رِحْلتي مع مَنصُور خَالِدْ: الحلقة (37) الخروج من الذات لمُلاقاة الآخر! جون قرنق والبَحْثِ عن السَّلام والوحَدَّة

الواثق كمير [email protected]

 

مع منصور: التفاعل وتبادل الآراء!

بالرَّغم من مشَّاغل وانشّغالات منصور، التي طُفتُ عليها في الحلقات السابقة، إلَّا أنه منذ أن حطَّينا الرِّحال في الخُرطوم في أيريل 2005، كان دوماً متجاوباً ومنفعلاً بتبادُل الأفكار، شفاهةً وكتابةً، حول قضايا البلاد ومواقف الحركة الشعبيَّة. بدأتُ حينئذٍ في كتابة مذكرات داخليَّة للحركة ونشر سلسلةٍ من المقالات حول رُؤية “السُّودان الجديد” وتطوُّر الحركة الشعبيَّة، وما كنتُ أكتبُ مذكرة أو أبعثُ بمقالٍ للنشر إلا بعد تلمُّس انطباع منصور ورأيه طمعاً في مُلاحظته على المعنى والمبنى والشكل. فكما نوَّهتُ في الحلقة (33)، شاركتُ في “المؤتمر العام لاتحاد الكتاب السُّودانيين”، 19 سبتمبر 2006، بتقديم ورقة بعنوان “السُّودان الجديد: نحو بناء دولة المُواطنة السُّودانيَّة”. قام السيد الإمام الصَّادق المهدي بالتعقيب عليها في مقالٍ نشرته صحيفة ‘أخبار اليوم’ في عددها الصَّادر بتاريخ 22 سبتمبر 2006. في الرَّدِّ على تعقيب السيِّد المهدي كتبتُ ورقة بعنوان “الصَّادق المهدي: من يدعو للاستقطاب؟” نُشرت في صحيفة ‘الصحافة’، في 5 مقالات متوالية، في الأسبوع الأوَّل من ديسمبر 2006. لم يكُن منصور بعيداً من هذا السِّجال، بل أفاض فيه بإسهابٍ بمُداخلة مُطوَّلة توزَّعت على عدة حلقات من سلسلة مقالات منصور، التي أشرتُّ إليها في الحلقة (33)، التي بدأت صحيفة ‘الرأي العام’ نشرها في مطلع فيراير 2007.

من جانب منصور، فقد كان أيضاً يُشركُني، ضمن آخرين بالطبع، في كُلِّ ما يكتبه منذ أن بدأت نشاطاتنا في أديس أبابا، ومن ثمَّ في نيروبي والقاهرة، بل ويطلُبُ الملاحظات والتصحيحات. فكانت سكرتارية مكتبه تُرسلُ لي في الإيميل، فمنصور لا يتعامل مباشرة مع هذه التطبيقات التقنيَّة، مُسودَّات مقالته الخمس وعشرين للمُراجعة والتعليق، قبل أن يبعث بها للصحيفة (نشر منصور هذه المقالات لاحقاً في كتاب بعنوان “تكاثر الزعازع وتناقص الأوتاد: حول قضايا التغيير السياسي ومشكلات الحرب والسلام في السودان”، دار مدارك للنشر، 2010، الخرطوم). ذلك، إلى جانب أنَّ منصور طلب مني أكثر من مرَّة، منذ أن كُنا في أديس أبابا في متتصف عام 1990، أن أُشارك في عدد من المُنتديات التى يُدعى لها، عندما تكون له ارتباطات أخرى تمنعه من المُشاركة، أذكُرُ منها مناسبتين. أولاهُما: أنه في 21 أغسطس 2009، تمَّ إبلاغي من مكتب منصور بأنه في نيروبي ويودُّ الحديث معي بصفة عاجلة. وبالفعل، اتصل منصور تلفونياً وطلب مني بأن أُشارك نيابة عنه في ورشة عمل تشاوريَّة مُصغَّرة ينظمها “مجلس تطوير البحوث الاجتماعية في أفريقيا CODESRIA” حول العملية السياسيَّة الجارية في السُّودان وبلوغ ذُروتها في انتخابات 2010، في 29-30 أغسطس 2009. لم أتمكَّن من المُشاركة المُباشرة، بسبب ضيق الوقت، ولكني ساهمتُ بمُداخلة مكتوبة إلى بروفيسور محمود ممداني، مُنسِّق الورشة، الذي تراسلتُّ معه بعد أن حوَّل لي منصور خطاب الدعوة للمُشاركة في الورشة. وثاني المناسبتين، في نوفمبر 2009، حوَّل لي منصور دعوة وصلته من “معهد الدراسات الأمنية” في بريتوريا، للمُشاركة في ورشة لـ“بناء السيناريوهات”، التي سيعقِدُها المعهد، بالشراكة مع “لجنة تسيير”، مُكوَّنة من إبراهيم غندور (المؤتمر الوطني)، وسوزان جامبو (الحركة الشعبيَّة)، مع شُركاء آخرين، في 24-27 نوفمبر 2009.

طلب منصور مني أن أذهب إلى بريتوريا والمُشاركة في الورشة بدلاً عنه، ولو أنني لم أتمكَّن من السَّفر بسبب ظروفٍ طارئة، ومع ذلك، أرسلتُ لهُم مداخلة مكتوبة حول تصوُّري لسيناريوهات تطوُّر الرُّؤية والحركة، والبلاد مُقبلة على مرحلة مِفصليَّة في تاريخها الحديث. قُمتُّ لاحقاً بتطوير المساهمة إلى ورقة كاملة نُشِرت في عدد من الصُّحُف والمواقع، (الواثق كمير، “دعوة للحوار مع النفس: الحركة الشعبيَّة والعودة إلى منصة التأسيس!”، ‘سودانايل’، 24 ديسمبر 2009). فالسيناريو الرَّئيس هو تشكُّل وحدة البلاد على “أسُسٍ جديدة”، حجر الزاوية لرؤية السُّودان الجديد، إن تحققت “الوحدة الجاذبة”، الذي ظلَّ مفهوماً يحُفه الغُموض. فإن لم يتحقق السُّودان الجَّديد، فالسيناريوهات البديلة تشمل مختلف أشكال ودرجات ممارسة حق تقرير المصير، وتتراوح بين درجاتٍ من الاستقلال والحُكم الذاتي، بما في ذلك الترتيبات الفدراليَّة والكونفدراليَّة، أو تقسيم وتشظى البلاد، على الطرف النقيض. بمعنى آخر، من المُمكن الاتفاق على درجة من “الانفصال” بحيث يكون كل كيانٍ قائمٌ بذاته، في حين تتم الدعوة إلى التعايُش السِّلمي والتعاوُن المُتبادل. وإذا كان هذا هو السيناريو الذي حققته نتائج الاستفتاء عبر تقرير المصير، الذي عكس بجلاء رغبة الجنوبيين في الانفصال وإقامة دولتهم المُستقلة. إذن، فالمطلب المُلحُّ في الوقت الرَّاهن، خاصة بعد استضافة ورعاية جوبا لمفاوضات السَّلام ونجاح الوساطة الجنوبيَّة في التوصُّل لاتفاقيَّة سلامٍ، هو ضرورة السَّعي والمثابرة في الدعوة إلى التعايُش السِّلمي والتعاوُن المُتبادل (سأتعرَّض في حلقاتٍ قادمة عن “الاعتماد المُتبادل” بين الشمال والجنوب، وما بذله منصور من جُهد في هذا المسعى).

شهدت فترة العامين الأوَّلين من عُمر الفترة الانتقاليَّة قدرٌ ملحوظ من التشاكُس والتنافُر بين شريكي الحُكم، وصلت حدَّ مقاطعة وزراء الحركة الشعبيَّة للحكومة الاتحاديَّة، ممَّا جعل المُهتمين والمهمومين يُشفقون على مستقبل البلاد. أكثر ما كان يشغل الأذهان يومئذٍ، وتدور حوله النقاشات والتعليقات، هو موضوع “الوحدة الجاذبة”، التي تُقرِّر نتيجة الاستفتاء على تقرير المصير. أصبح هذا المفهوم أكثر شيوعاً بين الكُتَّاب والمُعلقين الطامحين إلى وحدة البلاد، وكذلك أولئك الذين يُروِّجون لتقسيم البلاد، سواءً بشكلٍ صريح أو ضمني. حفَّزني ذلك الوضع لكتابة مذكرة مفاهيميَّة مقتضبة لإثارة الحوار حول مفهوم الوحدة الجاذبة، اخترتُ أن أتداولها أولاً مع د. منصور وعبدالعزيز الحلو، قبل أن أعمل على تطويرها ونشرها (وبالفعل، هذا ما حدث لاحقاً). قصدتُ إشراك عبدالعزيز في الفكرة، والذي كان حينئذٍ في أمريكا، بحُكم معرفتي باهتمامه بهذا الموضوع، خاصة وأنه لم يكن مُرتاحاً لصيغة “دولة واحدة بنظامين”، ولا لوضع المنطقتين في اتفاقيَّة السَّلام الشامل.
جوهر أطروحة مذكرتي المفاهيميَّة أنه من المهم بمكان التفريق بين “الشُروط الضروريَّة”، من جهة و“الشُروط الكافية”، من جهة أخرى، للوحدة الجاذبة، بحيث يُصوِّت الجنوبيون لصالح خيار الوحدة. فقد لاحظتُ أنَّ معظم التحليلات والتعليقات التي تناولت موضوع “الوحدة الجاذبة”، تركز على، وتولي اهتماما كبيراً، للإجابة على السؤال التالي: “ما الذى يجب فعله حتى يُصوِّت الجنوبيون لصالح الوحدة في الاستفتاء المُرتقب؟”. ودوماً ما تكون الإجابة سهلة وجاهزة: فالتنفيذ الأمين لاتفاقية السَّلام الشامل نصاً وروحاً، لا بُدَّ وأن يقود إلى التصويت بـ“نعم” للوحدة! وهكذا، يقوم الافتراض بأنَّ احترام وتنفيذ الاتفاقيَّة بحذافيرها، هو وحده الكفيل بترغيب الجنوبيين في الوحدة (منصور خالد، صحيفة ‘الرأى العام’ السودانية، 16/01/2007). ولكن استناداً على رؤية جون قرنق حول “الوحدة على أسُسٍ جديدة”، واستلهاماً لها ، فإنَّ السُّؤال ينبغي أن لا يكون: “ما الذى يجعل الوحدة جاذبة للجنوبيين؟”، بل يجب إعادة صياغة السُّؤال ليكون: “ماهي هذه الوحدة التى نتحدَّث عنها، وماهي مُكوِّنات أجزائها ودعائمها الأساسيَّة؟”.

في الواقع، لا يختلف أحدٌ على أنَّ التنفيذ الحقيقي لبُنود اتفاقيَّة السَّلام الشامل يُشكِّل “الشروط الضرورية” المُحفِّزة لإقناع الجنوبيين بالتصويت لصالح الوحدة. ومع ذلك، فإنَّ الوحدة الجاذبة كان تعبيراً صاغه وسطاء عمليَّة السَّلام في محاولة للتغلُّب على مأزق مفاوضات نيفاشا حول العلاقة بين الدِّين والدولة، ولا سيَّما بعد رفض حُكومة السُّودان اقتراح الاتحاد الكونفدرالي، والذي ظلت الحركة الشعبيَّة تدفع به إلى طاولة المُفاوضات منذ محادثات أبوجا في عام 1993. فالعلاقة بين الدولة والدين (أو الدين والسياسة) تشكل مُكوناً رئيسياً وركيزة أساسية لمفهوم الرَّاحل قرنق لوحدة السودان “على أسُسٍ جديدة”. وبحُكم منطق المُفاوضات، تمَّ اعتماد اقتراح نموذج “دولة واحدة بنظامين”، بهدف إعطاء فرصة للشريكين وبقيَّة القُوى السياسيَّة السُّودانيَّة، أثناء الفترة المُؤقتة المُمتدَّة، لإعادة التفكير في كيفيَّة الحفاظ على وحدة البلاد.

أغفل الدَّارسون والمُعلقون على “الوحدة الجاذبة” قضيَّتين هامَّتين، لهُما صلة وثيقة بالموضوع. أولى القضايا، هي تلك المُتصلة بحُقوق المُواطنة، المُجسَّدة في، والتى يقوم عليها مفهوم “الوحدة على أسُس جديدة”، وتشكل حزمة متكاملة من العناصر غير قابلة للتجزئة والإصطفاء وانتقاء البعض منها، أو اختزالها دون اعتبار لعلاقتها العُضويَّة ببقيَّة العناصر، وتفاعُلها مع بعضها البعض. فهل سيُصوِّت الجنوبيون لوحدة على أساس ديمومة الترتيبات المُؤقتة لاتفاقيَّة السَّلام الشامل فقط؟ ألا يضُر خُضُوع الجنوبيين من غير المُسلمين، لقوانين الشريعة في الشمال، بينما يتم تطبيق قوانين غير دينيَّة في الجنوب (حتى للمُسلمين)، بالمُساواة بين مواطني الدولة نفسها أمام القانون؟ بعبارة أخرى، لن تكتمل وحدة البلد إلا من خلال تجاوُز، أو التغلب على “الترتيبات الانتقاليَّة” لاتفاقية السَّلام، أي نموذج “دولة واحدة بنظامين”. هذا ما أُطلق عليه “الشروط الكافية” التي تجعل الوحدة خياراً مفضَّلاً على خيار الانفصال.

القضية الثانية، والتى أغفلها المُحللون والكتاب، وتدور حول “الوحدة الجاذبة”، هي: ما هو دور القُوى السياسيَّة المختلفة، بما في ذلك الحركة الشعبيَّة، خصوصاً دُعاة الوحدة في شمال السُّودان، في تحقيق هذه الشُروط “الضرورية” للوحدة، أي تجاوز النظام القانوني المُزدوج، الذي ينطوي عليه نموذج “الدولة الواحدة بنظامين”، خلال الفترة الانتقاليَّة المُطوَّلة؟ فاتفاقيَّة السَّلام الشامل، وإلى حدٍ كبير، هي نتاجٌ لضغوطٍ ووساطة دوليَّة، وتحتوي على العديد من الآليات والتي قُصِدَ منها ضمان، ومراقبة تنفيذ بنود الإتفاقيَّة. ولكن، يظلَّ تجاوز هذا النظام القانوني المُزدوج، مسئوليَّة وطنيَّة وقوميَّة جسيمة تقع، وبالدرجة الأولى، على عاتق كل القوى السياسيَّة والاجتماعيَّة السُّودانيَّة، إن كانت هذه القُوى حريصة على وحدة البلاد واستدامتها.

خلال الأسبوع الأوَّل من مارس 2007، تحدَّث مع منصور عبر الهاتف قبل أن أبعث له بمُسودَّة المذكرة المفاهيميَّة، “الشروط الضروريَّة والكافية لجعل الوحدة جاذبة”، طالباً ملاحظاته، وأنني سأشرك عبدالعزيز الحلو في الحوار حولها. ركَّز منصور في تعليقه على نقطتين: أولاً، في رأي منصور أنَّ تطبيق الشريعة في الشمال قد لا يمنع الجنوبيين من التصويت لصالح الوحدة، ممَّا يُضعف حجَّة وجوب تجاوز نموذج “دولة واحدة بنظامين”، باعتباره الشرط “الكافي” لضمان هذا التصويت. وذلك، لأنَّ الشريعة تخص “الحدود” فقط (الخمر، والسرقة، والزنا، إلخ)، في حين أنَّ جميع القوانين المتبقية هي في الواقع علمانيَّة! وبالتالي، فإنَّ الشريعة ليست سوى نافذة وعمليَّة “نفعيَّة سياسيَّة” يستخدمها حزب المُؤتمر الوطني، ومُشايعوه من الإسلاموين، لإرضاء جُمهوره، من جهة، وترهيب المُعارضين المُسلمين، والسُّودانيين بشكل عام، من جهة أخرى. لذلك، فإنَّ ما هو مهم حقاً وينبغي التأكيد عليه، ليس هذه القوانين، بل حُقوق المُواطنة التي منحتها اتفاقيَّة السَّلام الشامل للجنوبيين، مثل الحق في تولي أعلى منصب، بما في ذلك الرئاسة، بغضِّ النظر عن الدين. ثانياً، إذا رغبت القُوى السياسيَّة الشماليَّة، يمكن إلغاء هذه القوانين، وفقاً لبُنود اتفاقيَّة السَّلام الشامل، واستبدالها بتشريعاتٍ علمانيَّة بعد الانتخابات العامَّة المُقرَّر إجراؤها في نهاية النصف الثاني من الفترة الانتقاليَّة. وإذا لم يفعلوا ذلك، ففقد انتهى الأمر.

النقطتان اللتان طرحهُما منصور تثيران مجموعة من الأسئلة والقضايا، فكتبتُ إليه ورقة، من 2300 كلمة، في 23 مارس 2007، لابتدار النقاش وإثراء الحوار حول هذه الأسئلة والقضايا. استعرض في الحلقة القادمة هذه الأسئلة والقضايا التي أثارها منصور، وردي عليها.

تعليق 1
  1. Hassan baker Kokomo meadi يقول

    احد علماء السودان الشرفاء نحو سودان جديد يسع الجميع

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.