السودان: تحديات عديدة تواجه تحقيق السلام على أرض الواقع

عثمان نواى

 

عجز القوى السياسية الداخلية في السودان يشكّل تهديدا خطيرا لعملية السلام ويجدد المخاوف من تفاقم العنف في البلاد

قضية السلام وإنهاء الحروب في السودان لطالما كانت على رأس اولويات ومطالب الثورة على المستوى الشعبي والسياسي خلال العامين الماضيين. ذلك أن السودان ظل يعيش حالة احتراب داخلي منذ سنوات استقلاله الأولى عام ١٩٥٦.

عملية الانتقال التى بدأت في البلاد قبل عامين هي حصيلة مقاومة مستمرة للسودانيين فى مناطق النزاعات وخارجها، توّجتها الثورة الشعبية التي انطلقت في ديسمبر ٢٠١٨ وادّت الى سقوط نظام عمر البشير بعد ثلاثين عاما من حكم عسكري إسلامي متشدد. تمكن السودانيون فى أبريل ٢٠١٩ من وضع بلادهم فى مسار انتقال ديمقراطي تطلب الوصول اليه تضحيات جسام بدأت بشكل تراكمي من الأطراف التى دخلت فى نزاعات مسلحة مع النظام فى محاولة للتغيير استمرت عقود، فقدت خلالها مناطق واسعة من السودان آلاف الأرواح.

وقد انفصل جنوب السودان عن السودان عام ٢٠١١ بعد نصف قرن من الحروب المتقطعة فيما دخلت مناطق جبال النوبة جنوبي البلاد بعد الانفصال في حرب مع النظام السابق. اما في دارفور فقد اشتعلت الحرب في عام ٢٠٠٣ أثناء المفاوضات على السلام في جنوب السودان.

كل الحروب التي خاضها السودانيون مع حكومتهم المركزية لها مسببات مشتركة، وهي أزمة الحكم المركزي الذي يهمش الأطراف ويلغي فرص قبول تعددية السودان الاثنية والثقافية والدينية. ولذلك كان حكم الإسلاميين المتشددين تحت نظام البشير هو الأكثر دموية في قمعه لحركات المقاومة في الأطراف التي ثارت على فرض عمليات الاسلمة الاصولية وفرض الثقافة العربية بالقوة على مواطنين من اثنيات أفريقية بالأصل، وقمع حقهم في التمسك بلغاتهم وتقاليدهم الأصلية، رغم اعتناق كثير منهم الإسلام المعتدل.

مرحلة جديدة
الاجيال الشابة التي صنعت الثورة ادخلت دماء جديدة فى العمل السياسي السوداني، وأكّدت على امكانيات التعايش والتوافق على تنوع السودان الثقافي والديني. فإن الثورة الأخيرة صنعت أرضية غير مسبوقة لوضع أسس لسلام دائم يحل النزاعات بين السودانيين، خاصة بعد إزاحة القوى الإسلامية المتطرفة من السلطة. وقد قامت شراكة سياسية بين قوى الحرية والتغيير، التحالف الممثل لكتلة الثورة من القوى السياسية المدنية، وبين المجلس العسكري في أغسطس ٢٠١٩، تم بموجبها توقيع اعلان دستوري نص على تكوين حكومة انتقالية مدنية ومجلس سيادي مشترك بين الجيش والمدنيين.

وقد تم تمثيل الشباب فى المجلس السيادي الانتقالي عبر بعض القيادات الشابة ومنهم عضو مجلس السيادة الانتقالي محمد التعايشي، والذي كان أحد ممثلي وفد الحكومة في العملية السلمية التي انتجت اتفاق جوبا للسلام الموقع في اكتوبر ٢٠٢٠.

الاجيال الشابة التي صنعت الثورة ادخلت دماء جديدة فى العمل السياسي السوداني، وأكّدت على امكانيات التعايش والتوافق على تنوع السودان الثقافي والديني

اما القيادات الشابة من جانب قوى المقاومة المسلحة في الجبهة الثورية والتي تمثل قوى من دارفور وجبال النوبة وغيرها فقد اسهمت في خلق روح تفاؤل والتزام مستمر بانهاء الحرب والنظر الى المستقبل، مصحوبة بمطالب مستمرة من الشباب في الشارع الذين استمروا في التحرك بالمطالبة بتحقيق السلام كأحد مطالب الثورة الشعبية.

وبعد توقيع اتفاق جوبا للسلام عادت من بعده تلك القوى للخرطوم في نوفمبر الماضي لتنفيذه، بينما ظلت حركات مسلحة أخرى خارجه، منها لازالت في مرحلة التفاوض كالحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة عبد العزيز الحلو ومنها التي لم تنضم للتفاوض بعج كحركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور.

ورغم توقيع الاتفاق ايذانا لبداية مرحلة جديدة من عملية الانتقال الديمقراطي في السودان، الا ان هناك تحديات كبيرة ما زالت تواجه العملية السلمية. حيث ان توازنات الشراكة الحاكمة للسودان بين الجيش والمدنيين ما بعد الثورة جعلت التوصل لاتفاق يشمل كل الحركات المسلحة أمرا معلقا.

فرصة للسلام
عادل شالوكا، احد قيادات الحركة الشعبية لتحرير السودان التي تسيطر على مساحات واسعة من الأراضي فى جبال النوبة والنيل الأزرق، رأى ان احد اهم أسباب تعثر الاتفاق مع الحكومة هو النقاش حول قضية علاقة الدين بالدولة. ويفسر شالوكا جوهر المشكلة قائلا، “تطرح الحركة الشعبية ضرورة إقرار مبدأ العلمانية وفصل الدين عن الدولة – والحكومة الإنتقالية تقول إنها متفقة على المبدأ ولكن يجب البحث عن صيغة أخرى غير هذه الصيغة. نحن من جانبنا نرى إن أي ضبابية في الصياغة يجعل مبدأ العلمانية غير ملزماً قانونياً في الدستور الدائم من حيث تحديد طبيعة الدولة والقوانين.”

أما في إقليم دارفور فقد بقيت حركة تحرير السودان خارج طاولة المفاوضات منذ بداية العملية السلمية. ويوضح عبد الحليم عثمان بابكر – القيادي بالحركة أسباب امتناعها عن الدخول في عملية السلام الجارية بقوله، “ان حركة جيش تحرير السودان لا تشترط شروط معينة إنما هنالك ظروف موضوعية لازمة الحدوث اولا حتى يتثنى لنا كسودانين الدخول في حوار أفقي موسع يتركز في جذور الأزمة السودانية ووضع حلول ناجعة وتطبيقها وفق معايير مطابقة للقالب السوداني الحقيقي. وهذه تحتاج الي إرادة وطنية خالصة.”

وعلق التعايشي عضو مجلس السيادة على تعثر ابرام الحكومة لاتفاق مع بقية الحركات المسلحة قائلا، “تحديات اكمال السلام مع الحركة الشعبية يحتاج لمزيد من التحاور لإتخاذ قرارات سياسية والتوافق على كيفية معالجة القضايا التي تطرحها الحركة، والتي تتعلق بعلاقة الدين بالدولة واتخاذ منبر التفاوض كاحدى آليات صناعة الدستور، ليتم التوقيع على اعلان المبادئ ومن ثم التوافق على الملف السياسي والإنساني والأمني.”

وأضاف التعايشي أنه بالنسبة لحركة جيش تحرير السودان “فهي لم تأتي الى طاولة مفاوضات السلام وتبشر بمبادرة سلام في الداخل ولكن الى الآن لم تطرح للحكومة اوالرأي العام.”

ولكنه أكّد انه، “رغم كل هذه التحديات هناك فرصة للسودانيين، لتحقيق سلام عادل وشامل يضع الحصان امام العربة لينطلق قطار التنمية بالسودان.”

عراقيل متعددة
بالإضافة إلى تحديات الاتفاق مع الحركات التي لم توقع بعد، فإن اتفاقيات السلام التي تم توقيعها بالفعل تواجه العديد من المهددات والعراقيل على رأسها أزمة التوافق الداخلي بين مكونات السلطة الانتقالية في السودان.

فقد اتفقت الأطراف الموقعة على مصفوفة زمنية محددة، من ضمنها تشكيل حكومة انتقالية جديدة وإعادة تشكيل مجلس السيادة، إضافة الى تعيين ولاة جدد فى الأقاليم وبدء عمليات الدمج والتسريح وتكوين قوات الحماية المشتركة فى دارفور لحماية المدنيين بعد خروج قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في ديسمبر الماضي. ولكن كل هذه الالتزامات لازالت قيد التأجيل.

تأتي مسألة التمويل في مقدمة التحديات خاصة مع تزايد الازمة الاقتصادية في البلاد

وفي حوار معه حول تأخر تنفيذ مصفوفة اتفاق السلام قال بشير ابو نمو، رئيس الوفد التفاوضي لحركة تحرير السودان بقيادة منى مناوي التي وقعت الاتفاق ووصلت الخرطوم مؤخرا، ” قضينا الآن اكثر من ثلاثة اشهر في السودان، وللاسف الأمور لم تبرح مكانها.”

وأضاف ابو نمو، “صحيح أن المناخ السياسي مختلف عما كان عليه خلال عهد النظام السابق، وأن هنالك رغبة حقيقية مشتركة اوصلت الناس الى التوقيع، ولكن هنالك جملة خلافات تعيق اصدار المراسيم الدستورية لتعيين موقعي السلام في السلطة، هذه الخلافات متشعبة بين تحالف الحرية والتغيير والاطراف الموقعة والمكون العسكري، والمحصلة النهائية هي تجاوز الكثير من الآجال المنصوصة في مصفوفة الاتفاق.”

وتأتي مسألة التمويل في مقدمة التحديات خاصة مع تزايد الازمة الاقتصادية في البلاد. ورغم ان اتفاق السلام تم برعاية من دول إقليمية مثل الإمارات، ورغم وجود شركاء دوليين تعهدوا بدعم السلام وعملية الانتقال الديمقراطي في السودان، إلا أن خطوات هذا الدعم تبدو اكثر بطئا من متطلبات العملية نفسها. وقد اشترطت بعض الدول مثل بريطانيا ربط دعمها للعملية السلمية بتوقيع اتفاق يشمل الحركات غير الموقعة وخاصة الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الحلو. وقد صرح بذلك السفير البريطاني في الخرطوم مما يعتبر أحدى آليات الضغط على الحكومة الانتقالية لاكمال السلام بشكل شامل.

ورغم ان اتفاق السلام الموقع في اكتوبر حدد مواقيت زمنية للتنفيذ الا ان عقبات التوافق بين الأطراف المتعددة عرقلت الإلتزام بتلك المواقيت. فلم ينجح شركاء الحكم الانتقالي بعد في تشكيل حكومة مشتركة تمثل الموقعين على الاتفاق وشركاء الحكومة السابقين من العسكريين والمدنيين.

ومع تعثر تشكيل هياكل الحكم حسب اتفاق السلام ، تبقى عملية التفاوض معلقة مع الأطراف غير الموقعة.

مرحلة خطرة
ومع تعدد الأطراف المشاركة في عملية الحكم بعد اتفاق السلام، يبدو ان السودان يدخل الى مرحلة احتقان سياسي ربما يقود الى حالة من عدم الاستقرار خاصة مع استفحال الأزمة الاقتصادية وارتفاع التضخم بنسب وصلت إلى اكثر من ٢٥٠٪ مطلع العام ومع انهيار مستمر في سعر صرف العملة وشح الوقود والخبز والامدادات الطبية مع تواصل انتشار وباء كورونا.

من ناحية أخرى فإن نذر العنف والعودة الى النزاع تظل تلوح في مناطق عدة على رأسها دارفور وشرق السودان. ففي غرب دارفور قتل اكثر من ٢٥٠ شخصا في نزاع قبلي ربما تدخلت فيه أطراف حكومية، حيث حذرت الأمم المتحدة من عدم الاستقرار في دارفور في ظل عجز الحكومة عن حماية المدنيين.

تعيش عملية السلام والانتقال الديمقراطي في السودان حالة من الهشاشة الخطرة تتطلب الكثير من الدعم الدولي والاقليمي خاصة على المستوى الاقتصادي والسياسي لتيسير الانتقال الديمقراطي وضمان إكمال عملية السلام. كما أن مخاطر دخول السودان في حروب إقليمية مثل التي تدور منذ شهرين في إثيوبيا، تهدد عملية الانتقال في البلاد بشكل كبير.

من ناحية أخرى فإن عجز القوى السياسية الداخلية عن إيجاد توافق واسع بعد دخول أطراف جديدة بعد عملية السلام وتأخر تشكيل هياكل الحكم، يجدد المخاوف حول إمكانيات تحقيق انتقال سلس كما كان يأمل الكثيرون. ورغم تحقيق بعض النجاحات فى إخراج السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب والتعهدات الدولية بتقديم مساعدات اقتصادية، الا ان البلاد تقف على حافة انهيار وشيك اذا لم يتم تقديم مساعدات عاجلة اقتصادية وسياسية.

وفي ظل هذه التحديات والمخاطر الماثلة، يقع على عاتق الجيل الجديد من الشباب الذين قادوا الثورة عمل ضخم من أجل المحافظة على الأمل.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.