كيف تم حكم السودان؟( ١): الخلل فى تأسيس هيكل الدولة

بقلم عثمان نواى

 

حاول السودانيون عبر عمليات التفاوض او الاقتتال،او حتى الثورة والانقلابات العسكرية الإجابة على تساؤل كيف يحكم السودان. ولكن دون النظر الى الطريقة التى تم حكم السودان بها منذ الاستقلال على الاقل، فإن الإجابة على تساؤلات كيفية حكم السودان مستقبلا تبدو بلا جدوى. وعندما يتم الحديث بشكل مسهب عن أزمة الحكم بما فى ذلك هيكلة الدولة ،يتم تجاهل الحديث عن هيكلة المجتمعات السودانية التى تحاول تلك الدولة حكمها.

فالدولة السودانية تهيكلت لتماثل بنية المجتمع السودانى المقسم اثنينا وثقافيا وسياسيا لكى تتشكل بنية الدولة لتعكس تلك الانقاسامات ،بما فى ذلك هيكلة العلاقة بين الدولة وبين المواطنين. تمكنت القوى الاجتماعية والاقتصادية الأكثر قوة على الهيمنة على قيادة الدولة كما كانت تهيمن على السيطرة على المجتمع. وهنا نقصد القوى المجتمعية القائدة الممثلة فى القيادات الطائفية الدينية والقيادات القبلية والتى توارث أبنائها عبر التعليم والوظائف فى عهد الاستعمار، قيادة مؤسسات الدولة سواء عبر الحكم او عبر المؤسسات الإدارية والخدمية التى تتبع للدولة .

بعد الاستقلال دخل الجيش كعامل جديد فى لعبة القيادة المجتمعية كممثل للسلطة الحديثة المسيطرة على السلاح والحق الشرعى فى استخدام العنف حسب قواعد الدول الحديثة. فقد استبدل الجيش تلك المجموعات القتالية المصغرة التى كانت تتبع للقيادات القبلية او الطائفية الدينية وتحمي مصالحها فى اطار سيطرتها الجغرافية المحدودة ولكن الجيش أصبح مؤسسة تحمى كامل الإطار الجغرافي للسودان، وهذه فرصة نادرة لم يكن يتصور أولئك القادة التقليديون الحصول عليها، اى الوصول الى قوى قتالية قادرة على حماية مصالحهم فى كامل اراضى السودان وليس فقط فى اطار مناطقهم الجغرافية المحدودة. ولذلك كان الجيش بالنسبة لتلك القوى الاجتماعية وسيلة توسع للهيمنة وحصد المكاسب دون خوف، وعلى امتداد جغرافية السودان، وهذا ما حدث بالضبط . ولذلك أصبحت تلك القوى التقليدية فى حاجة الى السيطرة على الجيش أيضا. وقد حدث ذلك عبر فترة قصيرة من السنوات اصبح فيها الجيش احد اهم المهن التى يتوجه إليها أبناء القيادات المجتمعية التقليدية او يوجهون إليها بعض الأفراد من الموالين لهم. ولذلك أصبحت مؤسسة الدولة المسيطرة على العنف، هى أيضا أداة فى يد شبكات القيادات المجتمعية التقليدية وأهم وسيلة لحماية مصالح تلك الشبكات على طول البلاد وعرضها. ولم تتوانى تلك الشبكات من استخدام الجيش وآله العنف الشرعية هذه فى محاولات الاخضاع والسيطرة على المناطق خارج سيطرتها التقليدية، وذلك فى سبيل اخضاع تلك المجتمعات بالقوة وحصد الموارد باقل التكاليف، ولذلك نشبت حروب بلا هوادة، أصبح الجيش نفسه من خلالها اهم مؤسسة تجارية تخدم مصالح أفراد فى الجيش نفسه وشركائهم من شبكات السيطرة المجتمعية.

اما الاقتصاد فى شكله الحديث، فقد تم السيطرة عليه أيضا عبر علاقات المحاباة والحكم الغير مباشر للاستعمار الذى بذل العطايا لشركائه فى الحكم بالانابة عنه، حيث نصب الاستعمار عدد من القيادات المجتمعية التقليدية سواء قبلية او طائفية فى بنية حكم غير مباشر واجزل لهم العطاء وفتح لهم أبواب التواصل مع الاقتصاد العالمى الحديث. فتمكنوا من توسيع ممتلكاتهم التقليدية من الأراضي الزراعية وتوسعوا فى السيطرة على مجالات الاقتصاد الحديث المرتبط بالعالم خاصة الاستيراد والتصدير. ولذلك فإن الاقتصاد السودانى منذ الاستقلال اتسم بطبيعة راسمالية، حيث كانت سيطرة الدولة محدودة جدا على الاقتصاد، الا فى اطار توجيه موارد الدولة نفسها لمنفعة المصالح الاقتصادية لشبكات المصالح من القيادات المجتمعية تلك. ولذلك فإنه لم يتم ابدا بناء دولة ذات طبيعة خدمية للمواطن، بل كانت دوما دولة جباية فشلت فى وضع بنية تحتية او بناء صناعات كبرى تقودها الدولة. حيث طبيعة الاقتصاد الفوضوية للدولة، تفتح مجالات أوسع لاستخدام موارد الدولة لخدمة بناء ثروات خاصة دون مراقبة من احد. فقد صاحب غياب الدولة الخدمية، غياب أيضا لبنية الحكم الديمقراطية التى تشرك المواطن وتخضع للمحاسبة. ولذلك فإن الانقلابات العسكرية التى سادت تاريخ الحكم الحديث فى السودان كان لها خلفيات اقتصادية مرتبطة بمصالح القيادات المجتمعية المهيمنة اكثر من علاقتها بتوازنات السياسة او حتى رغبة الجيش نفسه فى الحكم.
فقد وضح كتاب زراعة الجوع فى السودان لدكتور تيسير محمد على والذى تتبع عملية تطويع الدولة لخدمة شبكات المصالح المجتمعية، أوضح الكتاب ان عملية توزيع الأراضي الزراعية على القيادات المجتمعية التقليدية والحديثة نسبيا من موظفين واداريين وضباط جيش وشرطة فى عهد عبود كانت الأكثر توسعا على الإطلاق، واستمر الأمر فى عهد نميرى بذات النمط.

لذلك فإن بنية الدولة السودانية هى فى الحقيقة شبكة مصالح تلك القيادات المجتمعية بالتعاون مع الجيش الذى تسيطر على تركيبته القيادية هذه الشبكة أيضا. وبالتالى فإن ما نسميه الدولة السودانية منذ الاستقلال هى فى الواقع ليست اكثر من مؤسسة غير منضبطة وغير خاضعة للمحاسبة لاى جهة، وتدين بالولاء لصالح مجموعات قيادية اجتماعية معينة وتخدم مصالحها فى الاستمرار في السيطرة على الموارد الاقتصادية، وتستمر تلك القوى الاجتماعية عبر السيطرة على حكم الدولة.

فالدولة نفسها كانت أداة ثانوية لتثبيت المصالح وليست هيكلة عليا يملكها مواطنين السودان بشكل عام، بل هى عبارة عن كيان فوضوي وفضفاض يخدم شبكة القيادات الاجتماعية تلك عبر شراكة ثابتة مع الجيش الذى لا يتمتع باستقلالية عن تلك التركيبة المجتمعية المسيطرة. ولذلك فإن تغييب التحليل الاجتماعى لتركيبة علاقات السلطة والثروة فى السودان عن نقاشات السياسة والحكم هو في حد ذاته عملية تغطية ممنهجة لتأكيد استمرارية ذات النظام المعطوب لبنية الدولة الريعية التى تخدم مصالح شبكات محدودة مهيمنة. ولكى يتم التحرك للأمام، يجب تشريح وفهم وادانة ومن ثم تفكيك هذه البنية الاستغلالية لهيكلة لدولة السودانية. ويجب خلال هذه العملية رصد وتوضيح المستفيدين والخاسرين بدقة حتى يتم إعادة بناء هيكلة الدولة بطريقة صحيحة تنجح في إشراك كافة مواطنين السودان فى عملية البناء تلك كشركاء وطن ذوى حقوق كاملة.

ان اى عملية ديمقراطية لا تحتكم الى عملية إشراك المواطنين فى الوصول الى الموارد والتنمية الاجتماعية والاقتصادية بنفس قدر الوصول الى الحقوق السياسية، هى عملية تجميل لنظام مشوه وفاشل واستغلالى. ولذلك الشجاعة تقتضي مواجهة الخلل فى بنية وهيكلة الدولة منذ لحظة بناءها، وتطبيق تحليل اجتماعى لشبكات المصالح المستفيدة منها بهذا الشكل المعطوب منذ الاستقلال. وذلك قبل ان يتم موضعة الدولة وسؤال كيف يحكم السودان فى شكله السياسي الذى يحاول إخفاء المصالح الاقتصادية والتحيزات الاجتماعية والثروة والسلطة الموروثة من خلالها تحت غطاء مشاركة سياسية سطحية لا تشمل المشاركة فى الموارد والسيطرة عليها او تفتح النقاش حول إمكانية إعادة تقسيم ما تم الهيمنة عليه منذ عقود من قبل فئات معينة. وهذه هى عملية العدالة الانتقالية التر نحتاج الى لتحقيق تحول ديمقراطي مستدام فى السودان. فهى عملية شاملة تتجاوز العمليات المقتصرة على العدالة الجنائية، وتنفتح الى عدالة اجتماعية ومساواة حقيقية فى المواطنة والمشاركة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التى تتجاوز محتوى الورش والتدريبات الضعيفة التى تعرف المفاهيم وتترك الممارسات، و تتجنب النقاش حول الأسئلة الصعبة.

فى الجزء الثانى من المقال سنتحدث عن كيف تم حكم السودان فى عهد الكيزان وكيف كان حكمهم هو مواصلة لذات النمط الذى تحدثنا عنه هنا ولكن بتوسع اكبر وعنف اكثر.
[email protected]

تعليق 1
  1. محمد صالح (كبك) يقول

    البيوتات التي حكمت السودان تاريخيا هى التي وضعت السودان في هذا المآزق للمحافظة على إمتيازاتهم التي سلبوها من هذا البلد ،الوضعية التي يعيشها السودان والسودانيون الان هى وضعية مقصودة وممنهجة من صناعة الديناصورات المعروفين بأصحاب الإمتيازات التاريخية

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.