سلام المسارات و السلام الشامل
خالد فضل
لا نريد أن نغمط الناس حقهم، فهناك جهود كبيرة و مفاوضات طويلة و نقاشات عميقة لابد انها قد حدثت بين الوفد الحكومي و الجبهة الثورية و لا بأس فيما تحقق إذ يمكن اعتباره خطوة في الاتجاه الصحيح حول القضايا السودانية المزمنة، ولكنه لا يرقى لمرتبة السلام الشامل، ليس بسبب غياب الحلو و عبد الواحد بل لأن الإطار الأساسي للتغيير المنشود في السودان لم تبلغه هذه الاتفاقية، فهي قد تقاصرت عن بلوغ تحديد طبيعة الدولة السودانية بالضبط، أهي دولة كيفما اتفق للحاكم في الزمن المحدد ام هي دولة واضحة الأسس و المعالم بحيث يصبح الحاكم فيها موظف عام فقط، و يمكن أن نعزو ذلك مباشرة إلى غياب المشروع الوطني المتفق عليه منذ الاستقلال،و لهذا تبدو اتفاقية جوبا الأخيرة و كأنها قطعة زينة في قماشة لم يكتمل نسجها بعد.
تظهر قوة الحجة و المنطق في الطرح التفاوضي الذي يقدمه القائد الحلو، فهو يتجه مباشرة إلى ما هو أهم من تقسيم السلطة و الثروة، يشير إلى طبيعة الدولة ذاتها قبل أن يصبح فيها هو أو جبريل أو مالك سادة في مجلس السيادة، فالحقوق المتساوية للمواطنين التي ينبغي أن تقوم عليها الدولة الوطنية هو المدخل الصحيح لتحقيق السلام الشامل و ليس مجرد اتفاقات سلام شامل، و لعل تجربة السودانيين المريرة مع ويلات الحروب الأهلية و ما افرخته من واقع مقيت تجعلهم يفكرون الآن ملياً في اهتبال الفرصة التاريخية النادرة التي اتاحتها ثورة ديسمبر المجيدة من أجل الولوج مباشرة إلى جوهر الحلول الناجزة و النهائية لقضايا بلادهم عوضاً عن هذا التوهان و المراوحة ما بين شد الماضي و جذب الحاضر، إذ لا توجد قوة سياسية أو اجتماعية ترفض مبدأ السلام،و لا يوجد عاقل يريد الحرب، هذا الاتفاق البدهي لم يوقف الحروب في السودان لماذا؟ هذا سؤال مهم لأنه يتطلب الغوص عميقاً في التحليل و استنباط النتائج الموضوعية و بالتالي الدخول في رحاب السلام الشامل الذي يتمناه كل عاقل.
إن المساواة التامة بين المواطنين في بلدهم هي التي تجعل العيش المشترك بينهم ممكناً، و العدالة هي التي تجعل للمساواة قيمة، و هذا لا يقوم إلا على قواعد واضحة في فصل الدين عن شؤون الدولة، و لأن الدولة ليست فرداً يؤدي الشعائر الدينية و الفروض و الواجبات الروحية فهي جهاز اعتباري في إدارة شؤون حياة الناس المادية فقط، و يجب أن تبقى على مسافة واحدة من كل الأديان و المعتقدات، واجب الدولة مثلاً السعي لتوفير سكن لكل مواطن أو تيسير أمر حصوله عليه مع إقامة البنية التحتية اللازمة كالمياه، الكهرباء، المدارس، الحدائق العامة… الخ، فالمسلم الذي يقصد المسجد لصلاة الفجر أو العشاء واجب الدولة تجاهه هو توفير تلك الضروريات الحياتية، اما مسألة كدحه لدخول الجنة و تجنب النار فهذا شأن فردي لا علاقة للدولة به أبداً، و الوظيفة العامة الغرض منها هو تقديم الخدمة حسب وصفها الوظيفي و ليس لنيل الجنان العلا، و هذا لا يمنع صاحب اي معتقد من الشعور الداخلي بأن اتقانه للعمل و اخلاصه فيه يكسبه رضا الله، فالدولة توفر له راتبه على آخر الشهر،اما القبول عند الله فهذا ليس من مهام الدولة.
هذه هي طبيعة الدولة الوطنية التي تدير شأن جميع مواطنيها بمقياس صارم الدقة في النظر إليهم جميعاً كأفراد متساويين في الحقوق و الواجبات العامة، و لعل هذا هو جوهر إعلان المبادئ الموقع بين رئيس الوزراء د. عبد الله حمدوك و القائد عبد العزيز الحلو باعتباره قد وضع الأساس السليم لتفاوض مثمر يقود إلى تحقيق السلام الشامل و المستدام، فالحرب لعنة تاريخية كللت بمقتها التاريخ الوطني منذ الاستقلال و حتى الآن، كما أن هذا الإعلان يلبي ما يطرحه الأستاذ عبد الواحد محمد النور الذي يطرح فكرة بناء الدولة الديموقراطية العلمانية كامر لا مفر منه للوصول الي السلام الشامل في البلاد.
نعود إلى مسألة المسارات التي ظهرت في اتفاقية جوبا الأخيرة و هو أمر لم يحالفه التوفيق في تقديري، فكل القضايا التي يتبناها مفاوضو هذه المسارات هي في الواقع من القضايا ذات الصلة المباشرة بغياب المشروع الوطني بشقيه السياسي و التنموي، لم ترق لي مثلاًعملية اقتسام المديرية الشمالية بين حركة تحرير كوش و كيان الشمال، كما أن مسار الوسط يبدو و كأنه ترضية للأستاذ التوم هجو، و لا ادري ان كان مساره هذا يشمل ما كان معروفاً في التقسيم الإداري للسودان بمديرية النيل الأزرق و التي أصبحت الإقليم الأوسط لاحقاً على ايام مايو ام يشمل ولايتي الجزيرة و سنار؟ كما تتردد إفادات لم تتحقق من صحتها أن من ضمن عضوية وفده للتفاوض في جوبا احد اقربائه من منطقة ريفي الحوش كان يشغل مقعد نائب الدائرة على قائمة المؤتمر الوطني في آخر مجلس وطني اسقطته الثورة باسقاطها للنظام المباد، فهل هذا مسار لتحقيق السلام؟
نقلا عن صحيفة التغيير الإلكترونية