بيان جماهيري من الحزب الشيوعي السوداني
اتفاقية سلام جوبا بصورتها الراهنة لن تحقق السلام المنشود وتعتبر مهدد حقيقي لوحدة ومستقبل السودان وهي ليست اتفاقية شاملة أو نهائية كما تدعي أطرافها.
الأزمة السياسية التي تعيشها بلادنا هي نتاج للتركة المثقلة من المظالم والمشاكل التي ظلت عالقة دون حل منصف منذ خروج الاستعمار قبل أكثر من أربع وستون عام. وذلك بسبب سياسات النخب العسكرية والمدنية التي احتكرت السلطة في اطار ما عرف بالحلقة الشريرة التي سمحت لهذه النخب بتبادل الأدوار من أجل السيطرة على موارد البلاد وعلى مصالحها الطبقية الضيقة المرتبطة بدوائر الرأسمالية العالمية على حساب مصالح شعب السودان.
هذا الواقع كان سبباً مباشراً لبروز حركات وتنظيمات عبرت عن مظالم مناطق واسعة في كل أنحاء البلاد وبصورة خاصة في دارفور وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق، حيث تطورت الأوضاع إلى المواجهات المسلحة بين بعض سكان هذه المناطق والحكومة المركزية في الخرطوم قادت هذه المظالم في آخر المطاف إلى انفصال جنوب السودان.
رغم ثورة الشعب وشعاراته “حرية سلام وعدالة” لا يزال سكان مناطق النزاعات المسلحة يعانون من ويلات الحروب التي نتج عنها نزوح الملايين من قراهم وموت مئات الآلاف منهم خلال حرق وتدمير القرى ونهب الممتلكات واستخدام الاغتصاب كسلاح حرب بصورة ممنهجة وعلى نطاق واسع معيدة للأذهان انتهاكات جرائم الإبادة الجماعية.
شكلت هذه الانتهاكات جرائم الابادة الجماعية، جرائم الحرب وجرائم ضد الانسانية. في اطار سياسات الحكومة البائدة التي اختارت واعتمدت على الخيار العسكري لمواصلة التظلمات التاريخية بدلاً عن الاعتراف بها والعمل على معالجتها بطريقة تتسم بتقدير المسؤولية واحترام كرامة المواطنين السودانيين ومطالبهم المشروعة والعادلة.
لقد ظل موقف حزبنا المبدئي والمعلن من خلال وثائقه وفي منابره المختلفة واضحاً ومعلوماً والذي ظل يؤكد بأن الخيار العسكري لن يفلح أبداً في معالجة مسألة القوميات ويؤدي إلى تفاقم الأزمة العامة وتهديد وحدة الوطن وأنه لا سبيل للخروج من هذا الوضع المتأزم إلا بالحوار المسؤول في ظل وضع ديمقراطي حقيقي يتيح لجميع السودانيين المشاركة في مناقشة هذه القضايا وأسبابها وجذورها والوصول إلى حلول تجد القبول من جماهير الشعب، بعيداً عن وصاية النخب سواء كان ذلك في المركز أو الأقاليم. رفضنا الحلول المجزأة لهذه الأزمة الوطنية التي أكدت كل التجارب السابقة أنها لن تحقق السلام المنشود.
ما جرى ولا يزال يجري في مفاوضات جوبا هو تكرار للتجارب السابقة الثنائية والحلول الجزئية التي تنتهي بمحاصصات ومناصب للمفاوضين على حساب القضية والتي خبرها شعبنا في ظل النظام البائد وهو نهج فاشل ساهم في إطالة معاناة ضحايا مناطق النزاعات. ولا سيما أن أطراف هذه الاتفاقية تتكون من نفس جماعات الهبوط الناعم التي التقت بنائب رئيس النظام المخلوع لشؤون التنظيم فيصل حسن إبراهيم في أديس أبابا والذي أكد بعد عودته قبيل اندلاع ثورة ديسمبر أن هذه المجموعة عبرت وأكدت على دعمها للنظام السابق واستعدادها للمشاركة في انتخابات 2020م لتوسيع قاعدة حكم الدكتاتور المخلوع عن طريق المحاصصات السياسية. وليس خافياً أن أطراف الاتفاقية عبرت لاحقاً بعد نجاح الثورة عن دعمها ومساندتها للمجلس العسكري الانتقالي الذي يعتبر امتداداً لنظام البشير، واعتبرت أن أعضاءه شركاء في الثورة. لذلك ليس من المستغرب اتفاق هذه الأطراف في خرق بنود الوثيقة الدستورية التي نتج عنها اختطاف المكون العسكري لملف المفاوضات، متجاوزاً بذلك صلاحيات المفوضية المعنية بعملية السلام بهدف ابعاد القوى السياسية وأصحاب الشأن في عملية السلام من بينهم ضحايا الحروب ومنظمات المجتمع المدني. وقد تم كل ذلك بتأثيرات تدخلات القوى الأجنبية التي بذلت جهوداً ملحوظة في وضع العراقيل أمام استمرار الثورة السودانية ومنع تنفيذ مطالب الجماهير المضمنة في الوثائق التي تم التوقيع عليها من قبل قوى الحرية والتغيير. وبغرض الحفاظ على مصالحها في نهب موارد بلادنا وثرواته المختلفة في باطن الأرض والاستيلاء على الأراضي والمراعي من خلال الابقاء على الاتفاقيات المجحفة التي أبرمت في عهد المخلوع عمر البشير وبغرض إبقاء السودان في المحاور التي لا تخدم مصالح الجماهير.
لقد بات جلياً أن هنالك مصالح اقتصادية مشتركة تربط بين أطراف اتفاقية جوبا والتي لا يمكن الحفاظ عليها إلا عن طريق وجودهم في مواقع مؤثرة في مفاصل السلطة الانتقالية التي تضمن لهم الحفاظ على الثروات التي تراكمت في أيدي بعض قياداتها والتي نتجت من استثمارات شركات القوات النظامية والأمنية وباحتكار تجارة الذهب ومن المضاربات المالية خاصة في مجال بيع وشراء الدولار ومن عائدات الصادر ومن مختلف مجالات التجارة في ظل الاعفاءات الجمركية والتهرب من الضرائب وفي غياب المراجعة القانونية لأنشطة هذه المؤسسات المالية. يضاف إلى كل ذلك الأموال التي تدفعها دول أجنبية نظير مشاركة قوات تتبع لبعض قيادات هذه الأطراف في الحروب الدائرة في اليمن وليبيا.
وللحفاظ على هذه المصالح سعت أطراف هذه الاتفاقية لفرض واقع سياسي جديد يتيح لها الالتفاف على الفترة الانتقالية وإجهاضها مبكراً من مهامها المضمنة في الوثائق المختلفة، خاصة تلك المرتبطة بانعقاد المؤتمر الدستوري الذي سيتيح الفرصة للسودانيين لمناقشة القضايا العالقة، وفي سبيل ذلك عمدت أطراف الاتفاقية على مناقشة قضايا قومية ذات أهمية بالغة ترتبط برسم مستقبل السودان ووحدته دون تفويض من الجماهير؛ في اطار خطة مسبقة لإفراغ المؤتمر الدستوري من مضمونه ومحتواه وخلق حاضنة جديدة للحكومة المرتقبة بعد ضمان سيطرتهم على هياكل السلطة الانتقالية، ومن المتوقع أن تشهد الوثيقة الدستورية تعديلات جوهرية ومؤثرة تهدف إلى تكريس المحاصصات المتفق عليها بين هذه الأطراف.
لكل هذه الأسباب فإن اتفاقية جوبا بصورتها الراهنة لن تحقق السلام المنشود؛ بل على العكس من ذلك فإنها سوف تخلق توترات ونزاعات جديدة بين سكان مناطق الحروب وكذلك سكان المناطق الأخرى في السودان التي أدرجت قضاياها ضمن قائمة مسارات منبر جوبا. فهناك حركات لم تنضم أصلاً لمنبر جوبا كما توجد حركات تم استبعادها من التفاوض بحسب الشكاوى التي صدرت عنها يضاف إلى كل ذلك غياب قطاعات واسعة من المتضررين وضحايا الانتهاكات الواسعة على يد النظام البائد.
اتفاقية جوبا تشكل نسخة أخرى من سيطرة النخب الجديدة على مقاليد الحكم في بلادنا من خلال ممارسة الوصاية على سكان مناطق الحروب وغيرها من المناطق الأخرى. وهي اتفاقية تفتقر إلى التفويض الكافي ولا تعبر عن سكان المناطق المختلفة وتطلعاتهم في الاستقرار والأمن وممارسة حياتهم الطبيعية وتحقيق العدالة بتسليم منتهكي حقوقهم في الحياة إلى محكمة الجنايات الدولية في لاهاي.
أطراف مفاوضات جوبا تسعى للتشبث بالسلطة شأنهم في ذلك شأن المخلوع عمر البشير الذي استمر في استخدام كرسي الحكم لحماية نفسه من المساءلة والمحاكمة والقصاص وينطبق هذا على بعض الأفراد في أطراف اتفاقية جوبا ولهذا السبب تم الاتفاق على تمديد الفترة الانتقالية والسماح لأنفسهم بالترشح لمواقع السلطة بعد انتهاء الفترة الانتقالية في مخالفة واضحة لنصوص الوثيقة الدستورية التي لا تسمح لهم بالترشح مرة أخرى لشغل أي منصب قيادي في هياكل السلطة القادمة.
نطالب جماهير شعبنا باستعادة دورها من خلال تطوير مبادراتها في الاعتصامات السلمية وتقديم المذكرات وتنظيم الاحتجاجات والاصرار على تنفيذ المطالب الصادرة في مواثيق الثورة لمنع اختطافها وإجهاضها من قبل الرأسمالية الطفيلية ومن أعوان النظام الدكتاتوري المباد ولمنع فلول النظام السابق من العودة مرة أخرى إلى السلطة عبر بوابة اتفاقية جوبا للسلام التي تفتقر إلى السند الجماهيري المطلوب وهي اتفاقية ستقود إلى خلق توترات ونزاعات جديدة في المناطق التي ترفض فكرة وصاية أطراف هذه الاتفاقية على مجتمعاتهم بما في ذلك البند الخاص بحماية السكان المدنيين بواسطة المليشيات القبلية حتى لا تعود الأوضاع في بلادنا إلى المربع الأول، والتي كانت محفوفة بالعديد من المخاطر وعلى رأسها التفريط في السيادة الوطنية وانعدام سيادة حكم القانون واستشراء ثقافة الإفلات من العقوبة، والذي انعكس في عدم الاستقرار السياسي لفترة امتدت لأكثر من نصف قرن من الزمان.
المكتب السياسي
الحزب الشيوعي السوداني
1 أكتوبر 2020