رحْلتي مع مَنصُور خَالِدْ: الحلقة (27) الخروج من الذات لملاقاة الآخر! جون قرنق والبَحْثِ عن السَّلام والوحَدَّة

الواثق كمير [email protected]

 

منصور: عاشِّقُّ الفنِّ والطرَّب
مشروع المائة أغنية الخالدة

تعرفَّ منصور على الأستاذ الراحل علي المك عن طريق صديقه عبد العزيز داؤود الذي كان يشيع الطرب بين الصحاب. وقد أحبَّ منصور علي المك منذ لقائه الأول به، واصفاً له بأن أضحى “خير خليل وأنبل خدين”. ويعدُّ ذلك “مكسباً كبيراً للمرء في بلد يتعثر فيه الإنسان كل صباح بق م فارغين لا يتحلون بأدب، أو يتحفلون بعلم، أو يشيعون بين الناس مسرة”. هذه العلاقة بين منصور وعلي أثمرت عن فكرة لم يترددا في الشروع في تنفيذها وإن لم يتمكنا من إكمالها، حتى بعد وفاة علي المك في عام 1992، ولكن ثابر منصور في النصف الأخير من التسعيتات على إحياء المشروع والمضي قُدماً في إنجازها. أصل الفكرة هو السعي لجمع ما سمًّاه “المائة أغنية الخالدة” من أغاني الحقيبة، بالرغم من أن منصور كان يرى في أن رقم المائة تعسفُّ لأن انتقاء تلك الأغاني كان وفق معايير ذاتية من جانبهم. تم أبو داؤود بتسجيل الكثير من الأغاني برفقة صنوه برعي محمد دفع الله، والتي يصفهما منصور بأنه “عندما يُستطرب الرجلان يلتقي صوت صيدح بوتر نَغوم”. ذلك، بجانب أن علي المك قام أيضاً، بالتعاون مع الفنان الراحل حسين مأمون شريف، بالتسجيل بالصوت والصورة لبعض أغاني أبو داؤود، والتي يقول منصور أن السيدة شامة الصديق (أرملة حسين) آثرت وضع هذه التسجيلات في حرز أمين. في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي، وأنا شاهد على ذلك في القاهرة، راودت منصور من جديد فكرة إعادة إحياء مشروع تسجيل المائة أغنية الخالدة.

كان أول من اختاره منصور للمساهمة في هذه التسجيلات هو الأستاذ أحمد الفرجوني، الذي كان حسن عطية يقول له عنه “إن أقرب صوت من أصوات المؤدين المعاصرين لصوت كرومة هو صوت الفرجوني”. ففي منتصف مايو 1998، اجتمع منصور، في فندق شيراتون بالقاهرة، مع الفرجوني والفنانين عاصم البنا وحسين شندي وقدم لهما شرحاً وافياً للفكرة وتناقش معهما على الإخراج وكيفية التنفيذ، وأبلغهما أن الأستاذ صلاح ادرس سيتكفل بالتمويل الأولي حتى ينهض المشروع بنفسه لإكمال الإنتاج. وبالرغم من أن منصور أشار إلى فكرة المائة الخالدة في “شذرات من، وهوامش على سيرة ذاتية”، إلا أنه لم يخُض في التفاصيل، فلجأتُّ إلى شخصين لمزيد من المعلومات، أحدهما مُساهم أساس في التسجيلات، الصديق عاصم بابكر عبد الله البنا (عاصم البنا)، والأخ أحمد النفيدي الذي ذكره منصور بالاسم. وكانت فكرة منصور هو إتاحة هذه المائة أغنية بفهم توثيق وتمليك عدد من أغاني الحقيية للمستمع السوداني، على أن يتم في المرحلة الأولى تسجيل ستة شرائط كاسيت، كُلٍّ يحوي ست أغنيات، مع طبع كتيب يشرح مناسبة وحيثيات ومعاني كلمات الست وثلاثين أغنية. كانت فكرة منصور أن توضع هذه الشرائط في “حقيبة” مصممة خصيصاً لهذا الغرض تباع للجمهور بسعر التكلفة حتى يتملكها أكبر عدد من الناس. ومن جانب آخر، كان منصور يرى أن تُطبع مائة نسخة خاصة، تباع لرجال المال والأعمال والمقتدرين من المهتمين بأغاني الحقيبة، بأسعار تشجيعية لتخدم غرض تسيير عجلة الانتاج وتحقيق هدف المشروع في تمليك الموروث للمستمع.

ومن الطرائف ما رواه ليَّ الصديق عاصم البنا بأنه لم ير منصور كفاحاً، أو عيانا بيانا، إلا في اجتماعهم الأول معه في منتصف مايو 1998، وذلك في وقت كانت الأجهزة الإعلامية تصوره وتصفه بالخائن المارق العميل، ويتوعدونه في برنامج ساحات الفداء. فجلس عاصم الي جواره بكل براءة وسأله: “ما هي قضيتك يا دكتور لتقضي كل عمرك في الأحراش؟”. فضحك منصور بسخرية لطيفة، وردَّ عليه “أنت قايلني انا من وين؟ أنا من ود البنا، بيتنا في حوش الصاوي، وأبوك دفعتي قرينا الخلوة سوا! ثانياً، داير تعرف أنا قاعد هنا ومغترب ليه؟ هسه لو جاك زول من جنوب السودان وطلب اختك بتديو؟”. قال ليَّ عاصم بأنه وجمَّ إذ فكرَّ أن القرار أصلاً لم يكن في يده، “فوالدي هناك أري فيه د منصور وأرى الأهل والجيران، وأنظر إلى أم درمان بتنوع أعراقها لأعرف كيف أرد علي، ويبدو أن د. منصور قد انتبه إلى أنني في حيرة من أمري للرد على سؤاله في رد السؤال، فباغتني بقوله: “عشان كدا أنا قاعد هنا، فهمتَّ؟”. ويقول عاصم بأنه ردَّ بنعم، ولكنه إلى اليوم ظل السؤال يتلاعب في ذهني، ودعاء القومية السودانية يلاحقه، على حد تعبيره.
أفادني عاصم بأن حماس منصور لإعادة إحياء الفكرة ربما كان له علاقة بالفترة التي كان فيها الطيب مصطفى وعوض جادين مسئولين في الإذاعة والتلفزيون وقاما بمسح أو وقف بث الكثير من الأغنيات التي تحمل في رأيهم كلمات أو معاني “حسية”، مثل القبلة السكرى أو ساقيني بإيدو كاسات الخمر، وما شابهها من أوصاف كانت تحفلُّ بها أغاني حقيبة الفن. وبالفعل، بدأت التسجيلات في القاهرة في منتصف مايو 1998، إذ كان يحضر عاصم وأسامة المبارك من جدة، مكان إقامتهما، وحسين شندي من الخرطوم، بينما كان الفرجوني أصلاً مُقيماً في القاهرة، حتى إكتمل تسجيل ست وثلاثين أغنية ينهاية عام 1998. وقد ذكر لي عاصم بأن الفنانة سمية حسن والمطرب بادي محمد الطيب أيضاً سجلا بعض الأغاني في الخرطوم. تمت تسجيلات القاهرة بأستديو البسيمي في شارع الفيصل، بأوركسترا مبسطة، فأصل الفكرة أن يكون الغناء بروايته وأنغامه الأصليه، فكان عاصم يعزف على العود أو الأورغان، ومعه فقط أسامة المبارك على الكمنجة. وعلِّمت من عاصم بأنه جاء لغرض التسجيلات من جدة ثلاث مرات، مرتان برفقة صلاح إدريس، للعلم مشينا ٣ مرات، ومرة هو وأسامة. وللمفارقة، كانت الزيارة الأخيرة في نفس اليوم الذي تم فيه قصف مصنع الشفاء، المملوك لصلاح إدريس، وأنهم كانوا جميعاً بحضور د. منصور، كنا جميعاً في ارض القولف، بمصر الجديدة، في شقة الصديق الراحل سليمان محجوب.

وبالرغم من هذا الجُهد الضخم، وما تم انتاجة من تسجيل لست وثلاثين أغنية من الأغاني الخالدات، تعثر تنفيذ الفكرة لثلاثة أسباب، أولهما هو ظهور الإنترنت في أواخر تسعينات القرن الماضي كمنافس شرس للكاسيت، وثانيهما هو ما طرأ على سوق الكاسيت من تغيرات، خاصة ظاهرة نسخ الشرائط (المضروبة) في القاهرة مما خلق سوقاً موازيةً أفسدت صناعة الكاسيت، وثالثهما هو ظهور الاسطوانات المُدمجة التي أسهمت في انهيار سوق الكاسيت وخسارة شركات الانتاج. وبذلك، كان الأستاذ صلاح إدربس هو الممول الوحيد الذي قام بتغطية نفقات التسجيل، بما في ذلك تكلفة سفر المطربين ومتطلبات الأستديو. ومن ناحية أخرى، كتب منصور في “شذرات من، وهوامش على سيرة ذاتية” أن “حصيلة ذلك الجُهد كُلها أودعتها عند صديق مُحب للفنِّ هو الأخ أحمد النفيدي وعله يُفرج عنها لتُصبح في متناول مُحبي ذلك النمط من الغناء السوداني…وانهماكي في العمل السياسي الوطني والكتابة أخذ مشروع الأغاني الخالدة يحتل مكاناً أدنى في سلم أولوياتي، ورغم ذلك كانت سعادتي غامرة عندما احتفت هيئة الإذاعة والتلفزيون بالذكرى الستين لبرنامج حقيبة الفن، وكان ضيف الشرف في ذلك الحفل الصديق الكبير صلاح أحمد محمد صللح، وهو الرجل الذي وُلدَّ على يديه ذلك البرنامج” (منصور 2018، نفس المصدر، ص 289).

كان لزاماً عليَّ العثور على الأخ أحمد بشير النفيدي، الذي يحتفظ بكنز الأغاني الخالدة، والذي ما كنت أعرفه شخصياً بالرغم من أن آل النفيدي هم جيراننا، منذ زمن الخرطوم القديمة، وأصهارانا، إلا أن أحمد لم ألتقيه فهو أصغر إبناء بشير النفيدي. فاتصلت على الفور بالأخ والصديق أمين بشير النفيدي، أحد أخوانه الأكبر سناً، وأبلغته بحاجتي للحديث مع أحمد في هذا الخصوص. لم يُخب أحمد النفيدي ظني، فاتصل عليَّ هاتفياً، وعلمت منه أن فعلاً التقى بمنصور في أديس أبابا في مطلع عام 2000، وأن كل تسجيلات الفيديو وثلاثين أغنية بحوزته وهي في حرز أمين بمكتبته في منزله. لم يكن قصدي من الاتصال بأحمد أن أطلبُّ منه فك أسر هذه التسجيلات كما أوصى منصور بذلك، لأن هذا أصبح أمراً يعني ورَّاثه، ولكن لأعرف معلومات عن وأسماء الأغنيات، ولكن لسوء الطالع فاجأني، تُقرأ فاجعني، أحمد بأنه لا يعلم شيئاً عن محتوي هذه التسجيلات، التي بلغ عُمرها العشرين عاماً. لم أُخف دهشتي عن أحمد، ولكنه أوضح لي ببساطة أنه لم يتمكن إبتداءً من فتحها لأن منصور اختار تسجيلها في شرائط فيديو من نوع A Data التى لم تعُد الأجهزة الخاصة بها مُستعملة منذ نهايات القرن الماضي، ولا وجود لها في السودان. ومع ذلك، أعدت الاتصال بعاصم ووعد ان يتصل بأحمد، بحكم معرفته به، ليتعاونا سوياً في البحث عن مثل هذا الجهاز حتى وإن تطلب ذلك محاولة عملية نقل الشرائط خارج السودان. فكل ما استطعت العثور عليه من هذا الكنز المكنون هو التعرف على عينة من الأغاني، التي استذكُرها عاصم، مما تغنى به هو والفرجوني وحسين شندي. تغنى الفرجوني ب: “حبيب لا تهجرني” لعمر البنا، و”منظر شي بديع” لعبيد عبد الرحمن، و”الاهيف” لعمر البنا، و”عزة الفراق بي” لعمر البنا. وأدى حسين شندي الأغاني التالية: “ياربيع في روض الزهور”، و”قلبي همالو”، لصالح عبد السيد(أبو صلاح)، و”عشقت شادن” لعبد الرحمن الريح. بينما سجلَّ عاصم الأغيات: “هوي الخلخال” لمحمد ود الرضي، و”امتى أرجع لأم دُر وأعودها ” و”نسايم الليل زيديني” و”نسيم سحرك”، لعمر البنا، و”أرحم ياسميري” لصالح عبد السيد أبو صلاح. أتمنى أن يتفوق الصديقان أحمد النفيدي وعاصم البنا في مسعاهما القاصد إطلاق سراح هذه الدرر من ألاغاني الست وثلاثين وتحريرها من هدا الجهاز المنقرض، بالتعاون مع الأخ الصديق سامي مصطفى الصاوي ابن خال الراحل المقيم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.