“تس سليلة دبرفيل” لتوماس هاردي: فتاة ريفيَّة في تعاسة (8 من 9)

 

الدكتور عمر مصطفى شركيان
[email protected]

وتمر الأيَّام ويعود أنجيل من البرازيل، وتسرع والدته إليه وتحتضنه في عاطفة الأم الرؤوف بعد طول غياب هذا الابن الولوف، ولكن ما أن تستعيد الوالدة وعيها وشعورها حتى تصرخ قائلة إنَّه ليس بأنجيل، وإنَّه لشخص آخر، وظلَّت بالكاد لا تعرف ابنها الذي أمسى هيكلاً عظميَّاً، وباتت لا تبين ما حدث له من الأمر شيئاً. لكن إنَّه لأنجيل، حتى لو بدا أنَّه تبرزل – أي صار برازيليَّاً في شيء ما – وقد أخبرهم أنَّه كان سقيماً في أعظم ما يكون السقم في الآونة الآخيرة، علاوة على وعثاء السفر. ثم بادر إلى الجلوس في الكرسي قبل السقوط على الأرض. وفي اليوم التالي أخذ يقرأ الرسائل بما فيها خطاب مريان وإزابيل، وكذلك خطابات تس التي كانت “تودِّيها تقول لا تمشي ولا حاجة” – والكلام الشعري الغنائي هنا للشاعر محمد علي أبو قطاطي.
خرج أنجيل كلير من منزل الأسرة بحثاً عن بعلته تس التي افتقدها ردحاً من الزمان؛ فإذا هو يذهب أوَّلاً إلى المزرعة التي كانت تعمل فيها في تالبوثيز، وبعد التسآل مستخدماً اسم الزواج – أي السيِّدة كلير – لم يهتد إلى شيء في بادئ الأمر، ولكن حين استعان باسم العذراء تس تذكَّرها سكان الديار في نهاية الأمر، وأخبروه بأنَّها قد ذهبت إلى أهلها في مارلوت في وادي بلاكمور منذ فترة ليست بقصيرة. وها هو أنجيل ينطلق مسرعاً إلى منزل أسرة تس في مارلوت؛ وإذ هو يجد في الدار مقيمين جدداً؛ وإذ هو يعلم أنَّ المقيمين السابقين قد ارتحلوا إلى حيث مضوا، وذلك بعد أن أفجعتهم المتربة، حتى أنَّهم لم يستطيعوا تسديد تكاليف مواراة جثمان أب الأسرة، الذي قضى نحبه، وذاك هو قبره، وقد قام بدفع تكاليف مراسيم الدَّفن رجلٌ خيِّر يسكن في أقصى المدينة. أما الأسرة فقد ارتحلت إلى كينغسبير.
ومن هناك ينطلق أنجيل إلى فاعل الخير ذاك ويسدِّد له تكاليف الدَّفن، ومن ثم ينطلق مشياً قاطعاً أميالاً من الطريق حتى وصل المدينة، واهتدى إلى بيت أسرة تس الجديد بفضل راشد. وها هو يطرق الباب، وتستقبله والدة تس، التي لم تكن مسرورة بلقائه. وحين سألها أنجيل عن تس راوغت في أوَّل الأمر، لكنها أجابت بأنَّها ذهبت إلى مدينة ساندبورن في نهاية الأمر. ويسألها هل هي في حاجة إلى المال، وتجيب بالنَّفي. ومن ثمَّ ينطلق أنجيل قاصداً محطة السكة حديد، ويستغل آخر قطار إلى ساندبورن، ويصل المدينة ليلاً، ويقضي ليلته في فندق. وفي الصباح أخذ يسأل ساعي البريد ورفيقه عن تس وعنوانها، وذلك باسم العذراء أوَّلاً، ثمَّ باسم السيِّدة دبرفيل، وإذ يخبره رفيق ساعي البريد عن عنوان البيت التي تقيم فيه هذه السيِّدة بهذا الاسم.
وينطلق أنجيل إلى ذلكم العنوان؛ فإذا هذه الدار ببيت ضخم فاخر كأنَّه قصر منيف. ومن هنا يعتقد أنجيل في نفسه أنَّ تسَّاً ربما جاءت لتعمل كخادمة لأهل الدار. وإذا كان الأمر كذلك، فعليه أن يدخل الباب من الخلاف. وبما أنَّ الوقت كان مبكِّراً فقد قرَّر أنجيل أن يطرق الباب من الأمام، ومن ثمَّ أقدم على ما انتوى، ففتحت السيِّدة بروكس الباب، وأخبرها بأنَّه يريد مقابلة تس، وإنَّه لأحد أقاربها. وما أن جاءت تس وعرفته، وبدت عليها علائم الغضب، حتى تفجَّرت فيه باكية شاكية بأنَّه أهملها طيلة هذه الفترة، وإنَّك قد أتيت متأخَّراً جداً، وإنَّه (أي أليكس) استغل فقر والدتي وإخوتي وأغواني، وامتلكني كما فعل بي من قبل، وقد قال إنَّك لسوف لا تعود إلىَّ أبداً، وهو الآن نائمٌ في الطابق العلوي، وعليك أن تغادر هذا المكان، وألا تعود هنا أبداً. ومن ثمَّ عادت تس إلى حجرتها بعد أن تحدَّثت هذا الحديث المر مع أنجيل في دهليز البيت، وأوصد أنجيل الباب خلفه وسار صوب محطة السكة حديد. وبما أنَّه كان عليه أن ينتظر ساعة ونصف الساعة لموعد مجيء القطار، فضَّل أن يسير راجلاً حتى المحطة التالية، ومن ثمَّ يستغل القطار من هناك. فخرج من المحطة بعد قضاء بضع دقائق، وأخذ يمشي تلقاء المحطة التالية.
وحين غادرها أنجيل وانصرف دخلت تس إلى غرفتها، وبكت من خلفه بكاءً شكيَّاً حتى فاضت دموع عينيها صبابة ووجداً، وشرعت تتوجع من الألم الممض، وتسبُّ القدر فالمحبة أقوى من قدر الزمان، وتجتر إغراءات وأكاذيب أليكس الذي ظلَّ نائماً في الغرفة المجاورة، تائهاً في بحور الشوق وأمواج الحنان، ثمَّ شرعت تتأمَّل في أحاديثه التي كان ظاهرها فيه الرحمة وباطنها من قبله العذاب. وما أن بلغ بها الحزن قمَّته، حتى ذهبت إليه وسدَّدت له طعنة نجلاء بآلة حدباء في قلبه، ومات أليكس غير مأسوف عليه، فشوفوا عمايل الحب في الحشا المخروق، ومن ثمَّ ارتدت ملابسها، وأخذت ما كان لديها من المتاع، وأوصدت باب الحجرة خلفها، ثمَّ خرجت دون وداع سيِّدة البيت بروكس. وإذ تنتظر بروكس لكي ينزل أليكس إلى الفطور. وبعد انتظار طويل ومريب، نظرت بروكس إلى السقف؛ فإذا هي ترى دماً وقد أحدث شكلاً مستطيلاً، وتسرع بروكس إلى الغرفة، وتطرق الباب دون جدوى، ثمَّ تسرع إلى أحد الجيران، وتحضر معه، ويفتحا الباب سويَّاً، ويتقدَّم الجار قبل صاحبة الدار؛ فإذا بأليكس جثة هامدة، وقد سدَّدت له تس طعنة مقضيَّة في صدره حتى وصلت القلب. إذ سرعان ما ينتشر نبأ القتل كانتشار النَّار في الهشيم، ويصبح حديث مجالس المدينة، الذين يكثرون الأقاويل والتأويل، ويستمتعون بالقيل والقال.

وللرواية خاتمة،،،

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.