رحْلتي مع مَنصُور خَالِدْ: الحلقة (39) الخروج من الذات لمُلاقاة الآخر! جون قرنق والبَحْثِ عن السَّلام والوحَدَّة
الواثق كمير [email protected]
طَربُّ وطُرفُّ في الخرطوم!
كُلَّ هذه الانشغالات المُتنوِّعة والمهام المُتعدِّدة لمنصور، التي طُفتُ عليها في الحلقات السَّابقة، على صعيد العمل السياسي في الحركة، وعلى مستوى الدَّولة، لم تُكبِحه من توفير وقتٍ للترويح عن النفس باللقاء مع الصَّحاب في جلسات السَّمر والغناء، أو دعواتٍ للغداء، والتي لم تكن تخلو من الطرائف. بعد وصولنا الخُرطوم مع وفد مقدِّمة الحركة الشعبيَّة، بعد سنواتٍ طويلة في المهجر، انهمرت علينا الدَّعوات من الأصدقاء والأقارب، والطامحين في خلق علاقاتٍ مع قيادات الحركة الشعبيَّة. إحدى هذه المناسبات، أنه بعد عودة منصور للخُرطوم، في الأسيوع الثالث من أبريل 2005، دعاه أحد رجال الأعمال، السيد على الكرين، إلى وليمة في رحلة نهاريَّة تغني خلالها المُطرِبة زبيدة الإنقاذ، ومعها المُطرب القلَّع عبدالحفيظ، على أن يصطحب معه من يشاء. وكان أيضاً من بين المدعوِّين الأصدقاء دينق ألور وياسر عرمان وقير شوانق. عرفتُ أمر هذا الحفل من الصديق وليد حامد، الذي كان منصور قد طلب منه أن يأتي معه، وطبعاً قصد وليد إغاظتي بأنَّ منصور دعاه هو، بينما لم يُقدِّم لي الدَّعوة. الطريف في الأمر، أنه بعد مرور فترة وجيزة دعاني منصور أن أُرافقه لحُضور حوليَّة الشيخ حسن الفاتح قريب الله (والذي توفاه الله بعد أقل من ستة أشهر بعد ذلك)، فردَّيتُ عليه مازحاً: «يا دكتور، يعني إنت تعزمني لـ“الحولية” وتحرمني من حفلة زبيدة الإنقاذ؟!».
ولوليد حامد قصَّة طريفة أخرى، هذه المرَّة طرفٌ فيها ياسر عرمان، وبالطبع كان منصور حاضراً فيها، بل وبطل القصة في نهايتها. فقبل الحُضُور إلى الخُرطوم بسنوات، في لقاءٍ جمع وليد وياسر، اختلفا في وجهات النظر حول موضوع بعينه، واحتدَّ النقاش بينهما في مساجلة وُديَّة ساخنة، لم يكُن لها أن تنتهي بتوافُق، وجدَ ياسر نفسه يختمها بسخرية قائلاً لوليد: «ياخي إنت ما ناقش حاجة، ولا حتى بتعرف من هو مبارك حسن بركات!». فضحك الحُضُور وانتهت “الشكلة” في وقتها. ومع ذلك، يبدو أنَّ وليد أخذ تحدٍّ عدم معرفته بالمطرب مبارك مأخذ الجَدِّ، حتى حانت له فرصة ذهبيَّة لم يتردَّد في استغلالها لـ“مكاواة” ياسر. كان وليد من هُواة الطرب وينظم حفلات صغيرة في منزله بحي الفيحاء، شرق النيل، يدعو لها الأصدقاء ويُحييها بالغناء فنانون مرموقون منهم، على سبيل المثال: على اللحو، زيدان إبراهيم، محمد ميرغني، عاطف عبدالحي، غادة حسن. وفي ذات مرَّة، وجَّه وليد الدعوة لحفلٍ في منزله لصحابه من “السهارى”، وكان منصور وياسر على رأس قائمة المدعوين، بدون أن يُفصِح لهم عمَّن سيكون مُطرِب الحفل. حضر الضيوف، وبمجرَّد دخولهم إلى المنزل، اكتشفوا أن المطرب هو مبارك حسن بركات “بلحمه وشحمه”، ما كان لياسر إلا أن يضحك (وهو نفسه فرِحٌ بأن يلتقي بمبارك كفاحاً)، فلا شكَّ أنه قد عرفَ شئياً عن صديقه وليد، هو أنه لم ينس استفزاز ياسر له قبل سنوات مضت لعدم عِلمه بالمُطرب المشهور! أمَّا “شلاقة” وليد فقد دفعته ليهمس لمنصور إن كان يرغب في سماع أغنية مُعيَّنه حتى يُبلغ مبارك بها، فقال له منصور: “إنت بس أمشي قول ليه منصور قال ليك غني، وهو حيعرف يغني شنو!”.. بدا لي يومئذ أنَّ ختام القصَّة كان مِسكاً بالنسبة لياسر، فاح بعد ردِّ منصور السَّاخر على وليد.
كما ذكرتُ في الحلقة (28)، أنَّ منصور كان يُحبُّ الإستماع للمطربة سميرة دُنيا، وهي صديقة مُشتركة، ضمن أُخريات وآخرين، ويستمتع بصوتها الرخيم وأدائها الهادئ لأغاني الحقيبة والتراث والأغنيات الحديثة. بعد وصولنا إلى الخُرطوم كانت سميرة تبادر، وتداوم على دعوتنا إلى منزلها الجميل، في حي المجاهدين جنوب الخرطوم، وبرفقتها أمهر العازفين “العوَّادة، عوض أحمودي”. كانت سميرة تغمُرنا بكرمها الفياض بداية من جلسة “البُن” بطقوسها التقليديَّة، نستنشق رائحة البن “المقلي” الطيِّبة. ومن جانب منصور، فهُو أيضاً كان يدعوها إلى مزرعته السَّاحرة في ضاحية الباقير، ويدعو لها صحابه من مُحبِّي أداء سميرة، وأذكُرُ منهم: د. علي فضل، ميرغني سليمان، أمير عبدالله خليل، محمد الأمين عبدالماجد. وكان منصور أيضاً يُلبِّي دعوات صديقه الفاتح خليل، الذي أيضاً يملِكُ مزرعة في سوبا، وهو رجُلٌ معروف بحُبه للطرب ويعرفه كل نُجُوم الوسط الفني. ففي أواخر عام 2010، دعا الفاتح منصور ومعه عدد من أصحابه: خالد مهدي، عبدالسلام صالح عيسى، عمر عبدالله، الطاهر مصطفي، صلاح الزبير، د. السر عبدالماجد، محمد علي المحسي، محمد الأمين عبدالماجد، ومن نجوم الفن: المُوسيقار بشير عبَّاس (ولبشير حُبٌ خاص لمنصور)، والعازفين الماهرين محمديَّة والحبر سليم، ومن المطربين: علي اللحو وسميرة دُنيا وعبَّاس تلودي وأبوبكر سيد أحمد. ولا يفوتني هُنا أن أذكُر أنَّ منصور في عشيَّة “عيد الحُب”، في 13 فبراير 2009، لم يكتفِ بالذهاب إلى نادي الضُبَّاط بالخُرطوم لحُضُور الحفل الثاني للبلابل، بعد التئام شملهِنَّ في الغناء عقب سنوات طويلة، بل لقي نفسه وهو “يُبشِّر” أمام خشبة المسرح مُعبِّراً عن استمتاعه ونشوته وطربه الطاغي.
كانت هذه السطور عن الطرب والطُرف بمثابة فاصلٍ حتى أعودُ في الحلقات القادمة لتناول محطاتٍ أخرى في مسربتي، ومشاركتي مع منصور في نشاطات الحركة. وذلك، ابتداءً من المُؤتمر القومي الثاني للحركة، الذي وصفته بمُؤتمر “الفرص الضائعة”، ولجنة إستراتيجيَّة الانتخابات، ومحاولات تحفيز الجنوبيين للتصويت لصالح الوحدة، ومن ثمَّ التواضُع على صيغة “الاعتماد المتبادل” لتنظيم وإدارة العلاقات مع دولة جنوب السُّودان، بعد أن أضحى الانفصال أمراً واقعاً.
المؤتمر القومي الثاني للحركة
بعد ضُغُوطٍ من الكوادر النشطة في الحركة الشعبيَّة لضرورة تشكيل مُؤسَّساتها التنفيذيَّة والتشريعيَّة، في سياق التحوُّل الحركة إلى تنظيم سياسي مفتوح، أخيراً استجابت قيادة الحركة بتكوينها لـ“اللجنة المنظمة للمؤتمر القومي الثاني”، التي دشَّنت أعمالها بالخُرطوم في 16 فبراير 2008. ففي 13 يناير 2008، أصدر الفريق سلفا كير رئيس الحركة الشعبية قراراً (رقم 03/2007) قضى بِتشكيل “لجنة تنظيم المؤتمر القومي الثاني للحركة الشعبية”، ضمَّت: جيمس واني إيقا، رئيساً للجنة، عبدالعزيز آدم الحلو، نائباً للرئيس، وعضوية كُل من: ربيكا نياندينق دي مبيور، مارك نيبوه، تعبان دينق قاي، الواثق كمير، كوم كوم قينق، أليسيو إيمور أُوجتك، جيما نونو كمبو، مارتن مجوك ياك. كما شملت عضويَّة اللجنة: 26 عضواً كممثلين للولايات الـ 25، ومنطقة أبيي، ستة أعضاء لتمثيل عضوية الحركة في المهجر، أي عضو آخر قد يتم اختياره من قبل اللجنة وفق شروط خاصة، إضافة إلى الأمين العام ونائبيه الاثنين، وأمين المالية كعضو بحُكم منصبه. أوكل القرار للجنة القيام بعدة مهام، من أهمِّها: إعداد وتنظيم المُؤتمر للعام للحركة الشعبية خلال الرُّبع الأول من عام 2008، على أن يُعقد في موعدٍ أقصاه مايو 2008، واقتراح آليات ومعايير المشاركة والتمثيل في المؤتمر على أساس برامج وأولويَّات الحركة. وبغرض تحقيق هذه المهام تمَّ إنشاء لجان فرعيَّة تقوم كُل واحدة منها بموضوع مُحدَّد وتقديم تقاريرها إلى اللجنة المنظمة ورئيسها. كان نصيبي من تقسيم العمل أن أكون رئيساً للجنة، ضمَّت في عُضويتها مدام ربيكا وتعيان دينق وكوم كوم (نائب في برلمان جنوب السُّودان)، وكُلِّفتُ بأمرين، أولهُما: تحديد برامج ونشاطات الحركة للمُؤتمر القومي، وثانيهما: اختيار شعار المُؤتمر.
في هذا الصَّدَد، كتبتُ ورقتين، واحدة عن البرامج المقترحة، والأخرى حول شعار المُؤتمر، أجازتهما اللجنة الفرعيَّة بعد نقاشٍ، ورفعت التقريرين إلى رئيس اللجنة المنظمة. اقترحنا أن يكون شعار المُؤتمر، الذي يُعبِّر عن مضمونه والسياق الذي ينعقد فيه، هو: “نحو بناء دولة المُواطنة السُّودانيَّة: التجديد التنظيمي وإدارة الانتقال”. وحدَّدنا البرامج والنشاطات الجديرة بالقيام بها من قبل الحركة، حتى انعقاد المُؤتمر القومي الثالث، لكي تتسق مع النتائج والمُقرَّرات المُرتقبة للمُؤتمر، مما لا يستدعي عرضها ونقاشها في جلساته. فالمُؤتمر يهدف إلى وضع أسُسٍ لبناء حركة قويَّة ومُوحَّدة ومتجدِّدة برُؤية واضحة، ترسم المسار وتحدد الاتجاه الصحيح، وتوضح البرامج والسياسات اللازمة لتحقيق الرُّؤية. باختصار، حركة قادرة على المُنافسة والفوز في الانتخابات المُقبلة! للمُفارقة، بسبب تدخُّلات السكرتاريَّة لم تر توصياتنا النور، ولم تُعِرها اللجنة المنظمة للمُؤتمر اهتماماً، فاتخذ شعار المؤتمر الذي تمَّ اختياره، “من الحرب إلى السلام”، طابعاً فضفاضاً. أما جُلَّ ما طرحناه من قضايا ضروريَّة يستدعي المُؤتمر البت فيها، فقد وُضِع جانباً ولم يتم نقاش في المُؤتمر حول أي قضيَّة أو موضوع، وحتى الوثيقتين الوحيدتين اللتين عُرضتا على المُؤتمرين، الرُّؤية والدُّستور، لم تخضعان للتداول. لذلك، أطلقت على المُؤتمر اسم “مؤتمر الفرص المُهدرة”، وهو أمرٌ سأتعرَّض له لاحقاً.
لم يكن منصور عضواً في اللجنة التنظيميَّة للمُؤتمر، والتي كانت بحُكم مهامها المتصلة بالإعداد والتنظيم قد لا تنسجم مع طبيعة الموضوعات التي يُسهِمُ فيها بفاعليَّة، كما أنَّ اللجنة لا تضُم إلا نفرٌ قليل من المكتب السياسي. ومع ذلك، لم يكن منصور بعيداً عن المُشاركة في الإعداد للمُؤتمر عبر مساهمته في لجنة فرعيَّة هامَّة. فقد تمَّ، تحت مظلة اللجنة المُنظمة للمُؤتمر، تكوين لجنة فرعيَّة، “لجنة المانيفستو”، ضمَّت في تشكيلتها: باقان أموم، الأمين العام للحركة، رئيساً، الواثق كمير نائباً للرئيس، وعضوية كُل من: د. منصور خالد، د. بيتر أدوك نيابا، أتيم قرنق دي كيك، د. شيرينو هايتنق، ربيكا نياندينق، بروف باري وانجي، د. سامسون كواجي، ماري نيولانق، الياس نيامليل واكسون، ود. أبَّكر آدم إسماعيل. دعا فاقان إلى أوَّل إجتماع للجنة في 30 مارس 2008، بمقر الحركة الشعبيَّة، شارع 33 العمارات، غاب عنه البعض ولكن كان منصور من ضمن الحاضرين. ناقش الاجتماع عدد من الموضوعات وفقاً لجدول أعمال، تضمَّنت: الخُطوط العريضة لجدول محتويات وثيقة المانيفستو، تحديد المواضيع الرئيسة والقضايا الأساس، تعريف وتفصيل رؤية السُّودان الجديد، صياغة خارطة طريق لتنفيذ الرُّؤية في الواقع، عامة نحو الرُّؤية، تحديد مجالات البحث وتعيين الخُبراء، وأعمال التحرير، وتجويد اللغة، والترجمة. وخرج الاجتماع بأن يُساهِم الأعضاء في تجميع الأفكار والاستراتيجيات الأساسيَّة، بالإضافة إلى جمع كل الببليوغرافيا ذات الصلة، ولا سيَّما: منيفستو الحركة الشعبيَّة، 1983، مُقرَّرات المُؤتمر القومي الأوَّل، 1994، وجميع خطابات رئيس الحركة الراحل.
في اجتماعين لاحقين للجنة، تمَّ الاتقاق على تعريف محتوى ومضمون المانيفستو، والإطار العام للوثيقة، بحيث تحتوي على مُثُل ومبادئ توجيهيَّة ورُؤية الحركة الشعبيَّة، وعلى المحتويات وفق النحو المُبيَّن في الإطار العام، وأنه ينبغي عدم الخلط بين المنيفستو وبين برنامج وسياسات للحركة. ومن ثمَّ، تمَّ تكوين “لجنة صياغة”، مُكوَّنة من 5 أعضاء، برئاستي، وعضوية: منصور خالد، وإلياس نيامليل، وبيار أدوك وأبَّكر آدم إسماعيل (والذي لم يُشارك إلا في اجتماع واحد فقط). وعليه، قُمتُ بإعداد إطار عمل للمنيفستو مستمداً من مناقشات جدول الأعمال المتفق عليه، وقدَّمته في اجتماعٍ خاص، حيث تمَّ إقراره، مع الاتفاق على العمل عليه لسدِّ الثغرات، وتكليفي بصياغة وعرض المسودة “صفر” على أعضاء اللجنة في 9 أبريل 2005. فرغتُ من صياغة المسودة “صفر” وأرفقتُها برسالة مقتضبة إلى كل الأعضاء، في 13 أبريل 2005، طالباً رد فِعل كُل منهم عليها. وفي الواقع، لم أكتف بتوزيعها على أعضاء اللجنة فحسب، طالباً ملاحظاتهم، بل أرسلتُها لعددٍ مُقدَّر من المهتمين وسط قيادات الحركة، وإلى أصدقاء آخرين لا صلة تنظيميَّة لهم مع الحركة، سعياً لمعرفة آرائهم ومدخلاتهم القيمة. ومن بين هؤلاء: نيهال دينق، جون قاي يوه، شيرينو هايتنق، بشير بندة، كوستي مانيبي، علي عبدالقادر علي، حيدر بدوي صادق، أمير إدريس، مي أمير، يُسري جبر، الهادي دياب، جمال زايد، بشير بكَّار، مابي بوسكو، الحاج ورَّاق. وفي نفس الوقت، عملتُ على ترجمة المسودة، المكتوبة باللغة الإنجليزيَّة، إلى العربيَّة، حتى لا نستثني قطاعات كبيرة ونحرم أعداداً كبيرة من عضويَّة الحركة من الإطلاع على مانيفستو التنظيم الذي ينتمون له. بعد اعتماد لجنة المنيفستو للمسودَّة المطروحة، تمَّ نقل النقاش حولها إلى مجلس التحرير القومي الانتقالي بغرض إجازتها، ثمَّ من بعدَ عُرِضَت على المُؤتمر القومي الثاني (15-20 مايو 2008). ما زال يوم 16 مايو2008 عالقاً بذِهني، فبعد أن قدَّمَّ فاقان أموم مشروع المنيفستو للمؤتمرين، فاجأني بمخاطبته لهُم بأنَّ الواثق كمير هو من قام بصياغة 85% من هذه الوثيقة، ولذا أطلُبُ منه أن يتقدَّم إلى المنصَّة للتعقيب. لم أكُن مستعداً، خاصة وأنها ستكون أوَّل مرَّة أخاطب فيها جُمهور تجاوز عدده الألف وخمسمائة، ولكن بتوفيق من عند الله نجحتُ في إرتجال كلمة مُقتضبة، مخلوطة باللغتين العربيَّة والإنجليزيَّة، وجَدَت صديً ولقيت استحساناً مُقدَّراً. عزفت موسيقى الجيش الشعبي وأجاز المُؤتمرون المانيفستو بالإجماع، وبحفاوة بالغة standing) ovation).
الرفيقات والرفاق
ليس لدى ما أضيفه على تقديم الرفيق فاقان لمانفيستو ورؤية الحركة الشعبية للسودان الجديد، ولن أطيل في الحديث لأسباب كثيرة على رأسها “إنو أنا ما بتاع كلام بل أنا بتاع كتابة”، وثانيا “لأني ما عاوز أتعرض لشتيمتكم ولو كانت بالسر!”، فقد عانيتم من الحر والتعب والزهج لأيام طويلة. لدى نقطتان فقط أود إضافتهما لهذا التقديم!
أولا: ما جعلني أن أكون معكم وبينكم هنا ليس بسبب قبيلة أو ولاية. إنها
رؤية الحركة الشعبية لتحرير السودان التي أوضحها لكم الرفيق باقان للتو: رؤية السودان الجديد وراء وجودي في هذه القاعة. أنا بلا عشيرة أو ولاية. فأنا أصلا “محسى” من أصول نوبية ولكن فقدت لساني النوبي خلال هجرات تاريخية طويلة لأهلي من أقاصي شمال السودان إلى وسط البلاد. فقد حضر جدي (حاج الخضر على كمير) إلى الخرطوم قبل الثورة المهدية في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وولد أبى في الخرطوم في عام 1908 وولدت أنا بالخرطوم في 15 ديسمبر 1950. وبالتالي، ليست لي قبيلة بعينها أشعر بالانتماء لها! فأنا أنتمي للسودان الجديد!
بالمناسبة ، بالنسبة للرفيقات في الحركة الشعبية، فإن لقب كمير هو كلمة نوبية وهو اسم جدتي. هذا يدل على مدى حساسيتي “الجندرية”!
كما لم تكن “ولاية” الخرطوم موجودة أصلا عندما أُجبرت على الهروب من المدينة في مايو من عام 1990، فالولاية ما هي إلا صنيعة “لنظام الإنقاذ” تم ترسيم حدودها الحالية في إطار الحكم الولائى الذي ابتدعه النظام في النصف الثاني من التسعينات. ولذا، لم أشعر أبدا بالانتماء لهذا الكيان المصنوع سياسيا!
الرفيقات والرفاق
الولاية هي مجرد وحدة إدارية تُرسم حدودها وتخضعُ للتغيير من وقت لآخر بما يتوافق إما مع أهواء السياسيين ومصالحهم الخاصة أو من أجل إدارة سياسية أفضل. ومع ذلك، فإن الدولة تُشكل الأساس للتعبير عن المخاوف المحلية التي من شأنها أن تُغذي في نهاية المطاف البرنامج القومي للحركة الشعبية. لذلك، لا ينبغي أن يحل الولاء للولاية أو القبيلة محل الالتزام والالتزام برؤية السودان الجديد، أو يحل محل الولاء للحركة. لا ينبغي أن ننظر إلى الأشجار وننسى الغابة!
الرفيقات والرفاق
النقطة الثانية، هي أن للحركة الشعبية تاريخٌ طويلٌ في كل أنحاء السودان يرجع إلى ما قبل توقيع اتفاقية السلام الشامل بسنوات عديدة، بما في ذلك الشمال الجغرافي ووسط البلاد، لا يكمن اختزاله في جنوب السودان فحسب، سواء كان على صعيد الكفاح المسلح أو العمل السياسي، كما يردد المُروجون وأصحاب الغرض. فإن تحدث الرفيق فاقان بالأمس عن قدامى المحاربين فهناك أيضا قدامى المناضلين! فقد انفعلت قطاعات واسعة من الشماليين بخطاب الحركة الشعبية عن الوحدة والسودان الجديد، رغم قلة مصادره والاعتماد على بث إذاعة الحركة من بيانات وأحاديث للزعيم الراحل، وجد استجابة ملحوظة وسط المثقفين، خاصة، وعلى غير العادة، كونه صادر من حركة “جنوبية” المنشأ! وتفاعلا مع هذه الدعوة الجديدة ورغبة في معرفة ماهيتها وكنهها، بادرت مجموعة من المهنيين والنقابيين الديمقراطيين بالسفر إلى أديس أبابا في ديسمبر 1986 والتقت بقيادات من الحركة الشعبية في اجتماع تاريخي مطول امتد حتى الساعات الأولى من الصباح، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر!، وعلى رأسهم الراحل د. جون قرنق، والشهداء: كاربينو كوانين بول، أروك تون ومارتن مانجيل، والرفيق دينق ألور الموجود معنا في هذه القاعة!! وتم الاتفاق بعد عدة اجتماعات لاحقة على مواصلة الحوار على أن تقوم هذه المجموعة بعد توسيع عضويتها بالتعريف برؤية السودان الجديد والسعي نحو تحقيق سلام عادل. وقد مهد هذا اللقاء وما تبعه من نقاشات إلى عقد ندوة “أمبو” الشهيرة بإثيوبيا في فبراير 1989 لاستشراف مستقبل السودان والتي خرجت بإعلان دعي كل القوى الديمقراطية والمحبة للسلام للالتفاف حول برنامج موحد يوقف الحرب ويعمل على ترسيخ الاستقرار والسلام مفتاحه المؤتمر الدستوري الذي أجمعت عليه كل القوى السياسية السودانية. وقد كان لإعلان أمبو تأثيرا ملحوظا على الواقع السياسي حينذاك وأحدث حراكا سياسيا ساعد بشدة في نشر وتداول رؤية السودان الجديد لدى قطاعات كبيرة، ممهدا بذلك لقبول شعبي للحركة في أعقاب توقيع اتفاقية السلام الشامل. وأنضم عدد مقدر من المشاركين في الندوة للحركة وانخرط بعضهم في الكفاح المسلح، أذكر منهم الرفاق: الهادي تنجور، كمندان جمعة، د. محمد يوسف المصطفى والرفيقة فاطمة مرجان (زوجة الرفيق مالك عقار).
فلابد من الاعتراف والاحتفاء بهذا التاريخ واعتباره جزءا من تاريخ تطور الحركة الشعبية في البلاد.
الرفيقات والرفاق
دعونا نكون “سودانيين جدد” ونتجاوز كل الأُسس البدائية الضيقة للهوية! ولنسمو فوق انتماءاتنا الضيقة سواء كانت قبلية أو ولائية، ولنتمسك برؤية السودان الجديد!” شكراً. السودان الجديد ويي يي”.