رِحْلتي مع مَنصُور خَالِدْ: الحلقة (20) الخروج من الذات لملاقاة الآخر! جون قرنق والبَحْثِ عن السَّلام والوحَدَّة

الواثق كمير [email protected]

 

الخلاف حول الدين والسياسة: منصور يوفِقُ بين الآراء!

ذكرتُ في الحلقة (16) في قراءة منصور، أنَّ مُؤتمر أسمرا انعَقَدَ في أعقاب حدثين هامَّين، كادا أن يعصفا بوحدة التجمُّع.. أولهُما، مُستجدٌ ويتعلق بالتنظيم، والآخر تاريخي، هُو الاتفاق بين أحزاب التجمُّع على صيغةٍ لحسم النزاع الذي ظلَّ مُحتدماً حول الدِّين والسِّياسة. فمن المعلوم أنَّ قضيَّة الشريعة (قوانين سبتمبر) قد حُسِمت من قبل في اجتماعي كوكادام (1986) وأديس أبابا (1988)، على أن يُترك أمر البتِّ في القضيَّة الرئيسة: الدِّين والدولة للمُؤتمر الدُّستُوري. وكان من رأي الحركة الشعبيَّة، أنَّ أي طرف لا يملك أن يُملي واقعاً على الآخرين دون احتكامٍ للإرادة الشعبيَّة، لأنَّ “قوانين سبتمبر”، وقوانين الجبهة المنسوبة إلى الإسلام، لم تصدُر بإرادة شعبيَّة. ذلك، خاصة وإعلان الشريعة كقانون للسُّودان جاء في المرَّتين من أنظمة تفتقد الشرعيَّة الشعبيَّة (نميري 1983 والبشير 1989). والغريب أنَّ نظام نميري لم يستهدِ حتى برأي برلمانه وحزبه السِّياسي في تطبيق تلك القوانين، في حين كان البشير، على الأقل، يمثل تياراً سياسياً ظلَّ يرفع شعار الدولة الإسلاميَّة منذ النصف الثاني من القرن الماضي. ومع ذلك، وأياً كان الحال، خلقت دولة الإنقاذ “الإسلاميَّة” واقعاً لم يكُن للحركة تجاهُله، ولهذا استعصمت بدعوتها للعلمانيَّة. يذكُر منصور أنَّ ذلك الشعار رفضه حزبا الأمَّة والاتحادي الدِّيمُقراطي “التقليديَّان” في اجتماع التجمُّع بلندن في 1992، بالرغم من محاولات الحركة الجادَّة في تفسير ما تعنيه بـ“العِلمانيَّة”. حمل ذلك الموقف مندوب الحركة في الاجتماع، ستيفين مادوت، بأن يُبلغ المجتمعين بأنَّه ليس من الضَّروري أن يظلَّ السُّودان مُوحَّداً، بل يمكن له أن يضُمَّ جزأين يتعاونان في سلامٍ، ويتمتع كلاً منهما بحقه في نظام الحُكم الذي يريد، طالما اعتقدت بعض الأحزاب الشماليَّة أنَّ السِّياسة لا ينبغي أن تُفصل عن الدين.

من المُذهل، والجدير بالذكر هُنا، أنَّ الحزبين كانا قد رفضا من قبل صيغة سابقة للتوفيق بين وجهتي النظر، كان قد طرحها منصور في اجتماع التجمُّع بأديس أبابا في نهاية يوليو 1990 (كما نوَّهت في الحلقة 7)، بمعاونة أستاذ القانون د. بيتر نيوت كوك والمحامي المعروف طه إبراهيم “جربوع”.

اقترح منصور على المُجتمعين أنَّ هذا الخلاف بين الطرفين حول هذا الأمر سينتفي تماماً إذا توافق الجميع على أربعة مبادئ أساسيَّة: أولها، المُواطنة أساسٌ للحُقوق والواجبات، وثانيها، التعدُّديَّة عُنصُرٌ رئيس في التشريع ورسم السياسات، وثالثها، تعهُّدات واتفاقيات ومواثيق حُقوق الإنسان، الدوليَّة والإقليميَّة، صالحة للجميع والالتزام بها يُغلقُ أبواب الجدل، ورابعها، جميع المسائل المرتبطة بالأديان والمعتقدات لا يتم البت فيها عبر تغليب رأي الأغلبيَّة على الأقليَّة، أو اعتماد الأغلبيَّة الميكانيكيَّة، بل يتم حسمها عبر التوافُق والاجماع. مضت ثلاثة أعوام على ذلك الاقتراح، والأحزاب المُعترضة ما زالت تُصِرُّ على موقفها من الدِّين والسِّياسة إلى أن التأم لقاء لقُوى التجمُّع في 17 أبريل 1993، بنيروبي، لإعادة دراسة القضيَّة. وللمرَّة الأولى، التقى د. جون بكل قيادات التجمُّع في ذلك الاجتماع ليُبلغهم بأنَّ الذي تسعى له الحركة هو قيام سُودان مُوحَّد وديمُقراطي وعِلماني. وأضاف أنَّ الوحدة التي تدعو لها الحركة هي وحدة لها سِمَاتها التي يجب أن تتفق عليها كل الأطراف، وليست وحدة بدون تكلفة، أو كتلك التي عرفها السُّودان في الماضي. وفي ختام لقائه مع قادة التجمُّع، دعا الاجتماع إلى مناقشة قضيَّة الدين والدولة بالشكل الذي يأخذ في الاعتبار مخاوف وهواجس كل الأطراف. وبعد مداولاتٍ مُضنية، ونقاشاتٍ مُطوَّلة، اتفقت كل قُوى التجمُّع على قرارٍ بعنوان: “الدين والسِّياسة في السُّودان” تضمَّن نفس المبادئ الأساس التي اقترحها منصور، والتي رُفِضت في أديس أبابا في 1990.

فتح إعلان نيروبي الباب واسعاً للعُبور إلى اتفاقياتٍ ثنائيَّة بين الحركة والأحزاب الشماليَّة، فوقع حزب الأمَّة في 12 ديسمبر من عام 1994، اتفاقاً مع الحركة في شُقدُم (شرق الاستوائيَّة) جدَّد فيه التزامه باتفاق نيروبي حول الدِّين والسِّياسة. هكذا، كان لاتفاقي نيروبي وشُقدُم دورٌ هام في تذويب الاختلافات ممَّا مهَّد لاحقاً لصُدُور قرار أسمرا حول قضيَّة العلاقة بين الدِّين والدَّولة. أما قضية تقرير المصير، فمن وراء كواليس مباحثات شُقدُم، يكشف منصور عن معارك خلفيَّة كادت أن تُفضي لانقسامٍ في صُفُوف الحركة. فعلى حدِّ تعبير منصور: «فقد رأى ممثلو النوبة والأنقسنا أنَّ في قُبُول حق تقرير المصير للجنوب، في الوقت الذي صمت فيه الطرفان المُتعارضان عن مصير شُعُوب جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق، إهداراً لنضالٍ شعبي المنطقتين كتفاً إلى كتفٍ مع الحركة. زاد من الشُكُوك رفض حزب الأمَّة مناقشة موضوع الجبال أصلاً، مما دفع قائد النوبة، الرَّاحل يوسف كُوَّه، للتوصُّل إلى اتفاقٍ حول تقرير المصير للنوبة مع الحزب الاتحادي الدِّيمُقراطي بعد ستة أشهُر من لقاء شُقدُم. ذلك الاتفاق تأسَّس على اتفاقيَّة “الميرغني- قرنق” في 1988 (وهو ما كان حزب الأمَّة يأمل في أن يطويه النسيان)، وعلى إعلان نيروبي حول الدِّين والسِّياسة. كما أكَّد الطرفان عزمهُما على العمل من أجل وحدة السُّودان على أساس المبادئ الواردة في الوثيقتين، على أن يُبيح الإخفاق في تنفيذهما للطرف المُتضرِّر ممارسة حق تقرير المصير» (منصور 2003، نفس المصدر، ص 983-984). للعِلم، وقَّع على الاتفاق في القاهرة، في 13 يوليو 1994، الدكتور أحمد السيِّد حَمَد نيابة عن الحزب الاتحادي الدِّيمُقراطي، ويوسف كُوَّه عن الحركة بوصفه رئيساً لمؤتمرها العام.

ومع ذلك، نبهني الصديقان ياسر عرمان وصلاح جلال إلى أن إفادة منصور غير دقيقة من ناحيتين، أولهما: أن “إعلان القاهرة” الموقع بين الحركة والاتحادي الديمقراطي لم يكُن بعد اتفاق شُقدُم بستة أشهُرٍ، كما ذكر منصور، بل بالعكس، فاتفاق القاهرة كان قبل لقاء شُقدُم في يوليو 1994، بينما الثاني كانوفي 13 ديسمبر 1994. وثانيهما: أن “إعلان القاهرة” لم يتطرق إلى بالتحديد لقضية تقرير مصير شُعُوب النوبة أو النيل الأزرق بالتحديد، ليتوصل لاتفاق بشأنها. وبعد مراجعة الأمر، تبينَّ لي، من ناحية، أن منصور قد أخطأ في التواريخ، فهو يفترض ان اتفاق شُقدُم كان في نهاية 1993، وليس في أواخر 1994، وأن إعلان القاهرة كان بعدها في يوليو 1994. ومن ناحية أخرى، أيضاً خلط منصور بين “كواليس” شُقدُم وبين اجتماع مُضغر آخر تمَّ للتجمع في لندن، خلال الأسبوع الأول من يوليو 1994، شارك فيه حزب الأمة (عمر نور الدائم، مبارك الفاضل، صالح فرح)، والحركة الشعبية (دينق ألور وأليجا مالوك ويوسف كوة)، والاتحادي الديمقراطي (أحمد السيد حمد). رفض حزب الأمة التوقيع على مشروع اتفاق لندن، لأن مشروع الاتفاق تضمنَّ الاعتراف بحق تقرير المصير، بل طلب الحزب من الحركة نفي التزامها بمحادثات القاهرة إذا كانت راغبة في التوقيع على اتفاق لندن.

ومع ذلك، تظل الرواية الصحيحة هي أن اجتماع القاهرة جاء في أعقاب “إعلان مباديء الإيقاد”، في 22 مايو 1994، وأن جون قرنق كان يسعى بهمة إلى كسب دعم القوى السياسية، خاصة الاتحادي والأمة، لتأييد الإعلان الذي أقر بوضوح بحق تقرير المصير. من بعدٍّ، تأسس على هذا الإعلان  بروتوكول مشاكوس، ومن ثمَّ اتفاقية السلام الشامل. لذلك، طلب رئيس الحركة الراحل من القائد، ورئيس المؤتمر القومي للحركة الشعبية، يوسف كوة مكي الذهاب إلى القاهرة للتوقيع مع الاتحادي الديمقراطي، فمولانا الميرغني ظل حليفاً لجون قرنق منذ نوفمبر 1988، كأول حزب في التجمع يبارك إعلان الإيقاد، وبالتالي حق تقرير المصير. فقد جاء في الفقرة 2.11 من الإعلان أنه “في حالة عدم الاتفاق على المبادئ المشار إليها أعلاه في 1.2 إلى 2.7 يكون للطرف المعني الخيار في تقرير المصير، بما في ذلك الاستقلال، عن طريق الاستفتاء”. وبعد مداولات ومشاورات، عاد الحِزب ووافق على هذا الحق في شُقدُم، 13 ديسمبر 1994، بعد خمسة أشهر من إعلان القاهرة. فالبند رقم 1 من اتفاق شقدم ينص على ان الطرفين “يعلنان قبولهما لإعلان المبادىء الصادر من دول الايقاد كأساس مقبول للسلام العادل الدائم”، كما أقرَّ الطرفان، في البند الثاني،  “أن تقرير المصير حق أساسي للناس والشُعوب”. وتوالت الاتفاقات الثنائية المؤيدة لحق تقرير المصير، ففي فبراير 1995، وقع الحزب الشيوعي وحزب الأمة محضر اتفاق سجل قبول الحزبين لحق تقرير المصير، على أن يمارس في مناخ الحرية والديمقراطية. وأكد الحزبان تمسكهما بوحدة السودان، والتزما بالعمل المشترك لمد جسور الثقة حتى يأتي حق تقرير المصير دعما لخيار الوحدة. وفي 16 أبريل 1995، وقع الحزب الشيوعي والحركة الشعبية اتفاقا أكدا فيه أن تقرير المصير مبدأ ديمقراطي وحق أساسي من حقوق الشعوب، وأنه لا يمكن فرض الوحدة أو الانفصال بالقوة، وانما عبر الإرادة الحرة للمواطنين، وأنهما سيعملان على بناء جسور الثقة بما يدعم التمسك بوحدة السودان الطوعية في إطار التنوع والتعدد.

ينطلِقُّ منصور من فرضية أن استغلال الدين في السياسة، كان مشأمة على السياسة السودانية، وفي مرحلة ما بعد الاستقلال (خاصة 1968) هز الهوس الديني أركان السياسة، وأعاق النمو الطبيعي للديمقراطية الدستورية في البلاد. وفي ظنه، أنه ما كان لهذا الأمر أن يحدُّث، لو تمركز السياسة السودان حول طائفتين دينيتين متعارضتين. ذلك، لولا محاولات النخبة الإسلامية الجديدة (الأخوان المسلمون) ارتهان إرادات قيادات هاتين الطائفتين بالإيحاء مرة، وبالابتزاز باسم الإسلام كل المرات، حتىىاختطفوا الإسلام نفسه في يونيو 1989. فهولاء الإسلاميون الجدد ظنوا بأنهم قادرون على فرض حقائقهم التخيُلية أو الافتراضية على التعددية الثقافية والدينية في السودان، والتي يُمثلُّ الإسلام فيها عنصراً واحداً، حتى وإن كان أكبر العناصر، يبدو أنهم لم يدركوا خصوصية النسيج السوداني. فقد عاش مسلمو السودات راضين بصيغة الإسلام الشعبي التي ألفوه، في حياتهم للخاصة والعامة، على حدٍّ سواء. وعلى حدِّ‌ّ تعبيرِّ منصور “ربما كان هذا هو السبب في الفشل للذريع الذي مُنيت به مشروعات الإسلام السياسي في السودان، بدءاً من صحوة صادق للمهدي الإسلامية في الستينات، إلى مشروع الترابي الحضاري في التسعينات. أما عن إمامة نميري فلا تُحدِّث، فلا هو في العِيرِّ كان، ولا في النفِيرِّ. علاوة على ذلك، أصبحت التجربة المعاصرة للإسلاميين الجُدُّد كتاباً مدرسياً عن كيف يفشلُّ المرء في حُكمَّ بلدٍّ مُعقد التركيب كالسودان. تلك التجارب لحِقَّ بها الخزي والعار وسوء السمعة، ليس فقط عند الجنوبي غير المسلم، بل أيضاً عند مُسلِّمي الشمال” (منصور 2013، نفس المصدر، ص 1010).

هكذا، في يونيو 1995، جابه التجمُّع قضيَّة الدِّين والسِّياسة بشيءٍ من الحذر، وخلُص في نهاية المطاف إلى قرارٍ هُو نفس القرار الذي أُتُّفق عليه في نيروبي، والقائم أصلاً على اقتراح د. منصور وصيغته التوافُقيَّة، التي رُفضت في أديس ليتم قُبُولها في نيروبي، ومن ثمَّ في أسمرا. ومن أهمِّ ما في ذلك القرار، هو ربط قضية الدين والسياسة بإعلان وعُهُود حُقوق الإنسان الدوليَّة والإقليميَّة، وهو أمرٌ لا يتعارض، بل ينسجم مع الدَّعوة الإنسانيَّة لأيِّ دينٍ، لأنَّ الدِّين الحقيقي قيمة مضافة للإنسانيَّة. كما اتجه ذلك القرار في الشأن العام إلى الفصل بين المسجد والكنيسة، من جهة، والدَّولة والسِّياسة، من جهة أخرى. ويرى منصور أنَّ تفادي القرار لاستخدام الكلمات “الشفريَّة” مثل العِلمَانيَّة، واتجاهه مباشرة إلى موضوع استغلال الدِّين في السِّياسة، أزال كل لبسٍ كان عالقاً بالأذهان حول ما يعنيه دُعاة العِلمَانيَّة بالفصل بين الدِّين والسِّياسة، كما قضى على أي محاولة لتشويه ذلك الفَهْم. ويضيف: «فالنص لا ينفي الدِّين عن المُجتمع، ولا ينهي عن الالتزام بقِيَمِه وثوابته، ولا يُعوِّق استلهام أُصُوله في تدبير الأمور، بل يُبيح لكُلِّ أهل الديانات مُمارسة عباداتهم، وإنشاء معابدهم، وقيام مُؤسساتهم التعليميَّة الخاصة بهم، دون تدخُّلٍ من الدَّولة. وتماماً، كما يستحيل فصْل الإنسان عن دينه، يستحيل أيضاً دمج الدِّين كليَّةً في الحُكم» (منصور 2013، نفس المصدر، ص 1011). لدهشة أعدائه، توصل التجمع بعد أسبوعين من المناقشات الطويلة إلى اتفاق ليس فقط على قضية الدين والسياسة، بل حول العديد من القضايا الرئيسة الأخرى مثل نظام الحكم، الأمن والترتيبات العسكرية خلال الفترة الانتقالية، الاقتصاد، حق تقرير المصير والوحدة الطوعية، وعلاقات السودان الخارجية في المستقبل، ثم تكوين الهيكل التنظيمي للتجمع. وفي 23 يونيو 1995، وقعت الحركة الشعبية على ميثاق التجمع الجديد، والذي أخذ في الاعتبار ملاحظاتها حول أسباب الصراع في السودان ووسائل علاجها.

مع ذلك، فلمنصور رأيٌ حول الفقرة الأخيرة (الفقرة الخامسة) من قرار التجمُّع الخاص بالدِّين والسِّياسة حول المرأة. وجاء فيها: «يلتزم التجمُّع الوطني بصيانة كرامة المرأة السُّودانيَّة ويُؤكد على دورها في الحركة الوطنيَّة السُّودانيَّة، ويعترف لها بكُلِّ الحُقُوق والواجبات المُضمَّنة في المواثيق والعُهُود الدوليَّة “بما لا يتعارض مع الأديان”». والنقطة الأخيرة، التي وُضعت بين قوسين، لم تكُن مُضمَّنةً في قرار نيروبي حول الدِّين والسِّياسة، وإنما أضيفت للقرار نتيجة لإصرار أحد مُمثلي الحزب الوطني الاتحادي (مبروك مُبارك سليم)، الذي أصبح لاحقاً قائداً لفصيلٍ جديد في التجمُّع اختار له اسم “الأُسود الحرًّة”. وقد ثار مبروك في وجهي إثر مُداخلة لي حول حُقوق الإنسان والمرأة بحُجَّة أنَّ المرأة قد تكرَّرت الإشارة لها في هذا المُؤتمر، وأنه لا يفهم حُقُوق المرأة إلا في إطار الدِّين الإسلامي، مما دفع الحُضُور للضَّحك. وكان من رأي منصور، أنَّ وضع قضيَّة المرأة في إطار الحديث عن الدِّين والسِّياسة أمرٌ مُمعنٌ في الخطأ، لسببين: الأوَّل، أنه جعل من قضيَّة اجتماعيَّة حُقُوقيَّة وثقافيَّة قضيَّة دينيَّة. والثاني، أنه أوقع بالتجمُّع في براثن التزيُّد بالدِّين، واستغلال أحكامه لتأييد الهيمنة الذُكُوريَّة على النساء. لذلك، على حدِّ تعبيره، فإنَّ: «صياغة النص، والتي غلبت عليها شعارات الماضي، مثل الحديث عن دور المرأة في الحركة الوطنيَّة، جعلت المغزى الحقيقي لإنصاف المرأة يُفلتُ عن الاهتمام. فنساء الرِّيف، مثلاً، لم يُسهِمنَ في الحركة الوطنيَّة بالمعني الذي يومئ به النص، وكُثرُ من نساء الحَضَر اللائي انحصرت جُهُودهن على رعاية ذويهن، أو السُّكون إلى أزواجهن، أو الانكباب على مهنهن، لم يكن بذلك المعنى جزءً من الحركة الوطنيَّة، أي الحركة الوطنيَّة السُّودانيَّة. ولرُبَّما انسربت هذه الفكرة من الخطاب السياسي اليساري في الستينات، والذي كان دوماً يسعى إلى تسييس القضايا الاجتماعيَّة. ولكن، عندما يتحدَّث العالم الآن عن حُقوق المرأة، فإنما يتحدَّث عن حُقوقها من حيث هي كإنسانٍ لا تنفصل قضاياه عن قضايا المُجتمع، فكلاهُما جُزءٌ من الواقع. الذي يقول بغير هذا، يخصمُ المرأة خصماً كاملاً من رصيد المجتمع» (منصور 2013، نفس المصدر، ص 1013).

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.