال معالجة نوع القضايا التي تثيرها وغيرها الكثير. يجب القيام بذلك إذا فكرنا في الحُصُول على موطئ قدم سياسي في الانتخابات المقبلة».

وفي اليوم التالي، 26 سبتمبر 2008، تلقيتُ رسالة إيميل أخرى من نيهال دينق قال فيها على حد تعبيره: «عزيزي واثق، كل ما يُمكنني قوله هو ببساطة أن أكرِّر موقفي السَّابق بأنني أتفقُ معك تماماً على أنَّ القضايا التي أثِرتَها علانيَّة ذات أهميَّة قُصوى. كما ألمحتُ لك عبر الهاتف، لا أتصوَّر أنَّ أياً منا، بغضِّ النظر عن خيبات الأمل، يمكنه التخلي عن النضال بشكلٍ دائم. أنت نفسك ألمَحتَ إلى تجربتي أنا وعبدالعزيز، وهي تجارب آملُ أن نستخلص الدُرُوس منها، خاصة وهناك رفاقٌ آخرون يواجهون مأزقاً مشابهاً. لديَّ قناعة شخصيَّة قويَّة، أنَّ الحركة ستُحرَمُ من الخدمة القيِّمة حقاً إذا توقف شخصٌ من عيارك عن مساهماته. لذلك، اسمح لي أن أضيف صوتي إلى بعض أولئك الذين ردُّوا على الورقة، من خلال المُوافقة على تحليلها واستنتاجاتها، ولكن أيضاً أحُثُّك (ربما ضمنياً وليس صراحةً) على أن تستمر في أن تكون جزءاً من الجَّهد العام المُستمر لمعالجة مشاكلنا في الحركة بشكلٍ مُرضٍ. ليس لديَّ أوهام بأنَّ ذلك سيكون “نزهة في الحديقة”، خاصة وأنَّ موقف بعض رفاقنا قد خضع لتحوُّلٍ جوهري. ومع ذلك، فهو جهدٌ يستحق بذله. فدائماً من الأفضل أن نحاول، وربما نفشل، بدلاً من عدم المُحاولة على الإطلاق. أخيراً، أتيحت لي الفرصة للتحدُّث مع ياسر، ويبدو أنه ربَّما يكون على اختلافٍ معك بقدر ما أنت مُختلِفٌ معه. لا أريدُ أن أشرح بالتفصيل ما قاله لي، يكفي أن أقول إنه يشعُرُ بأنه أَومأَ لك بفكرة ووعدت بالردِّ عليها ولكنك لم تفعل ذلك. آملُ أن تظهر فرصة أكثر ملائمة في المُستقبل القريب حتى يتسنَّى لنا نحن الثلاثة دراسة هذه القضايا معاً. أفضِّل هذا النقاش وجهاً لوجه بدلاً من تبادُل الاتهامات من مسافة بعيدة، لأنَّ ذلك ببساطة لا يخدم أي غرض. تحياتي الحارة. نيهال دينق».

أختِمُ بأنَّ الحوار، حول ما طرحته من قضايا تنظيميَّة، وقف عند ذلك الحد. فمرَّت الأيام ولم يطرأ أي تغيير في هذا الخُصُوص إلى أن تمَّ الاستفتاء على تقرير المصير، ومن ثمَّ استقلال جنوب السُّودان وإنشاء دولته الجديدة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.