رِحْلتي مع مَنصُور خَالِدْ: الحلقة (32) الخروج من الذات لملاقاة الآخر! جون قرنق والبَحْثِ عن السَّلام والوحَدَّة
الواثق كمير [email protected]
أزمة قيادة الحركة!
قبل نهاية عام 2005، تم الإنتهاء من مهمة لجنة العشرة في إكمال ترشيحات الحركة الشعبية للمجالس التشريعية والحكومات الولائية في شمال السودان، وفي المجلس الوطني، إضافة إلى اكتمال تشكيل حكومة الوحدة الوطنية الاتحادية، وأجهزة الحكم في جنوب السودان. ومن جانب آخر، شرعت قيادات قطاعي الجنوب والشمال في العمل لترتيب الهياكل التنظيمية وصياغة اللوائح، في انتظار عقد المؤتمر القومي الثاني لإجازة منيفستو الحركة واعتماد دستورها الذي يحدد مؤسسات الحركة واختصاصات كُلٍّ منها، وتعريف العلاقة التنظيمية بينها. ومع ذلك، مضى أكثر من عام ولم تلتفت قيادة الحركة لموضوع عقد المؤتمر، كما شهدت تلك الفكرة صراعات مكتومة وسافرة بين هذه القيادات حول توجه الرئيس سلفاكير، خاصة في شأن العلاقة بين شريكي الحكم، الحركة والمؤتمر الوطني، وهل هي “شراكة”، من أجل تتفيذ اتفاقية السلام الشامل، أم “تحالف”؟ فعلى سبيل المثال، ظلت الحركة الشعبية دوماً حريصة على التفاعل وخلق صلات مع مختلف القوى السياسية والإجتماعية في الشمال، منذ بداية النصف الثاني من الثمانيات (كوكادام، أديس أبابا، نيروبي، أسمر، القاهرة).
حملَّ رئيس قطاع الشمال، عبد العزيز الحلو نفس التصور، حين توليه للمنصب، إذ كان رأييه أن تقيم عضوية الحركة في النقابات تحالفات مع كافة القوى الديمقراطية في الانتخابات النقابية. ففي أتون المعركة التنافسية في انتخابات الاتحاد العام للمحامين في نهاية النصف الثاني من عام 2005، كان الفريق عبد العزيز يساند موقف المحاميين المنتسبين للحركة الشعبية في تحالفهم مع، ودعمهم لقائمة التجمع الوطني الديمقراطي. قوبل موقفه هذا بهجوم عنيف من قبل القيادات المتنفذة في اللحركة الشعبية يومئذ. ففي اجتماع مشهود لقيادات الحركة الشعبية بالخرطوم، انتقد القيادان تيلار دينق، وزير الدولة برئاسة الجمهوريه، وأليو أيني، وزير الدولة بالداخلية، توجه رئيس قطاع الشمال انتقادا عنيفا وبأقسى العبارات. وفي أعقاب تلك الحادثة، غادر الفريق عبد العزيز الخرطوم مغاضبا إلي الولايات المتحدة الأمريكية. كما غادر أيضاً ياسر عرمان، رئيس لجنة الإعلام بالمجلس الوطني، إلى أمريكا لأسباب قد تكون مشايهة، ولم يعُد إلى البلاد إلا في منتصف يوليو 2007.
دفعتني هذه الصراعات لكتابة مُذكرةً بعنوان “أزمة قيادة”، في 12 يوليو 2006، أشركتُّ فيها د. منصور بالطبع، والذي ناقش معي مضمون فكرتها ولم يبخلُّ على بأي معلومة مفيدة أو ملاحظة أضعها في الإعتبار. ولعل ما جعل منصور متجاوباً مع ما طرحته من هواجس، هو توضيحي له أن ما استفزني أكثر لكتابة المُذكرة ما قالته ليَّ هيلدا جونسون في معرض وصفها لحالة الحوكمة البائسة في جنوب أن “الحركة الشعبية قد خسرت قضيتها في الشمال”، عند لقائي بها بتونس في منتصف عام 2006 (كانت حينئذ مستشاراً لرئيس بنك التنمية الأفريقي لشئون الدول “الهشة”). هيلدا جونسون كانت وزيرة التنمية الدولية في النرويج، ولعبت بهذه الصفة دوراً مُقدراً في عملية السلام حتى التوصل لاتفاقية السلام الشامل في 2005، وأصبحت لاحقاً المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في جنوب السودان (2011-2014)، ولديها علاقات جيدة مع الرئيس سلفاكير وكل النافذين في حكومته. ولم تخف هيلدا تشجيعها لإنفصال الجنوب إذ كاتت ترى أن الجنوبيين مُجمِعين على إنشاء دولتهم المستقلة، وأن على المجتمع الدولي أن يقوم بواجبه في دعم عملية ولادة ومساندة الدولة الجديدة.
غني عن البيان أن تطبيق اتفاق السلام الشامل لا يمكن أن يتحقق في غياب حركة قوية ومتماسكة. ففي سياق الانتقال من الحرب إلى السلام تتعرض الحركة الشعبية إلى ثلاثة تحديات رئيسة من التحولات، أولهما: التحول من حركة سياسية-عسكرية إلى حركة سياسية خالصة، وثانيهما: التحول من حركة ذات قاعدة إثنية-إقليمية إلى حركة قومية من ناحية شمول العضوية وانتشارها، وثالثهما: التحول من حركة في المعارضة إلى حزب حاكم في الجنوب وشريك في الحكم الفدرالي والولائى. تظلُّ إدارة هذه التحولات بشكل فعال ، مهمة شاقة واحدة ، من بين مهام أخرى كثيرة ، تتمثل في بناء الحركة في جميع أنحاء البلاد وجعلها مسؤولة عن تعبئة الجماهير وتشكيل مؤسستها التشريعية لمراقبة أداء السلطة التنفيذية. جوهر المشكلة في الحركة الشعبية هو الافتقار إلى المؤسسات والهياكل والآليات المناسبة والملائمة، والضرورية لإبقاء الحركة موحدة ولديها القدرة على التوفيق بين، واستيعاب جهات النظر المتباينة داخلها، وتوفير الأساس لاتخاذ القرارات العقلانية والقابلة للتنفيذ.
وإدراكًا لهذا الوضع ، نجحت جهود الكادر الأساسي للحركة، ود. منصور بصفته المستشار السياسي لرئيس الحركة، في اقناعه بتشكيل مكتب سياسي انتقالي ومجلس تنفيذي، وتعيين أمين عام، ونائبين له لقطاعي الجنوب والشمال، والأمانات العامة. فبالإشارة إلى قرار الزعيم الراحل للحركة الشعبية، رقم 1 في يوليو 2005، الذي قضى بِحلِّ مجلس قيادة الحركة، أصدر رئيس الحركة، الفريق سلفاكير ميارديت، قراراً في العشرين من فبراير 2006، بإعادة تشكيل وتوسيع مجلس القيادة ليكون بمثابة مكتب سياسي انتقالي ومجلس تتفيذي قومي. تم تكوين المكتب السياسي من 23 عضواً، من بينهم د. منصور وياسر فقط من “شمال” السودان، ومالك عقار وعبد العزيز الحلو كمُمثلين للمنطقتين. بينما تشكلَّ المجلس التنفيذي القومي بإضافة 34 عضواً للمكتب السياسي لِتُصبح عضويته الكامبة 57 عضواً، وظل تمثيل الشمال محصوراً في منصور وياسر، مع إضافة رمضان شُمَّيلة إلى ممثلي المنطقتين. ومن ناحية أخرى، أصدر رئيس الحركة قراراً في 6 أبريل تعيين فاقان أموم أميناً عاماً، وناطقاً رسمياً، للحركة، ولوكا منوجا نائباً للأمين العام لقطاع الجنوب، وعبد العزيز الحلو نائباً للأمين العام لقطاع الشمال، على أن يُكلف ياسر عرمان بالمهمة لحين عودة الحلو من الخارج.
لقيَّ قرار تكوين المؤسستين، والأمانة العامة، هذا ترحيباً واسعاً، وكان مصدرُّ ابتهاجٍ بين صفوف كوادر الحركة الشعبية وأنصارها بشكل عام. ومع ذلك، سرعان ما تبددت هذه الفرحة وحلت مكانها خيبة الأمل والإحباط، وذلك لعدة أسباب. فأولا، لم ينعقد المكتب السياسي لفترة طويلة، بل ظل معطلاً، جامداً وعاجزاً، بينما لم يجتمع المجلس التنفيذي ولم تتِّمُّ إعادة هيكلته كما تم الاتفاق عليه في اجتماع المكتب السياسي الأول، والأخير. ثانياً، تعثرت عملية التحضير للمؤتمر القومي الثاني للحركة الشعبية لتحرير السودان، وبالتالي تعطلت عملية إنشاء هياكل دائمة وانتخاب القيادة. ثالثاً، محاطًا بنفرٍّ قليل من الأشخاص في السلطة التنفيذية، أصبح الوصول إلى رئيس الحركة من قبل قيادات الحركة وأصحاب المناصب الدستورية مهمة صعبة ، إن لم تكن مستحيلة. وأضحت القرارات الرئيسية والحاسمة تتخذها هذه الزمرةُّ التي تحوم حول رئيس الحركة، بالإضافة إلى تعيين الأهل والأقارب غير المؤهلين وفاقدي الموهبة في المناصب الرئيسية.وفي الواقع، إذا كان الزعيم الراحل قد قضى على “المجلس التنفيذي القومي” للحركة، وذلك من خلال إنشاء مجلس القيادة (غير المنصوص عليه في دستور الحركة المُجاز في المؤتمر القومي الأول، أبريل 1994)، على حد تعبير سلفا في اجتماع رُمبيك، فإنه الآن قد قتل المؤسسات التي صدرت بمرسومٍ وقعه هو بنفسه. وإن كان زعيم الحركة الراحل يحمل الحركة في حقيبته كلما ذهب للخارج ، كما زعم الرئيس الحالي، فإن سلفا نفسه يقفل في خزنة حتى لو كان في الخرطوم وجوبا ، بينما يسلم المفتاح إلى الطفيليين وحلفائهم في المؤتمرالوطني.
ختمت مُذكرة “أزمة قيادة” بطلبٍ من منصور أن يستخدم مساعيه الحميدة (مع غيره من المهمومين وأصحاب النفوذ)، خاصة وأنه قد احتفظ بموقعه الإستشاري لرئيس الحركة، لاقناع رئيس الحركة، سلفاكير، ليقوم بتفعيل المكتب السياسي والمجلس التنفيذي، والمؤسسات التي أصدر أمرَّ تشكيلها بنفسه. ذلك، مع تذكيره بأنه لا يستطيع التغاضي عن نفس الممارسات التي وجه بسببها انتقادات حادة لزعيم الحركة الراحل، في اجتماع رومبيك. وعلى رئيس الحركة أن يُدركّ بأن الدعم الثابت الذي قدمه له الكادر الأساسي للحركة حينما اشتبك مع الزعيم الراحل في اجتماع رُمبيك، ومباركة خلافته للقيادة بالإجماع لاحقاً، لا ينبغي أن لا يترك أي مجال في ذهنه للشك وعدم الثقة في الرفاق من حوله. حقاً، فإن إصراره على عزل الكادر الأساس في الحركة باتباع أهواء الخصوم والمتطفلين هو القشة الأخيرة التي قد تثير السخط وتُشعل الصراع في نهاية المطاف. وهذا هو السيناريو الذي حدث بعد انفصال جنوب السودان وفي سياق عملية بناء الدولة المستقلة الجديدة.
تطور مؤسسات وهياكل الحركة
لا شكَّ أن تكوين المؤسسات التنفيذية والتشريعية في الحركة الشعبية قد مثلَّ أكبر تحديٍ لقيادة الحركة، إذ ارتبطت طبيعة تلك المؤسسات بهيمنة الجيش الشعبي على سلطة اتخاذ القرار خلال سنوات طويلة من الحرب. من المهم هنا أن أستعرض باختصار التطور التاريخي لآليات وهياكل اتخاذ القرار في الحركة الشعبية منذ بدايات التأسيس الأولى، حينما تم تشكيل أول جسم قيادى تحت مُسمى “اللجنة التنفيذية العليا” من خمسة أشخاص، برئاسة القاضي مارتن ميجور وجوزيف اودهو، مع اسناد مسؤلية الجناح العسكري للعقيد د. جون قرنق دي مبيور. الخلافات الداخلية الممتدة في كابينة القيادة، خاصة حول من الذي يتولى رئلسة الحركة، قادت في نهاية المطاف إلى حلِّ اللجنة التنفيذية، مما دفع د. جون قرنق للمضي قدما في تأسيس “القيادة السياسية – العسكرية العليا” للحركة من خمسة أعضاء: العقيد د. جون قرنق: رئيساً، اللواء كاربينو كوانين: نائباً للرئيس، اللواء وليم نيون باني: رئيساً لهيئة الأركان، الرائد سلفاكير ميارديت: قائداً للأمن، والرائد أروك تون أروك: نائباً لرئيس هيئة الأركان. نسبة لغياب الأُطر الواضحة لآلية رفع التقارير، أصبحت عملية صنع القرار، والهيكلة التنظيمية، ومنظومة رفع إلى المستويات الأعلى في الهرم القيادي، تثير تساؤلات ومطالب قيادات الجيش الشعبي بمزيد من الصلاحيات والمشاركة في اتخاذ القرار. استجابت قيادة الحركة لهذه المطالب وذلك بتوسيع القيادة السياسية و العسكرية العليا باضافة 12 ضابطاً كأعضاء غير دائميين (مُناوبين). وبالرغم توسيع آلية صنع القرار وتحديد الصلاحيات والسلطات، إلا أن هذه الاصلاحات قُوبلت بأصوات متشككة من بعض القيادات مما فاقم من الصراع على سلطة قيادة الحركة، وقاد إلى انقسامها في أغسطس 1991.
دعا انقسام الحركة، تحت قيادة جون قرنق، لعقد مؤتمرها العام الأول في أبريل 1994، والذي أصدر عدة قرارات لإعادة هيكلة الحركة تنظيمياً، على رأسها إعلان ميلاد السودان الجديد الذي تضم أراضيه: المديريات الجنوبية السابقة الثلاث، إضافة لمنطقتي جنوب كردفان والنيا الأزرق. وكان القرار الثاني هو إنشاء “مجلس التحرير القومي”، والذي تشكلت غالبية عضويته من الجنوبيين وضباط الجيش الشعبي، مع منح المنطقتين 13% فقط من عضوية المجلس، ولم يكن لشمال السودان أي وجود غير ممثلين اثنين فقط لما عُرفَّ بغموض “المناطق الواقعة خلف خطوط العدو”. أما القرار الثالث فقضى بتكوين المجلس التنفيذي القومي” من 21 عضواً، من بينهم الرئيس ونائبه إضافة إلى 19 سكرتيراً تنفيذياً، للقيام بتنفيذ سياسات وبرامج الحركة وإدارة والتكليف بإدارة السودان الجديد. هكذا، لطبيعة الحركة العسكرية لم يكن هناك تمثيل للشمال في المكتب القيادي، وحتى د. منصور لم يكن عضواً فيه، بالرغم من أنه المستشار السياسي لرئيس الحركة الشعبية. فلم يصل أي قيادي في الحركة من شمال السودان، الوسط النيلي، إلى المكتب القيادي في الحركة إلا بعد اتفاقية السلام الشامل، فتم تعيين د. منصور وياسر عرمان، وشخصي (قبل انعقاد المؤتمر القومي الثاني للحركة في مايو 2008، بينما بقي منصور، وياسر، عضوين فيه حتى نهاية الفترة الانتقالية في 2011). بالطبع، ذلك إضافة إلى عبد العزيز الحلو ومالك عقار كمُمثلين لجنوب كردفان والنيل الأزرق.