الخروج من الذات لملاقاة الآخر! الحلقة (7) رِحْلتي مع مَنصُور خَالِدْ: الحرَكة الشَّعبية، والبَحْثِ عن السَّلام ووحَدَّة البلاد
الواثق كمير [email protected]
التجمع: الاجتماع الأوَّل من نوعه!
ثلاثة مواقف طريفة ما زالت عالقة بذهني أيام ذلك اجتماع التجمع الوطني الديمقراطي، الذي ذكرته في آخر الحلقة السابقة. أولهُما، أثار الأستاذ الرَّاحل التيجاني الطيِّب قضيَّة تسبَّبت في لغطٍ كبير وقادت إلى هرجٍ ومرج في قاعة الاجتماع، عطلت المُداولات إلى حين، حتى تمَّ تجاوُزها. فقد اعترض التيجاني على وجود د. بيتر نيوت كوك والأستاذ طه إبراهيم “جربوع” المحامي والأستاذ بشير بكَّار بحُجَّة أن التجمُّع الوطني أصلاً هو تحالفٌ للأحزاب السياسيَّة، بجانب الحركة الشعبيَّة والقيادة الشرعيَّة التي تمَّ التوافق على عُضويَّتها. وأضاف أنَّ الشخصيَّات الوطنيَّة المُتفق عليها في القاهرة تشمل فاروق أبوعيسى وبونا ملوال والواثق كمير، وليس من بينهم هذه الأسماء الثلاثة. اشتدَّ الجَّدَل وارتفعت الأصوات، وخرج بيتر وطه وبكَّار من القاعة وتبعتُهُم أنا وكنتُ مُنفعلاً جداً وقُلتُ للحُضُور: «إن كان الانتماء الحزبي هو شرط المُشاركة في هذا الاجتماع، فأنا نفسي لستُ بمُنتظم في أي حزب!».. بينما توقف الاجتماع للتشاوُر، غادرتُ القاعة مع الثلاثة، فلحق بي د. منصور بعد فترة وجيزة وأقنعني بالرُجُوع وأنَّ المشكلة قد تمَّ حلها. اتصل د. بيتر بالدكتور والتر كونيجوك، رئيس حزب المُؤتمر الأفريقي السُّوداني، الذي أبلغ المُجتمعين بأنَّ بيتر ممثل الحزب في الاجتماع، بينما سُمح لطه جربوع وبشير بكَّار بحُضُور الاجتماع. الموقف الثاني، اشتباك منصور مع التيجاني الطيِّب في موضوع: هل تُعطى الأولويَّة لحُقُوق الإنسان وحق الحياة، أم لحقِّ التنظيم السياسي كما كان يرى أستاذ تيجاني، بدون أن يفقدا الود الذي ظلَّ قائماً بينهما. أمَّا الموقف الطريف الثالث، أنه في تلك الأثناء، بدأت الأخبار تتوارد عن عزم واستعداد صدَّام حسين لغزو الكويت حتى وقع حقيقة في 2 أغسطس 1990، وكان مُشاركاً في الاجتماع تيسير مُدَّثر، القيادي في حزب البعث العربي الاشتراكي. فمع تباشير خبر الغزو، لم يُخفِ تيسير قلقه وتوتره الملحوظين وانغماسه في اتصالاتٍ تلفونيَّةٍ طويلة كانت تُبعده عنَّا لفتراتٍ مُتقطِّعة. أذكُرُ أننا كنا نلتقي مساء في بهو فندق الهيلتون، حيث كان يقيم، لتجاذُب أطراف الحديث و“الونسة” في حُضُور د. منصور وياسر عرمان ومبارك الفاضل ود. عزالدين علي عامر. ذكَّرني الصديق ياسر بأنه في أحد الأمسيات، بعد أن نصَّب صدَّام لعلاء حسين الخفاجي حاكماً على الكويت (المحافظة التاسعة عشر)، كنا نمزح مع الصديق تيسير، وأنني قُلتُ له: «يعني صدَّام بدلاً عن تعيين هذا العلاء (والمصباح السحري)، الذي لا يعرفه أو يسمع به أحد، مش كان أحسن ينصِّبك أنت يا تيسير؟!».
على نفس طول الموجة، كان موضوع العلاقة بين الدِّين والدَّولة من أكثر القضايا التي انشغل بها المُجتمعون، ولم تغِبْ حتى عن حواراتنا الخاصَّة مع منصور. ففي اجتماع الـ“غيون” هذا، احتدم الخلاف بين وفدي الحركة الشعبيَّة وحزب الأمَّة، حيث اعترض حزب الأمَّة على عبارة “فصلُ الدِّين عن الدَّولة”، وطالب باستبدالها لتقرأ: “عدم استغلال الدين في السياسة”، ممَّا زاد الأمر تعقيداً. منصور كان هو الشخص الوحيد الذي سعى لتفكيك العلاقة بين الدِّين والدَّولة وحثَّ الطرفين للبناء على المُشتركات بشأن هذه العلاقة. اقترح منصور على المُجتمعين أنَّ هذا الخلاف بين الطرفين حول هذا الأمر سينتفي تماماً إذا توافق الجميع على أربعة مبادئ أساسيَّة: أولها، المُواطنة أساسٌ للحُقوق والواجبات.. وثانيها، التعدُّديَّة عُنصُرٌ رئيس في التشريع ورسم السياسات.. ثالثها، تعهُّدات واتفاقيات ومواثيق حقوق الإنسان، الدوليَّة والإقليميَّة، صالحة للجميع والالتزام بها يُغلقٌ أبواب الجَّدَل.. ورابعها، جميع المسائل المُرتبطة بالأديان والمُعتقدات لا يتم البتِّ فيها عبر تغليب رأي الأغلبيَّة على الأقليَّة، أو اعتماد الأغلبيَّة الميكانيكيَّة، بل يتم حسمُها عبر التوافُق والإجماع. سطَّر منصور رأيه في العلاقة بين الدِّين والدَّولة في فُصُولٍ من كُتُبه المنشورة، وكتب عنها المقالات، وشكَّلت أساساً لإعلان نيروبي، الذي أصدره التجمُّع الوطني الدِّيمُقراطي، بحُضُور جون قرنق بنيروبي في 17 أبريل 1993، ومن ثمَّ لقرار علاقة الدِّين بالسياسة لمُؤتمر أسمرا للقضايا المصيريَّة في يونيو 1995. وأذكُرُ، وأشكُرُ للصديق نجيب الخير للاستذكار، أنَّ منصور قرأ لنا خلال إحدى استضافاته لنا في بيته أبياتٌ من قصيدة العم الأستاذ إدريس البنَّا احتفاءً بتوقيع الحركة الشعبيَّة على ميثاق التجمُّع في القاهرة، مارس 1990، خاصة وأنَّ القيادة المصريَّة رفضت طلباً من حُكُومة الإنقاذ لطرد المُعارضة من القاهرة «لما كايرو قالوا أبت بأنشاصا… وبقت القصة بعباصة… تركبي تمشي كنشاسا… عشان يا جبهة زي بوبي… تبوسي جزم في نيروبي…». تقع مدينة أنشاص (الرمل) على مسافة 35 كيلومتر شمال شرق القاهرة في المحافظة الشرقيَّة، مركز بلبيس، التي تضُمُّ عدد من المُنشآت العسكريَّة ومُفاعل مصر الأوَّل للطاقة الذريَّة، كما استضافت المدينة مُؤتمر القمَّة الذي أسَّس جامعة الدُّول العربيَّة عام 1949.
التعرف على منصور عن قرب!
للمفارقة، كانت أديس أبابا هي المدينة التي تعرَّفتُ فيها على منصور وجون قرنق صفاحاً لأوَّل مرَّة، ثمَّ التقيتهُما فيها لمرَّاتٍ أخرى عديدة، طُفتُ عليها أعلاه، منذ أغسطس 1986، كما عشنا فيها سوياً لشُهُور مُتتالية. ففي أثناء تواجُدي بأديس أبابا في أعقاب اجتماع الـ“غيون”، كُنتُ على تواصُلٍ مع أستاذي الصديق د. صادق رشيد، الذي كان مديراً لقسم الاقتصاد والتنمية الاجتماعيَّة في المُفوضيَّة الاقتصاديَّة للأمم المتحدة في أفريقيا. وعن طريق ترشيحه، تحصَّلتُ على عقدٍ استشاري من المُفوضيَّة، للفترة أكتوبر 1990 – فبراير 1991، للقيام بدراسة تحت عنوان: “حالة التنمية الاجتماعيَّة في أفريقيا في الثمانينيات وآفاق التسعينات: طرائق تنسيق السياسات وتنفيذها”. في نفس الوقت، وقبل أكتوبر 1990، قرَّر منصور الإقامة الدائمة في أديس، فاستأجر منزلا مؤقتاً حتى يبحث عن المنزل الذي يناسب ذوقه ويُلبي مواصفاته العالية. استضافني منصور فيه لأسبوعٍ كامل، إذ كُنتُ بدوري أبحثُ عن منزلٍ أقيمُ فيه لأداء مُهمَّتي البحثيَّة المكتبيَّة. ومن الصُّدَف الغريبة، ما أن عثرتُ على منزلٍ متواضع انتقلتُ إليه، على شارع جانبي من الشارع الرئيس المُؤدي لمطار “بولي”، وجد منصور ضالته في بيتٍ مُصمَّمٌ على الطراز الإيطالي.. تحفة من الجمال استهواها، يبعُد مني بأمتار لا يفصلنا إلا شارع المطار، ورَحَلَ إليه لنُصبح جيراناً لشُهُورٍ قادمات.
أوَّل ما عرفته عن منصور، أنه ليس من السياسيين الأقحاح، ممَّن عرفتُ أو سمعتُ عنهُم، وأثبتت الأيام المُقبلات صِدْقَ حدسي، فقد دامت علاقتي معه حتى غادر الفانية في مفارقة لمثل هؤُلاء السياسيين الذين لا سبيل لاستدامة العلاقات معهم. ومنصور من النادرين الذين لا يكتفون بإطلاق الأفكار، بل بتحويلها إلى مشروعاتٍ وسياساتٍ ملموسة، وبصياغة آليَّات تنفيذها. لم يكن منصور يُحِبُّ أن يُنعت بالسِّياسي، بل يكاد يحمله هذا الوصف على الغضب، ففي رأيه أن السِّياسة هي مهنة من لا مهنة له، والتي أصبحت، كما وصفها المعرِّي، “خساسة ورذولة وقلة عقل”. ويضيف أنه، بدلاً من التأفُّف من السياسة، كما فعل المعرِّي، آلى على نفسه استصحاب أي نشاط سياسي يُمارسه بعملٍ مهني حتى لا يُصبِحَ – على حدِّ قوله: «محترفاً لرياضة أضحت في السُّودان استخساءً للمرء لنفسه». لذلك، وطَّن منصور نفسه خلال فترة عمله في المُعارضة على أمورٍ ثلاثة: «الأوَّل، هو الانهماك في الكتابة، والثاني، هو إعطاءُ المزيد من الوقت للمُشاركة في النشاط الفكري الخارجي، والثالث، إرفاد السِّياسة في المجالات التي أُوكل لي العمل فيها أو الإشراف عليها بأفكار وطرائق العمل الحديثة». حقاً، كان هذا هو المنهج الذي اختطته والنهج العلمي الذي أتبعه في كل ما شاركتُهُ أو أسهمتُ فيه معه خلال مسيرة التجمُّع الوطني الدِّيمُقراطي، وفي طريق تطبيق أفكاره على أرض الواقع، والذي سوف استعرضُهُ في كُلِّ محطَّاته، قبل وبعد اتفاقيَّة السَّلام الشامل.
فبعد انتهاء اجتماعات التجمُّع في أديس أبابا، لم يكن منصور مهتماً كثيراً بالشأن السياسي والتنظيمي للتحالف، بقدر ما كان مهموماً بمحتواه من ناحية البرنامج والسياسات التي تُؤهِّله ليكون البديل لنظام حُكم الإنقاذ. فقد كان لمنصور اعتقادٌ جازم بأنَّ أي تحالُفٍ سياسي لا ينهض على برنامجٍ متكامل، ليس بجدير ليكون بديلاً للنظام الذي يعمل على اقتلاعه. فعقد العزم على صياغة وثيقة إستراتيجيَّة، تشمل البرامج والسياسات الكليَّة والقطاعيَّة. فشَرَعَ بهمَّة واهتمام باستدعاء عدداً من المهمومين والمهتمين من المهنيين من مختلف الخلفيَّات، وأصحاب الخبرة والتجربة، من معارفه شخصياً، ومن أولئك الذين قرأ لهُم ورسخت أسماءهُم في ذهنه، إضافة لبعض رجال الأعمال المُنشغلين بالأمر الاقتصادي. ضمَّت تلك القائمة: أستاذ فاروق المقبول، د. عبدالرحمن الطيب علي طه، د. علي محمد الحسن، د. علي عبدالقادر، د. سيد أحمد طيفور، د. إبراهيم حسن عبدالجليل، د. علي التوم، د. علي فضل، د. مصطفى خوجلي، أستاذ إبراهيم مُنعم منصور، د. أمين مكي مدني، الأستاذ عُمر شُمِّينا، المهندس أبو القاسم سيف الدين، السيد حسن إبراهيم مالك، السيد حسن قنجاري، السيد أنيس حجار. ساهم أغلب هؤلاء بأوراق حول الاقتصاد الكلي والقطاعات المختلفة من زراعة وصناعة وثروة حيوانيَّة، وبنياتها التحتيَّة، وقطاعي الاتصالات والمُواصلات، إضافة للمُوجِّهات الدُّستُوريَّة ونظام الحُكم والعلاقات الخارجيَّة. أشركني منصور معه في إعادة تحرير هذه المُساهمات وصياغتها في وثيقة ضخمة، فقدتُ نسختي منها لاحقاً في أبيدجان بعد إجلاء أسرتي منها عقب اندلاع الحرب الأهليَّة في 2002. هكذا، لم يكلِّف التجمُّع د. منصور للقيام بهذا العمل، بل هي فكرته التى انطلق لترجمتها على أرض الواقع دون إذن. ففي ذلك الحين أصلاً، كان التجمُّع بمثابة “اجتماعات متعدِّدة بين المُوقعين على ميثاق التجمع” حتى انعقاد مؤتمر أسمرا للقضايا المصيريَّة (يونيو 1995) بعد قرابة الخمس سنوات من ذلك الوقت، الذي توافقوا على هيكلته كتنظيمٍ تحالُفي. لا شكَّ، أنَّ ما بذله منصور من جهدٍ كبير في 1990 لم يضِعْ هدراً، بل شكَّل لاحقاً مرجعيَّة لـ“اللجنة التحضيريَّة” لمُؤتمر أسمرا.