المسيرة المتعثرة نحو بناء الدولة السودانية

بقلم/ كموكى شالوكا (إدريس النور شالو)

البداية الخاطئة – الإستقلال من داخل البرلمان ومطلب الفيدرالية (2-8)
قرّر الاستعمار الانجليزى الخروج و إخلاء السودان طوعاً، لكنه خلّف عند خروجه استقلالاً زائفاً كان عبارة عن إستبدال إستعمار خارجى بإستعمار داخلى تسنم فيه أمر البلاد نخبة انتهازية وعنصرية اكثر سوءاً من الاستعمار الخارجى، هى التى قامت بتأسيس المركزية الإسلاموعروبية والتى تشكلت بصورة رئيسية من حقل الثقافة العربية الاسلامية.
لقد رسم اتفاق الحكم الانجليزى المصرى لعام 1953 الطريقة التى يمارس بها السودانيون تقرير المصير . فقد نصت الاتفاقية ان يصدر البرلمان السودانى قراراً عن رغبة أعضائه فى الشروع فى ترتيبات تقرير المصير وذلك بالإحتكام للشعب ليقرر مصيره بإرادته الحرة ، أمّا بإختيار الإستقلال أو الإتحاد مع مصر، بعد ذلك يخطر الحاكم العام الحكومتين الإنجليزية والمصرية بالقرار ثم تقوم حكومة السودان القائمة فى ذلك الوقت بصياغة مشروع قانون لإنتخاب جمعية تأسيسية تقرر مصير السودان فى موعد أقصاه يوم 31 ديسمبر 1955. والجمعية التأسيسية هذه ليست برلمان الحكم الذاتى الذى قرر إسماعيل الأزهرى الإستقلال من داخله لأن هذا الحق لم تمنحه إياه الاتفاقية. لقد قرر اسماعيل الازهرى فى 19 ديسمبر 1955 الإلتفاف على الشروط والاجراءات التى نصت عليها الاتفاقية عن كيفية ممارسة حق تقرير المصير فى مخالفة صارخة لبنوده و قام بإعلان الإستقلال من داخل البرلمان .
مع بنود الاتفاقية الواضحة فأن برلمان الحكم الذاتى لا يملك أن يقرر مصير السودان، إلا أن البرلمان قرر بالإجماع فى 29 أغسطس 1955 أن رغبات الشعب السودانى ستتحقق بصورة أفضل من خلال إجراء إستفتاء على خيارى الوحدة مع مصر أو الاستقلال وليس عبر جمعية تأسيسية فى تعارض صريح مع بنود الاتفاقية. لكن فى تغيير مفاجئ قام نفس البرلمان فى 15 ديسمبر 1955 بإلغاء قرار الاستفتاء الذى سبق أن وافق عليه بالإجماع وإستبداله بقرار أخر بالإجماع أيضاً يقضى بأن تتم ممارسة حق تقرير المصير عبر برلمان الحكم الذاتى نفسه. الإجماع على القرارين يعنى تواطؤ جميع الاحزاب على نقض الاتفاقية ، بل تكشف عن قدر كبير من الاستهانة بموضوع خطير وذى أهمية لكل الشعب السودانى ويبيّن عن أحد أقبح الخصال وهي عدم الوفاء بالمواثيق، و بكل أسف أصبحت تلك الاستهانة سمة ملازمة للسياسة السودانية ونموذجاً سارت عليه السياسة فى السودان.
لتهدئة مخاوف الجنوب، وتمهيد الطريق أمام الإستقلال ، تعهّدت الطبقة السياسية الشمالية بقرارٍ من البرلمان، في 22 ديسمبر 1955، بالموافقة على إضافة فقرة فى إعلان الإستقلال تتعهد فيها بأن مطلب الحكم الفيدرالى سوف تنظر فيه الجمعية التأسيسية المرتقبة بعين الاعتبار due consideration عند الاستقلال كضمان لخصوصية الجنوب، وبقبول ممثلي الجنوب لذلك التعهّد، انتقل السودان إلي الاستقلال في مطلع يناير 1956، إلا أنهُ بعد مضى أسابيع قليلة، قادت الأحزاب في شمال السودان، التي أعلنت التزامها بالنظر بعين الاعتبار لمطلب الفدرالية، حملة ضارية ضد فكرة الفدرالية، بل وصفتها بأنها مخطط استعماري محض.
وقد أوضح السيد محمد أحمد محجوب أن قرار البرلمان في 19 ديسمبر عام 1955 بطلبه للجمعية التأسيسية القادمة إعطاء النظام الفيدرالي الاعتبار الكافي كان فقط لإستمالة الجنوبيين حتى يصوتوا للإستقلال، ولم يكن عن قناعة السياسيين الشماليين بالنظام الفيدرالي.
الامر المؤلم هو وقوف قانونيان مرموقان هما محمد احمد محجوب و مبارك زروق ليقولا أمام لجنة الدستور بأن الذى أتفق عليه ليس هو منح الجنوب الفيدرالية وإنما فقط النظر بعين الاعتبار للمطلب، وقالوا برفض لكل ما يقسّم السودان وأن النظام الفيدرالى يمثل الخطوة الأولى نحو الإنفصال. هذان القانونيان يعلمان جيداً أن غاية النظام الفيدرالى هى السماح بوجود أشكال سياسية محلية متنوعة داخل حدود قومية عريضة وكان هذا أمراً ما كان يجب أن يغيب عن عقول السياسيين ورجال القانون لولا سياسة المراوغة. وهكذا فى إطار إستمرار الشمال فى نقض عهوده، قررت لجنة الدستور في مايو 1958، بأغلبية آلية، أن عيوب الفدرالية تفوق محاسنها .
أثار هذا القرار غضب الأعضاء الجنوبيين في اللجنة، وعبر الأب ساترنينو لاهورى، إنابة عنهم أمام البرلمان السوداني بالخرطوم في يوم الخميس 19 يونيو عام 1958 وألقى كلمةً كانت شاملةً ومتكاملةً في تصوّرها للعلاقة بين شمال وجنوب السودان. تحدّث الأب لوهوري بإسهابٍ عن التباينات والإختلافات الثقافية والعرقية والدينية واللغوية بين طرفي البلاد. وقد طرح الأب لوهوري كلمته موقف ومطالب السودانيين الجنوبيين السياسية التي تمثّلت في إدارة الجنوب لشئونه بنفسه تحت مظلة النظام الفيدرالي في إطار السودان الموحّد. إختتم الأب لوهوري كلمته بالآتي:
“إن الجنوب لا يكِنُّ أبداً نوايا سيّئة نحو الشمال، إن الجنوب يطالب فقط بإدارة شئونه المحلية في إطار السودان المُوحّد. كما أنه ليست لدى الجنوب نيّةٌ للإنفصال عن الشمال لإنه لو كان ذلك هو الحال فليس هناك قوّةٌ على الأرض تستطيع منع الجنوب من المطالبة بالإنفصال. فالجنوب يطالب بإقامة علاقة فيدرالية مع الشمال، وهذا بلا ريب حقٌ يستحقه الجنوب بمقتضى حقِّ تقرير المصير الذي يمنحه المنطق والديمقراطية للشعب الحر. وسينفصلُ الجنوبُ في أي وقتٍ بطريقةٍ مباشرة أو غير مباشرة متى أراد الشمالُ ذلك، من خلال سيطرة الشمال على الجنوب سياسياً واجتماعياً واقتصادياً”.
وبعد نصف قرنٍ من الزمان تحقّقت تلك النبوءة وإنفصل جنوب السودان عن شماله ولنفس الأسباب التي ذكرها الأب لوهوري.
إتسمت علاقةُ الحُكّام فى الشمال بجنوب السودان منذ نهاية الأربعينيات من القرن الماضي بنقض المواثيق، تمثّل أولُ وأهمُ نقضٍ لتلك المواثيق في تجاهلِ ثم رفضِ مطلب الجنوبيين لقيام نظامٍ فيدرالي بين طرفي البلاد تمّ ذلك الرفض من داخل الجمعية التشريعية 1948، وأيضاً من داخل لجنة دستور إستانلي بيكر عام 1951. تراكم غبن أبناء الجنوب على المعاملة الإقصائية والاستعلائية التي لقوها في السنوات التي تلت مؤتمر جوبا، وعلى الاستخفاف بمطالبهم وتجاهلها، أدّى ذلك إلى تمرّد حامية توريت في 18 أغسطس عام 1955. وقد كان قرار نقل الحامية الجنوبية للشمال في تلك الظروف، كما ذكر تقرير لجنة التحقيق في التمرّد التي ترأسها القاضي توفيق قطران بالقول: ( …. والإصرار على عدم تغيير الأوامر بدون أن تكون هناك خطط مضادة أو أن توضع مثل هذه الخطط، يدل على عدم إكتراث بأرواح وممتلكات المواطنين الآخرين)، الأمر الذى إعتبرته اللجنةُ نفسها “خطأً عظيماً.”
من وجهة النظر القانونية ، فإن قرار إعلان الإستقلال من داخل البرلمان فعل غير دستورى بسبب خروجه و مخالفته لأطر و بنود الإتفاق الانجليزى المصرى ، فبرلمان الحكم الذاتى لم ينتخب لممارسة حق تقرير المصير نيابة عن الشعب و إنما ليصدر التشريعات و الاشراف على الحكم خلال فترة الحكم الذاتى ، فالجمعية التأسيسية هى من كانت ستقرر المصير أما بالإتحاد مع مصر أو الاستقلال التام عن الحكم الثنائى، فإستقلال السودان فعل تم بالخداع نقض المواثيق ويؤكّد ما وثّقه مولانا/ أبيل أليير فى كتابه Too many agreements dishonored.
كان يمكن للسودان أن يظل دولةً موحدةً إذا كنا قد إحتفلنا باستقلالنا في يناير عام 1956 كدولةٍ فيدرالية، كما وعد ساسة الشمال أبناء وبنات الجنوب، بل كان يمكن أن نفتخر ونعتز في ذلك اليوم أننا دولة سودانية إستطاعت أن تحيلَ تبايناتها العرقية والدينية واللغوية والثقافية إلى مصدرٍ للقوة والتعايش السلمي تحت مظلة الفيدرالية ولكن هيهات.
وبينما كانت الخرطوم تحتفل بالاستقلال في بداية يناير عام 1956، كانت جوبا تشهد أحد مسلسلات القصاص من الذين شاركوا في حوادث توريت التي جرت في أغسطس عام 1955. فقد تمّ في نفس أسبوع الاستقلال إعدام الملازم رينالدو لويولا، أحد المتهمين بقيادة تمرد توريت في 18 أغسطس عام 1955، ومعه مجموعة من زملائه تربو على 121 من الذين تمّت ادانتهم إثر محاكمات عاجلة افتقرت إلى أبسط قواعد العدالة والنظم القانونية، وتقف المقبرة الجماعية لشهداء الإنتفاضة بجبل (هيمادونقى) شرق مدينة توريت بولاية شرق الاستوائية شاهداً على ما حدث، فقد ضن عليهم الجند بمجرد كرامة الدفن ، إذ كان الثوار يوْخذون الى أعلى قمة الجبل ذو الحافة الحادة المنحدرة ثم يطلق عليهم وابل من الرصاص فتتدحرج الجثث الى اسفل الجبل فى الموقع الذى صار مقبرة و مزاراً، وعليه صاروا طعاما للسباع و النسور.
….. نواصل

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.