رِحْلتي مع مَنصُور خَالِدْ: الحلقة (30) الخروج من الذات لملاقاة الآخر! جون قرنق والبَحْثِ عن السَّلام والوحَدَّة

الواثق كمير [email protected]

 

لجنة العشرة: اختيار مرشحي الحركة!

أعقب قرار تنظيم الحركة في قطاعين، قرارٌ آخر أصدره رئيس الحركة الشعبيَّة، جون قرنق دي مبيور، قضى بتشكيل لجنة من 10 أشخاص، سار عليها اسم “لجنة العشرة”، أُوكلت رئاستها للدكتور منصور خالد، وهو “كبير القوم”، أي أَعْلاَهُمْ مَقَاماً، وأَرْفَعُهُمْ شَأْناً، بلا مُنازِع. وكما نوَّهتُ في الحلقة السابقة، فقد كان جناح منصور بالهيلتون، منذ أن حلَّ فيه بنهاية أبريل 2005، هو قِبلتنا ومكان حواراتنا، فتحوَّل إلى مقر اجتماعات “لجنة العشرة”. كُنتُ ضمن العشرة المُختارين، أمَّا الباقون فهُم: عبدالعزيز آدم الحلو، محمد يوسف أحمد المصطفى، أغستينو مدوت، رمضان حسن نمر، دينق قوج، ملونق مجوك، كيجي رومان، أويل ميون. وكان الهدف الرئيس المُكلفة اللجنة بتحقيقه هو اختيار مرشَّحين من “العُضويَّة” لملئ المقاعد المُخصَّصة للحركة الشعبيَّة في الجهازين التنفيذي والتشريعي على المستوى الولائي. فبحُكم نصوص بروتوكول تقاسُم السُّلطة، من “اتفاقيَّة السَّلام الشامل”، للحركة الشعبية 28% من مقاعد المجلس التشريعي القومي والجهاز التنفيذي، و10% في المجالس التشريعيَّة والحكومات الولائيَّة، بحيث يكون للحركة وزيرٌ في كل ولاية، ومُمثلين بنسبة الـ 10% للمجلس التشريعي، يختلف عددُهُم بحسب عدد أعضاء المجلس الولائي. وبرئاسة منصور، لعددٍ من اجتماعات لجنة العشرة، تمَّ الاتفاق على خُطة عمل اللجنة لكي تحقق هدفها المُحدَّد، وذلك بتوزيع أعضائها، كُل عضوين، أو ثلاثة، في مجموعة، بطريقة تسمح بتغطية الولايات الثماني العشر، على أن تكون كل مجموعة مسئولة عن عدد من الولايات. وبالطبع، لم تكن هُناك وسيلة لتحديد معايير موضوعيَّة يتم بها اختيار المُرشَّحين لهذه المواقع الشاغرة، غير عبر المُقابلات الشخصيَّة غير الرَّسميَّة والحوار مع، وطرح الأسئلة على المُرشَّح/المُرشَّحة. ومن الضَّروري أن أُبيِّن لاحقاً الإطار العام الذي نشأت وعملت اللجنة في سياقة، خاصة الصِّراع على قيادة “الكيان الجديد”، وهو في قيد الميلاد، وما أفرزته التجربة من نتائج وتداعيات على التطوُّر المستقبلي للحركة الشعبيَّة في الشمال. إضافة إلى ذلك، سأتعرَّضُ لتجربتي الخاصة في اللجنة، إذ أُوكِلَ لِيَ، برفقة كومرد د. كيجي رومان، مهمَّة اختيار مُرشَّحي الحركة في ولايتي نهر النيل والشماليَّة، إضافة للمُشاركة في مجموعة الاختيار لولاية الخُرطوم، حيث استدعت المُهمَّة، بحُكم طبيعة الولاية، تنوُّع وتوسيع عضوية المجموعة.

على الرغم من أنَّ الهدف العام لبعثة المُقدِّمة هو “تسريع عملية تنفيذ اتفاق السلام الشامل”، إلا أنَّ أحد الأهداف الأساسيَّة المُحدَّدة كان هو “تعزيز وتأسيس وجود فعَّال للحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان في جميع أنحاء السُّودان”. خضع هذا الهدف، إلى جانب الأهداف المُحدَّدة الأخرى والأنشطة المقترحة اللازمة لتحقيقها، لمُداولاتٍ مُطوَّلة ومكثفة في الجلسات العامَّة وجلسات مجموعات العمل في ورشة عمل “نيوسايت” (27-29 مارس، مارس 2005)، التي أشرتُ إليها في الحلقة السَّابقة. ومع ذلك، فقد جرت جميع المناقشات حول هذه القضيَّة على خلفيَّة “متلازمة الفصائل” في الحركة الشعبيَّة والانقسامات الناتجة داخل مكاتب الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان المُنشأة حديثاً في الخُرطوم. فقد بعث رئيس الحركة الشعبيَّة بوفد مُقدِّمة الخُرطوم في أوَّل نوفمبر- ديسمبر 2004، عندما بات التوقيع على اتفاقية السَّلام الشامل وشيكاً، برئاسة القائد باقان أموم، والقائد ياسر عرمان نائباً له. اختلف القائدان في الرُّؤية وتنازعا على أسلوب تأسيس الحركة الشعبيَّة في سياق انتقالها إلى العمل السياسي المدني، حتى أصبح لكُلٍ منهُما مجموعة تقف خلفه. انشغلت أذهان المُشاركين في ورشة العمل بالصِّراع السَّافر بين المجموعتين، والعواقب الوخيمة التي قد تترتب على تحقيق مهام الوفد إذا لم يتم حلَّ هذا النزاع قبل المغادرة إلى الخُرطوم. لذلك، شكَّل رئيس الحركة لجنة خاصة برئاسة الأمين العام للحركة “جيمس واني إيقا” للتحقيق في الأمر، بهدف تقديم المشورة بشأن طرق ووسائل معالجة هذا النزاع. تمكَّنت اللجنة من تسوية المشكلة أخيرًا وتمَّ إبلاغ توصياتها إلى الجلسة العامة النهائيَّة لورشة العمل، واعتمدها الدكتور جون قرنق رئيس الحركة، بعد أن دعا قرار اللجنة إلى إعادة هيكلة وإعادة تنظيم مكتبي الفصيلين في مكتبٍ واحد يتبع التوجيهات التنظيميَّة للحركة الشعبيَّة بموجب تفويض من الأمين العام.

من الضروري أن نلاحظ أنه في ظِلِّ هذه الخلفيَّة، لم تتناول الجلسات العامة لورشة العمل ولا مناقشات مجموعات العمل بأي وسيلة من الوسائل القضيَّة الجوهريَّة المُتمثلة في تحويل الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان إلى قُوَّة سياسيَّة وطنيَّة رائدة شاملة بعد انتهاء مرحلة الكفاح المسلح، فلم يكن تشخيص إملاءات “عملية التحوُّل السياسي” في قلب المناقشة التي تلت ذلك. وبينما ظلت مسألة هذا التحوُّل المُرتقب كامنة في أذهان المُشاركين في الورشة، إلا أنها لم تُطرح في ضُوء النهار من أجل تأمُّلاتٍ ومناقشاتٍ جادَّة، بل تمَّت مخاطبتها ومعالجتها، في أفضل الأحوال، بطريقة مُبتسرة ومجزَّأة وليس كقضيَّة أساسيَّة لمجابهتها وجهاً لوجه.

إنَّ حل “متلازمة الفصائل”، بواسطة لجنة جيمس واني، وما تبعه من قرار إعادة هيكلة مكاتب الحركة في الخُرطوم، قد خدش فقط سطح التحدِّي الأكبر على الإطلاق، الذي تواجهه، وهو تنظيم ومَأسَسَة الحركة الشعبيَّة هيكلياً كحركة سياسيَّة قوميَّة. فقد أدَّى التوقيع على اتفاق السَّلام الشامل إلى دخول الحركة الشعبيَّة/الجيش الشعبي (وبنفس القدر، كل السُّودان) إلى جُمهُوريتها الثانية، مع ما قد يُصاحب ذلك من جُمهُور جديد، يستدعي تشكيل سياسي ومُؤسسي، وهياكل، وأدوات، وسياسات، وعمليات، ومواقف، أيضاً جديدة. وفي سياق الانتقال من الحرب إلى السَّلام، واجهت الحركة مسار تحوُّلٍ حاسم ثلاثي الأبعاد: التحوُّل من عسكري/سياسي إلى سياسي خالص، من حركة ذات قاعدة إثنيَّة – إقليميَّة إلى حركة قوميَّة من ناحية شُمُول العُضويَّة وانتشارها، ومن المعارضة إلى حزب حاكم في الجنوب والشراكة في الحُكم الفيدرالي والولائي في شمال السودان. حقاً، فعلى حدِّ تعبير الرَّاحل د. جون قرنق فإنَّ «اتفاقية السلام الشامل تمكن الحركة الشعبية لتحرير السودان من تأكيد شخصيتها القوميَّة وتوسيع نشاطها وعُضويَّتها في كل أنحاء السُّودان. فالحركة سوف تدعم وجودها في جنوب السُّودان، حيث تستحوذ على 70% من السُّلطة، ولديها 45% من السلطة في جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق، كما ستشارك في السُّلطة بنسبة 10% في كل الولايات الشمالية الأخرى. ومع تدعيم وجود الحركة في جنوب السُّودان وتوسيع عُضويتها وتدعيم نشاطها في جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق والولايات الشماليَّة الأخرى، فإن كل ذلك يُدلل على طاقات كامنة للحركة تُؤهلها لأن تُصبح حزب الأغلبيَّة في الانتخابات القوميَّة القادمة وعلى كافة المستويات المحلية والولائيَّة والقوميَّة». ولكن، في نهاية المطاف، لم تأتِ السُّفُن بما كان يشتهي الزعيم الرَّاحل، فلم تتحقق آماله في إنشاء حركة سياسيَّة للسُّودان الجديد ككُل، ولم يُوفق قادة الحركة من بعده في بناء حركة شعبيَّة قويَّة، لا في جنوب ولا في شمال البلاد.

على كُلَّ حال، أعددنا العُدَّة للسَّفر، أنا ود. كيجي، فكُنا في صباح يوم 28 يونيو 2005، على ظهر لاندكروزر، خُصِّص لنا على نفقة الحركة الشعبيَّة، صوب عطبرة حاضرة ولاية نهر النيل. ما ذكرتُ في أوَّل هذه الحلقة، أنَّ رحلتنا إلى ولايتي نهر النيل والشماليَّة كانت في إطار المهمَّة التي كلفتنا “لجنة العشرة” برئاسة منصور، لتقديم ترشيحات الحركة الشعبيَّة لشغل حصَّتها من المواقع التنفيذيَّة والتشريعيَّة المُخصَّصة لها بموجب “اتفاقيَّة السَّلام الشامل”. شرعنا فور وصولنا إلى عطبرة عصر نفس اليوم في مقابلة المُتقدمين لملئ هذه المقاعد، من مسئول الحركة في الولاية، ياسر العوض. أكملنا المُقابلات مع جميع المُتقدِّمين في اليوم التالي، بعد أن تقاسمنا العمل أنا ورفيقتي كيجي، وقرَّرنا السَّفر في أوَّل الظهر من يوم السبت 30 يوليو 2005، إلى محطتنا التالية في مروي، الولاية الشماليَّة، على أن ننتقل منها إلى الدبَّة ودُنقُلا. كان أمامنا خياران للسَّفر، إمَّا الرجوع للخُرطوم ومن ثمَّ نأخذ طريق التحدِّي الغربي من أمدرمان، أو نعبُر النيل غرباً عن طريق بنطون عطبرة – الفاضلاب، إلى مروى، في رحلة تستغرق خمس ساعات ونيف. قرَّرنا أن نتبع الخيار الثاني، الذي استدعي أن نستعين بـ“مُرشد” متخصِّص يُوجِّه سائق اللاندكروزر ليشُق صحراء رمليَّة جرداء، انقطع خلالها اتصالنا من العالم من حولنا طيلة هذه الساعات.

خبر صاعق: رحيل الزعيم!

وأنا غارقٌ في التأمُّل على المقعد الخلفي للاندكروزر، وتجلس بجواري كيجي رومان، التي أطلقتُّ عليها لقب “الشاعرة الواعدة”، بعد أن انقطع الحديث بيني وبين السائق والمُرشد على المقعدين الأماميين، بينما كيجى مُنشغلة بمسودَّة ديوان أشعارها باللغة العربيَّة، طاف بي الخيال وأرجعني إلى زمن بعيد. وذلك، بالتحديد في فبراير 1987 أسعدني الحظ بلقاء د. جون لأوَّل مرَّة وجلستُ معه ضمن آخرين لأكثر من أربع ساعات متواصلة، امتدَّت حتى السَّاعات الأولى من صباح اليوم التالي (تعرَّضتُ لهذا الاجتماع في الحلقة الرَّابعة). وأنا في رحلة استغراقي هذه، تساقطت عليَّ، وتناثرت من حوالي أوراق الذاكرة المُبعثرة، وفجأة قفز خاطرٌ إلى ذهني بدون استئذانٍ أو أتوقع، وبسرعة مُذهلة، وبهمس صوتٌ داخلي، جعلني أهتز “ماذا لو مات جون قرنق؟!”، فانقبض صدري وارتبكتُ، حتى خشيتُ أن يلاحظ “الرِّفاق” اضطرابي، وتعوَّذتُ بشدَّة لطرد هذا الخاطر بكُلِّ ما تملَّكتُ من قُوَّة، وقرأتُ من القرآن آيات وآيات! وكأنَّ ذلك لا يكفي لاستعادة توازُني والإمساك بزمام أمري! شرعتُ بركاكة بادية في محاولة يائسة لفتح “قنوات الحوار” مجددَّاً مع كيجي، والصَّادق (السائق) وعبدالشافي (المرشد)، واللذان سبق وأن أعلنا انضمامهما للحركة، فالعشم حينها كان كبيراً فيها! ويبدو أن ذلك الخاطر المُزعج لم يكُن عابراً، بل كانت تعبيراً عن “رُؤيا” كُتب لها أن تتحقق، وإن استطعتُ أن أطرُد الخاطر مُؤقتاً! وفوق ذلك كله، وإن كان لا بُدَّ للرُّؤيا أن تتحقق، فقد تحوَّلت إلى واقع بسرعة خاطفة لم تترُك مجالاً لالتقاط الأنفاس أو تدبُّر الأمور.

لم يمضِ وقتٌ طويل حتى بدأت لنا حبَّات ضوء يشع منها “نورٌ” خافت مُبشِّرة بقُرب وصولنا إلى مروى، فهي مدينة – في عُرف السُّودانيين – تتمتعُ ببعض إمدادٍ كهربائي! وفى رد فعلٍ عفوي وفوري، امتدَّت الأيادي في كل اتجاه تبحث عن “الموبايل” وكأننا نتحسَّس طريقنا إلى عالم تعوَّدنا عليه وعلى تقنياته وابتعدنا عنه ليس لساعات فقط، بل لقُرونٍ من الزمان. ومع نهايات رحلة مُضنية وسط رمالٍ كئيبة، لم تساعد برودة التكييف أن تخفف من وطأتها الثقيلة على النفس، قفز سؤالٌ من أفواهنا الأربعة، يكاد أن يكون في وقتٍ واحد، تفوَّهنا به بصوت عالٍ، ولو كلٌ بأسلوبه، “في شبكة؟”.. فكُلٌ – على هواه – كان يتوق إلى مُحادثةٍ تُشعِرُ المرء بالعودة لحياة مألوفة ومعهودة، وإلى سماع صوت يُؤكد على صحَّة هذه العودة، وأنها ليست بمجرَّد خيال! أوَّل “رنة” للمحمول بعد خمس ساعات وما يزيد كانت من د. محمد يوسف أحمد المُصطفى “ود يوسف العربي” ووزيرُ الدولة للعمل، من حصة الحركة الشعبيَّة، ولكنه من القليلين ممَّن ظلَّ منافحاً عن قضايا ما فتأت الحركة الشعبيَّة تصدح بها صباح مساء، حتى أصبحنا مُشفقين عليه من عواقب أفعاله قبل أن تكتمل “حلاوة” الكامري وبابها “البفتحه السوَّاق”، ويذكر عامة الناس بالأبواب التي تفتح عندما تطأ قدمك مجال السينسور في المطارات أو البنايات الضخمة، والتي قد لا يتيسَّر المرور من خلالها إلا للمحظوظين من العباد! وجاء صوت “ود يوسف” فاتراً حاملاً خبراً، أعاد، حتى قبل أن ينتهي من سرد تفاصيله، ذلك الخاطر المُزعج الذي ظننتُ أنه عابر، فانقبض صدري وتسارعت دقات قلبي وصرتُ على هذا الحال طوال الليلة التي قضيناها بمروي دون أن يغمض لنا جفن أو يهدأ لنا بال، حتى تأكد الخبر المشئوم وتحققت الرُّؤيا ومات جون قرنق، وأضحت الدُّنيا غير تلك الدُّنيا التي عرفتُها بالأمس، فكانت “رنة” موبايل لها ما بعدها، حَمَلت لنا ما لم يكُن في حُسبان أحد!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.