“تس سليلة دبرفيل” لتوماس هاردي: فتاة ريفيَّة في تعاسة (9 من 9)

 

الدكتور عمر مصطفى شركيان
[email protected]

مهما يكن من أمر، فبينما كان أنجيل سائراً في الشارع، ألهمته نفسه أن يلتفت؛ فإذا هو يرى شخصاً مسرعاً وراءه، وكأنَّه يريد الالتحاق به، وإذا هو يعيد النَّظر إليه كرَّتين بعد اقترابه؛ ثمَّ إذا بهذا الشخص هو تس ذاتها. وإذ تخبر تس أنجيل أنَّها كانت تتابعه منذ خروجه من محطة السكة حديد، ثمَّ اعترفت له بأنَّها قتلت أليكس. إذ كانت تحكي هذا كله دون أن تشعر بشيء من النَّدم أو الحسرة. ومشيا على أمل أن يصلا ميناءً من الموانئ ويغادرا إنكلترا، ولكن حين وصلا مدينة من المدن الإنكليزيَّة، وجدا بيتاً يحرسه صبي، حيث قال لهما إنَّ سيِّدة البيت، التي هي امرأة عجوز، تأتي حين يكون الجو مشمساً لتتفقَّد البيت، وتفتح النوافذ للتهوية، ثمَّ تعود في المساء لتغلق النوافذ. وبما أنَّ الجو في شهر أيار (مايو) كان غير مطير قضى الاثنان خمسة أيَّام في هذا البيت، حيث خرج أنجيل في الصباح الأوَّل واشترى طعاماً كفاهما في فترة الإقامة الجبريَّة، ثمَّ أضافوا يوماً. وها هي السيِّدة تأتي في اليوم السادس وتعثر عليهما، وتخرج مسرعة إلى بطن المدينة، وذلك – بالطبع والطبيعة – لإعلام النَّاس عما رأت عيناها في بيتها.
ومن هنا يقرِّر الزوجان بأنَّ عليهما المغادرة فوراً، وخرجا من البيت ومن المدينة مترقِّبين، وفكَّرا مليَّاً في الذهاب إلى ساوثهامتون أو لندن، لكنهما قرَّرا أن يسيران إلى أقرب ميناء ويغادران البلد، ومضيا حتى مرَّا بمدينة ميلشيستر، وقرَّرا أن يدخلانها ليلاً في حين غفلة من أهلها، وسارا حتى وصلا إلى موقع ستونهينج عند مغارب الشمس. وقبل الهجوع إلى النوم، أمست تس تقول لأنجيل: “إذا حدث لي أي مكروه، أو فارقت الحياة، فأرجوك أن توعدني بأن تعتني بأختي ليزا-لو؛ فإنَّها لطيفة، وعليك أن تتزوَّجها، وإنَّها ستسعدك وتكون عوضاً لك عني، وإن تك قد ساءتك مني خليقةٌ، فإنَّ شقيقتي لسوف تكون أفضل مني خلقاً وحياءً، وإنَّ إشارة من جفونك إليها لتجدنَّها تقول سمعاً وطاعاً.” ومن ثمَّ غرق الاثنان في نومٍ عميق. وفي الصباح الباكر داهمتهما عصبة من 16 رجلاً، وتوسَّل أنجيل إلى هؤلاء الرجال أن يتركوها تكمل نومها. وما أن أيقظت من سباتها حتى قالت لهم لا شك في أنَّكم قد أتيتم في إثري بحثاً عني، وإنِّي لمستعدة.
وحين حصحص الحق، وقالت المحكمة قولها في مدينة وينتونسيستر في تموز (يوليو) جاء شخصان من ضواحي المدينة يسعان. تلكم المدينة التي كانت في عصرٍ ما عاصمة ويسيكس، ودخلا من الناحية الغربيَّة، وكانا يسيران سراعاً، وكأنَّهما غير مكترثين بمتاعب صعود الطريق، ثمَّ غير واعيين بما يحملان من الهموم. وكانا يبدوان على أنَّهما في عجلة من أمرهما في الابتعاد عن منظر المنازل مهما يكن من شأنها. فبرغم من أنَّهما كانا في طور الشباب، إلا أنَّهما كانا يمشيان ورأسيهما مطأطأين، وكانت أشعة الشمس تبسم على حزنهما بأسى غير تجمُّل. إذ كان واحد منهما هو أنجيل كلير، أما المخلوق الآخر الطويل الصدوق، الذي كان نصف فتاة ونصف امرأة، وفي صورة روحيَّة لتس، وأرقَّ منها، لكنها بنفس جمال عيونها، فهي شقيقتها ليزا-لو، وبدا وجهيهما الشاحبين منكمشين إلى نصف حجميهما الطبيعيين. وكانا يسيران يداً بيد، وبالكاد لا ينطقان ببنت شفة، وكان انحناء رأسيهما كأنَّهما حواريي غيوتو الاثنان.
وما أن وصلا مبنى من المباني، حتى أخذا يحملقان على برجٍ طويل، حيث ثُبِّت عليه عموداً. وبعد دقائق قلائل بدأ شيء يتحرَّك ببطء إلى أعلى العمود، وتمدَّد ذلكم الشيء بواسطة نسيم الصباح؛ وإذا بهذا الشيء يكون راية سوداء، وذلك إعلاناً بأنَّ سجيناً قد تمَّ تنفيذ حكم الإعدام عليه. ومن هنا أدرك أنجيل وليزا-لو أنَّ العدل قد جرى مجراه، وأنَّ رئيس الأحياء – في لغة إسخيليوس – قد أنهى رياضته مع تس، وأنَّ فرسان دبرفيل باتوا ينومون في مقابرهم دون علم بما جرى. إذ انحنى النَّاظران إلى الأرض في صمت مريب رهيب، وكأنَّهما يصلِّيان، وبقيا كذلك لفترة ليست بقصيرة دون حركة. واستمرَّت الراية ترفرف في صمت. وما أن استعادا قواهما، حتى نهضا، وأمسكا أيديهما كرة أخرى، ومضيا في سبيلهما.
بقي لنا هنا أن نقول كما قلنا من قبل إنَّ توماس هاردي (1840-1928م) هو ذلكم الكاتب الفيكتوري الألمعي، الذي اهتمَّ – فيما اهتمَّ – بتدوين حيوات النَّاس في المجتمعات الرِّيفيَّة الإنكليزيَّة. فهو روائي وشاعر واقعي تقلَّد جورج إليوت، وهو الذي كان قد تأثَّر في رواياته وشعره بالرومانسيَّة، علاوة على شعر وليام وردسورث، ثمَّ كان ناقماً على كثرٍ مما كان في المجتمع الفيكتوري، وبخاصة الأوضاع المتردِّية عند أهل الرِّيف البريطاني، مثل ما كان يعانيه القرويُّون في موطنه في جنوب-غرب إنكلترا. وقد امتاز أدبه النثري بدقَّة ورقَّة الوصف للطبيعة الرِّيفيَّة الخلَّابة، وأشجارها المورقة في الصيف والعارية في الشتاء، كما برع في وصف الشخصيَّات المحوريَّة في رواياته. فبرغم مما حملته رواياته من أحداث تراجيديَّة، إلا أنَّها كانت تمثِّل الواقع آنذاك، ولم يكد يستطيع أن يبدِّل من الأمر شيئاً. إذ يعتبر ما سطَّره يراع هذا المؤلِّف الأريب التأريخ الاجتماعي لمجمتع إنكلترا في العهد الفيكتوري.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.