معركة المناهج : صراع العروش
بقلم/ عثمان نواى
تربع على عرش المناهج التعليمية فى السودان منذ الاستقلال التوجه العربى والاسلامى الذى ظل ينظر إلى السودان على أنه دولة عربية او قابلة للتعريب حتى فى الأجزاء غير العربية منها. من ناحية أخرى اعتقدت الاسلمة المفروضة من الدولة تحت ذات الفرضيات الحاكمة ان بقية السودانيين يمكن أسلمته. لذلك كانت الرؤية الحاكمة لعملية بناء المناهج فى السودان هى عملية صناعة ” بوتقة الأنصهار” المتوهمة عبر مناهج تعليمية موحدة من جوبا الى حلفا ومن كسلا الى زالنجى. وليس من المستغرب ان كل المدن الأربعة المذكورة لا يتحدث سكانها العربية باعتبارها لغتهم الأولى بل هى لغة ثانوية بعد لغاتهم الأصلية، هذا ناهيك عن ان جوبا على سبيل المثال لم يمثل الإسلام فيها أغلبية ابدا وان مثل أغلبية فى المدن الأخرى. ومن هنا يظهر جليا ان معركة صناعة المناهج هى ابعد ما تكون عن مجرد مسألة تتعلق بصور او معتقدات دينية او ثقافية فقظ، بل ان صناعة المناهج هى إحدى اهم أدوات الحكم وتحديد هوية الدولة السودانية وشروط وتعريف المواطنة فيها.
فلقد ارتبطت المناهج بعملية صناعة المخيال الوطنى حول الانتماء الى السودان وهويته الثقافية و الدينية واللغوية وتوجهاته الأخلاقية والقيمية كشعب ومجتمع. ولذلك كانت مناهج التاريخ وعمليه كتابتها لها دور رئيسي منذ الاستقلال فى بناء الفكر السياسي وتصورات السودانيين عن ذواتهم الفردية والجماعية كدولة ومجتمع. يقول أمير إدريس فى كتابه النزاعات وصراعات الهوية : ” فى السودان بعد وقت قصير من الاستقلال فى عام ١٩٥٦ قامت الدولة بإعادة صياغة التاريخ الوطنى. فالابطال فى الفترة ما قبل الاستعمار والقادة الوطنيين ( غالبا من العرب المسلمين) تم إعادة اختلاقهم كممثلين الشعور الوطنى كما تم استخدامهم لتشجيع السودانيين على الإيمان بانهم يشاركون تجاربهم التاريخية. ففى السياق السودانى، التاريخ لم يكن ابدا حول الماضى بل كان حول وقائع الحاضر المتصارعة فالماضى تم إساءة تقديمه بشكل متعمد لخدمة أغراض الحاضر وهى : شرعنة الدولة المبنية على العرق.”
ومن المثير للاستعجاب ان المناهج التى اتخذت اللغة العربية كلغة اساسية في كل السودان، لم تعترف ابدا بأن البلاد بها اكثر من مائة مجموعة اثنية وأكثر من ٥٠٠ لغة يتم الحديث بها على طول السودان وعرضه قبل الانفصال. بل انها لم تعتبر ابدا ان هناك مجموعات تعانى ويتم التمييز ضدها وتتخلف عن ركب التعليم بسبب العوائق اللغوية التى تؤخر من قدرات التلاميذ فى مناطق جغرافية عديدة على مجاراة متحدثى العربية بالولادة او كلغة ام. بل لم يتم ابدا التفكير فى إعادة تقديم اللغة العربية والمواد التى يتم تدريسها بها لسكان تلك المناطق فى شكل مناهج “لغير الناطقين بالعربية”، حتى يتم الاعتراف علميا وعمليا بصعوبات التعليم التى يعاني منها غير الناطقين للغة العربية وأيضا لكى يتم تقديم تعليم يعينهم على التساوى مع رفاقهم المتحدثين بالعربية كلغة ام. ولكن هذا الإنكار لوجود لغات غير عربية فى السودان كان جزء من التوجه السياسي لاهم قادة النخبة الحاكمة تاريخيا ومنهم محمد احمد المحجوب والذى كتب فى كتيب له حول التاسيس للفكر السياسي السودانى بعنوان( الى أين يجب أن نتجه ) نشر فى عام ١٩٤١ قال المحجوب ” لكن الأمر الذى لاشك فيه هو ان الثقافة العربية هى الغالبة او على الاقل هى التى استحوذت على لب القارئين. وتتاثر بها عقليات الكاتبين. وان الدين الإسلامى الحنيف هو دين الاغلبية الساحقة فى هذه البلاد وهو الدين الذى قبلته قبائل الجنوب الوثنية بسرعة مدهشة. وأنه ليجل بى ان أعقد فصلا خاصا عن أثر الثقافة العربية والدين الإسلامى فى العقلية السودانية إتماما للبحث وتقريبا للمرمى النهائى الذى يجب أن تتجه صوبه الحركة الفكرية فى هذه البلاد حتى تأتى بالفائدة المطلوبة وتحقق امال المخلصين المتفانين أصحاب المثل العليا من أبنائها البررة.” ان مثل هذا اليقين بأن السودانيين شعب له لغة واحدة ودين واحد هو السبب الرئيس فى انفصال الجنوب بنسبة تصويت ٩٩ ٪ بعد ٦٠ عاما من كتاب المحجوب ، كذلك ذات الاتجاه هو الذى قاد الى النزاعات فى السودان ذات الجذور المتعلقة بالاستبعاد والتمييز الثقافى واللغوى. كما جعل اتفاق السلام الراهن يتطلب ٥ مسارات شملت كل إقليم فى السودان واحتوت جميع الاتفاقيات على ذات المطالب بضرورة احترام الثقافات المحلية بما فى ذلك اللغات المحلية.
ان التفاوت فى قدرة الطلاب على التحصيل فى مناطق السودان المختلفة لا ترتبط فقط بضعف القدرات المادية ولكن تتعلق أيضا بتصميم المناهج الذى يستبعد بشكل اوتوماتيكى غالبية السودانيين غير الناطقين بالعربية من أقصي الشمال الى الشرق الى الجنوب الى الغرب. من ناحية أخرى فى ان عملية تدريس التاريخ والجغرافيا كمحددات الهوية الثقافية ظلت تلغى جوانب التاريخ التى تعبر عن مناطق السودان المختلفة. بل وتجاهلت أبطال تاريخيين وغيبت الكثير من المحتوى الثقافى الغنى لشعوب السودان المتنوعة. ولذلك فإن مسألة تغيير وإعادة صناعة المناهج، لا تقل أهمية فى عملية الانتقال فى السودان عن عمليات السلام او عملية بناء الدستور. بل ان المناهج هى اول لبنة حقيقية فى بناء السلام وبناء التحول الديمقراطي او دولة المواطنة.
فمن خلال تلك المناهج يجب أن يتم انتزاع تشوهات الإنقاذ التى وطدت مفاهيم عنصرية وزادت تركيز المناهج على ما اساس دينى بشكل خاص، ولكن هذا لا يعنى ان مناهج ما قبل الإنقاذ كانت منهاج مثالية بل على العكس. ولذلك فإن معركة إعادة صناعة المناهج هى معركة إعادة بناء الهوية الوطنية وتاسيس القيم التى تحكم السودان فى مستقبله وحاضره. ولذلك وبغض النظر عن تفاصيل الأحداث الأخيرة، فإنه من الطبيعى ان تنشب معركة المناهج على اعلى مستويات الدولة ويبرز فيها درجات الاستقطاب السياسي والاجتماعى والفكرى فى السودان. وبينما يعتبر المتشددين الإسلاميين انهم انتصروا ،الا ان المعركة فى الحقيقة تتعداهم تماما. فهى لا تتعلق فقط بلوحة او صورة مرسومة فى كتاب تاريخ، ان المعركة تتعلق بكيفية إعادة كتابة تاريخ السودان والسودانيين ككل ،وبل بكيفية تصحيح تصورات السودانين، على تنوعهم، لأنفسهم وعلاقتهم بحاضرهم وماضيهم. ولذلك فإن معركة المناهج هى معركة سياسية اجتماعية وبنيوية هيكلية ، وردود الفعل التى تمت اثارتها مؤخرا إنما تؤكد على ان مستقبل الاجيال القادمة ومستقبل السودان نفسه يبدأ من تلك الكتب المدرسية . ولذلك فإن ما يجب أن يتم مقبل الايام هو عملية إشراك واسعة لخبراء سودانيين يمثلون كل ثقافات وكل المجموعات السودانية لكى يتم صناعة مناهج تمثل كل السودانين وتؤسس لحلول جذرية وسلام دائم ومواطنة متساوية.