متلازمة اللادولة فى السودان

بقلم عثمان نواى

 

 

ان هشاشة الأوضاع فى السودان تتخطى مجرد العمل على محاولة تحسين أداء الحكومة. هذه الهشاشة هى تعبير حقيقي وصادق عن واقع “الدولة السودانية” التى لازالت فى طور التكوين رغم أنها مر عليها مائتين عام من تاريخ دخول الحكم التركى إليها وانشائها كدولة مركزية. وعليه فإن حالة الشتات والتشظى والقبلية والهوس الدينى والنزاعات وحتى التدخلات الخارجية هى انعكاس لواقع دولة لم تتشكل بعد. كما ان القفز على هذه الحقيقة ومحاولة التعامل مع واقع السودان كدولة مركزية حديثة ناضجة هو قفز طفولى فى الفراغ وحرق للمراحل، كثيرا ما حرق فرص بناء هذه الدولة نفسها بشكل صحيح.

إن السودان لم يتمكن الى الان من تشكيل دولة تحتكر سلطة استخدام وسائل العنف واستخدام القوة وهى أولى لبنات بناء الدولة وأهم تعريفاتها، فلازال فى البلد مليشيات وقوى وحركات مسلحة خارج نطاق الدولة وقبائل مسلحة وقوى أمنية تعمل لمصالح قوى سياسية مثل الكيزان ، وجيش حكومى يقتل المواطنين اكثر من حمايتهم. بينما علاقات السلطة فى الحكومة ترتبط بشكل اساسى بعملية احتكار الفرص فى الوصول إلى الريع او الخراج الذى تتمكن الحكومة من الحصول عليه بحكم سلطتها فى تحصيل الضرائب والرسوم الحكومية وبيع بعض الخدمات العامة، واقتصاد غير منظم يتحكم فيه سوق اسود وجوكية واقتصاد ظل بنسبة تفوق ال ٨٠ فى المائة مقارنة مع الاقتصاد الرسمى . بينما الموت المجانى وعدم وجود قيمة للارواح البشرية هو أحد اهم مهددات قيام دولة من الأساس مع تدنى قيمة الإنسان الذى يجب أن تحميه وتكرمه الدولة . لذلك فإن هناك حاجة حقيقية للتوقف عن الادعاء بوجود دولة فى السودان والعمل بشكل جاد لإيجاد وسيلة عملية لجمع كل مكونات السودانيين للنقاش حول ما إذا كانوا راغبين فى صناعة دولة وماهى شروط تلك الدولة وشروط المواطنة فيها وكيف يمكن صناعة موازين تكافؤ تحقق تعايش جميع المكونات برضى تام.

وربما يستغرب البعض الحديث عن التساؤلات حول الرغبة فى بناء دولة حقيقية ،ولكن هذا هو أهم سؤال فى حلقات العمل للخروج من وضع السودان الراهن. فعلى مدى عقود، أصبحت الخبرات الوحيدة لكيفية العيش وإدارة الحكم وممارسة السياسة والاقتصاد وبل حتى إنتاج الفكر والثقافة، اصبح كل شئ مبنى على تشوهات السيولة الحالية وإمكانيات التكسب والعيش فى حالة اللادولة التى يعيشها السودانين منذ عقود. واصبحت الفوضى واللامؤسسية واللامساءلة هى الطرق الوحيدة التى يعرفونها لإدارة أمورهم بما يشمل ذلك من نزاعات وعنف وصراعات شخصية وقبلية وفساد وهوس دينى او ايدلوجى . ولذلك فإن التغيير فى اتجاه معاكس سوف يتطلب تضحيات وتعلم سبل جديدة للعيش ستكلف الجميع بعضا مما كسبوا من حالة سيولة اللادولة الراهنة، وغياب المؤسسات.

وتحتاج عملية التغيير وبناء دولة حقيقية ، اى دولة مؤسسات ،الى تعلم وصبر وكثير من التنازلات من الجميع. لذلك فإن هناك أهمية قصوى لان يقرر السودانيون ما إذا كانوا حقا راغبين فى ان يكون لديهم دولة حقيقية ، ام ان مكاسب اللادولة وانعدام المؤسسية الراهن يشكل أهمية ويحقق مكاسب اكبر لهم على المستوى الشخصي والعام . وهذا سوال موجه لكل فرد فى المجتمع من السمسار وتاجر العملة الصغير فى السوق العربى وحتى قادة الجيوش والقوى السياسية والقبائل والطوائف ، وهو موجه للافراد، لأنه فى غياب الدولة الحقيقية، تغيب المؤسسات ، ويصبح من الممكن لقرارات فرد واحد تحديد مصير شعب كامل. ولكن هو أيضا موجه للافراد لان اى تغيير حقيقي وجذرى لن يتم الا بقناعة عدد كافى من افراد المجتمع بأن هذا تغيير يحقق مصالحهم الفردية والجماعية وان يقرروا انهم مستعدين لدفع ثمن هذا التغيير، كما حدث فى ثورة ديسمبر وقبلها فى ثورات المقاومة فى مناطق الحروب فى السودان المختلفة .

لذلك فإن محاولة الاستمرار فى افتراض وجود دولة فى السودان والاستمرار فى إدارة الأمور على المستوى السياسي والفكرى وحتى الأمنى على هذا المنوال سوف يؤدى الى تلاشى فرص بناء دولة حقيقية مستقبليا. خاصة أن المحاولات العنترية لادعاء البعض وجود دولة تحت سيطرة مجموعات محدودة وعبر فرض نفسها بالقوة على مكونات أخرى سواء قوة السلاح او حتى قوة السلطة ، لم ينتج عنه سوى الحروب الأهلية والانفصال،وهذه اكبر هزيمة لسيادة اى دولة . ولذلك فإن اى امل في الخلاص يبدأ من ادراك عمق الهاوية التى يزحف فيها السودانيون جميعا منذ عقود.
[email protected]

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.