بيــــــــــان
The Congress of CUSH
مؤتمر كوش
الخرطوم – 22 أكتوبر 2022م
حول تصاعد أحداث العنف وخطاب الكراهية
أحداث مدينة لقاوة بجبال النوبة (جنوب كردفان) نموذجا
تناقلت الأخبار واستعرضت وسائط التواصل الاجتماعي مؤخرا تفاصيل مؤسفة عن اندلاع العنف في مدينة لقاوة بالجبال الغربية بجبال النوبة (جنوب كردفان)، ظاهريا بين إثنية المسيرية من جانب وإثنيتي النوبة والداجو من الجانب الآخر. وقد بلغت وحشية أحداث العنف درجةً دفعت عشرات الآلاف للفرار من المدينة.
تعود أسباب العنف ظاهرياً إلى محاولة إثنية المسيرية في أن يجعلوا مدينة لقاوة حاضرةً خالصةً لهم بنصب لافتات تحمل جملة “لقاوة دار مسيرية”، بالضبط كما فعلوا قبل فترة وجيزة في مدينة أبو زبد، ما أدى إلى مواجهات دامية بينهم وبين إثنية الحمر.
إن هذه الأحداث المتواصلة من حيث المواجهات بين العديد من الإثنيات التي تجمعها المشتركات الثقافية والتداخلات الاجتماعية، والتي كانت تعيش مع بعضها البعض في أمان، تشير إلى أن هناك أيدي خفية تحركها وتهندسها لتحقيق غايةٍ بعينها. وليس أدل على ذلك من حقيقة أن الهجوم على النوبة والداجو قد قامت به مليشيات من بعض شباب ورجالات المسيرية الذين كانوا يرتدون زي الدفاع الشعبي تعاونهم قوات مدججة بمختلف أنواع الأسلحة والمدافع من مليشيا الجنجويد المسماة بالدعم السريع؛ هذا بينما ضربت قوات الجيش السوداني حصارا حول المدينة، وهي لا تتفرج فحسب، بل تدعو المواطنين عبر مكبرات الصوت بمغادرة المدينة، ذلك بدلا من حمايتهم. وهذا ما يفتح المجال لإحتمال تكرار سيناريو حريق دارفور ومأساة النزوح واللجوء.
أدناه سوف نحاول إستعراض هذا التآمر الخفي الرامي لتفجير الصراعات والنزاعات الإثنية وتحويلها إلى حروب أهلية، في عدة مناطق ومدن وقرى، في الشرق وفي النيل الأزرق، وفي الجزيرة، وفي الشمالية، ليتكرر سيناريو حريق دارفور في باقي ربوع السودان. فبدلا من أن يتم إحتواء العنف في دارفور عبر إحقاق الحقوق، ها هي مأساة دارفور المتمثلة في غياب مؤسسة الدولة وقراها من الإنهيار تُتّخذ نموذجا تعميم في باقي أقاليم السودان.
إن هذا الوضع يحتاج إلى منظور كلّي لتحليله وفهم أبعاده، وليس لمنظور جزئي يحاول تحليل كل حادثة على حدة وبمعزل عن الحالات الأخرى. في هذا البيان سوف نتخذ من أحداث مدينة لقاوة مثالا يعكس جميع الحالات الأخرى، ذلك لإشتراكها في عنصر أساسي، ألا وهو ضلوع المليشيات الجنجويدية في إثارة الفتنة والعنف، بينما تقف أجهزة الدولة المدنية والعسكرية والشرطية والعدلية، في أفضل حالاتها، تتفرج كما لو كان الأمر لا يعنيها، وفي أسوئها تشارك بطريقة مكشوفة في العنف.
اجتماع جوبا بين وفد قيادات المسيرية وقيادة الحركة الشعبية
في شهر مارس من عام 2021م، قام وفد عالي المستوى يمثل القيادات الأهلية والشبابية لإثنية المسيرية الزُّرُق بقيادة الناظر الصادق حريكة عزالدين بزيارة لقيادة الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال بمدينة جوبا، عاصمة دولة جنوب السودان. كان الهدف من تلك الزيارة، مناقشة إغلاق حدود الأراضي المحررة، رعياً وزراعةً، في وجه المسيرية. وقد عكست تلك الزيارة تحولا كبيرا في موقف المسيرية تجاه الحركة الشعبية لتحرير السودان. فقد عبّرت قيادات المسيرية عن وعيها التام لمحاولات حكومات الخرطوم في إستخدام المسيرية كمخلب قط في حروبها التي تشنُّها ضد شعوب السودان. كما كشف ذلك اللقاء عن وعي المسيرية وإدراكهم التام لحقيقة قومية ووطنية الحركة الشعبية لتحرير السودان، وليس أدلّ على ذلك أنها تضم بين صفوفها عددا مقدرا من ابناء وبنات المسيرية من أدنى الرتب إلى أعلاها. إلا أن أخطر ما عكسته تلك الزيارة هي حقيقة أن طبيعة المداولات بين الطرفين قد أثبتت أن الحركة الشعبية لتحرير السودان يتم التعامل معها كحكومة مسئولة وليس مجرد حركة مسلحة قد استولت على مساحة من الأرض.
إنتهت الإجتماعات بين الطرفين بعدة تفاهمات لصالح الطرفين. وقد إتفق الطرفان على وجوب قيام وفد المسيرية بزيارة لمدينة كاودا، عاصمة الأراضي المحررة، لملاقاة حاكم إقليم السودان الجديد (الأراضي المحررة)، لوضع النقاط فوق الحروف وتنزيل ذلك الإتفاق إلى أرض الواقع. وبالفعل غادر وفد قيادات المسيرية عائدا إلى السودان، إلا أن تلك الزيارة المخطط لها لمدينة كاودا لم تقم حتى الآن، دون إبداء أي أسباب.
الضغوط على قيادات المسيرية لمواصلة استعمالهم كمخلب قط
لقد كان واضحا للجميع أن قيادات المسيرية التي قامت بتلك الرحلة التاريخية سوف يتعرضون لكل أنواع الضغط بغية إرجاعهم للمربع الأول ليخدموا كوكلاء حرب بالنيابة عن حكومات الخرطوم. كما كان واضحا أن تلك الضغوط سوف تبدأ بهندسة وتدبير اعتداءات محدودة ضد سكان مدينة لقاوة من غير المسيرية يقوم بها بعض أفراد من المسيرية وهم يلبسون الزي العسكري الرسمي. كما ستشمل تلك الضغوط عمليات عبور لداخل الأراضي المحررة من قبل نفس المجموعات المشار إليها أعلاه. وكل هذا لجرّ وتوريط مجمل مجموعة المسيرية الثقافية للحرب وحالة الإستقطاب الحاد ضد النوبة بما من شأنه توريط الجيش الشعبي في هذه الفتنة حتى يبرز بوصفه قوة نوبية في مواجهة قوة المسيرية. وهذا ما حدث بالضبط! ففي شهر سبتمبر الماضي قامت قوة صغيرة من المسيرية تنتمي لقوات الدفاع الشعبي (التي يفترض أنها قد تم حلُّها) بالعبور إلى الأراضي المحررة وهم بالزي العسكري وبكامل أسلحتهم. وقد تم أسر جميع أفراد تلك القوة ويبلغ عددهم 9 أفراد. وإستجابةً بمبادرة كريمة من رئيس دولة جنوب السودان (السيد/سلفا كير ميارديت)، وافقت الحركة الشعبية لتحرير السودان على الإفراج عن هؤلاء الأسرى خلال شهر أكتوبر الجاري وقبل أيام قليلة من بدء الإعتداءات في مدينة لقاوة. الجدير بالذكر بخصوص الضغوط الممارسة على قيادات المسيرية أنها لم تتمكن من توجيه الشكر لقيادة الحركة الشعبية لتحرير السودان لما قامت به من موقفٍ شهمٍ وكريم. كما يقف عفو الحركة الشعبية لتحرير السودان عن هذه الشرذمة المعتدية كدليل عن عدم تورطها في أحداث العنف في مدينة لقاوة؛ إذ ليس من المنطق أن تسمح الحركة الشعبية لتحرير السودان بفقدان كرت ضغط قوي كهذا إذا ما كانت تنوي التورط في إعتداءات لقاوة.
مشروع الكيزان لتفكيك السودان
شهدت فترة الثلاث أعوام الماضية سلسلة من متواصلة من المعارك الكلامية القائمة على خطاب الكراهية والعنصرية بين مختلف الكيانات الإثنية في السودان. وقد صاحبتها رسم سيناريوهات خرائطية لإنفصال عدة أقاليم عن بعضها البعض. وقد بدأت هذه الظاهرة التفتيتية والتفكيكية للوطن من تنظيم كيزاني عنصري بدعى العروبة والإسلام، بينما الإسلام والعروبة بريئان مما يخططون. وهذا هو نفسه مثلث حمدي – الترابي الذي كان الكيزان قد شرعوا في تنفيذه، ثم وقف المشروع بسبب قيام ثورة ديسمبر المجيدة. فقد أدرك الكيزان في أخريات أيامهم أنهم لن يتمكنوا من فرض سيطرتهم على كل السودان، حتى بعد تخليهم عن الجنوب وفصلهم له. لهذا قرروا فصل كل الأقاليم الطرفية والإحتفاظ بمنطقة المثلث المعلومة (من جنوب دنقلا إلى الأبيض والنهود وبارا، ومنها إلى كوستي، فسنار، فالقضارف، وكسلا مع شريط طولي يصلهم ببورسودان، وصولا إلى جنوب دنقلا). فقد أدرك الكيزان أنهم كيما يستمروا في حكم السودان، عليهم أن يعملوا على تفكيك السودان ودفع مؤسسة الدولة نحو الإنهيار. وقد شرعوا بالفعل، ولكن أوقفتهم ثورة الشعب المجيدة.
مشروع الإنقلابيين الكيزاني لإشعال الفتن بين إثنيات السودان تمهيدا لتفكيكه
لقد أدرك الإنقلابيون ومن والاهم من مليشيات الجنجويد أن مصيرهم، طال الزمن أو قصُر، سوف ينتهي بهم إلى المحاكم ليدفعوا ثمن جرائمهم النكراء التي إرتكبوها. وهذا ما حدا بهم إلى القيام بإنقلابهم الذي لم يفعل شيئا بخلاف تأكيد مخاوفهم تلك. فاليوم إنقضى عام مجيد كامل أثبت فيه الشعب أن نفَسَه الثوري لا نهاية له. وهذا بدوره جعل الإنقلابيين يستيقنون من أن مصيرهم سوف ينتهي إلى المحاكم. هنا ظهر دور الكيزان الذين لا يزالون متمترسين في مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية. فقد تواصلوا مع الإنقلابيين، مقدمين لهم روشتة الخروج من المأزق، ألا وهي دفع مؤسسة الدولة إلى الإنهيار. فهذه هي الحالة الوحيدة التي (إذا تحققت) سوف ينجو عبرها الإنقلابيون من دفع فاتورة جرائمهم. وهي نفسها الحالة الوحيدة التي يمكن للكيزان أن يحتفظوا بما نهبوه، وأكثر من ذلك أن يحلموا بإستعادة حكمهم. كيف؟ في حال إنهيار مؤسسة الدولة سوف تعُمُّ الفوضى وينقلب الجميع ضد الجميع. وعندها سيفوز بالرهان من في مقدوره إستعادة مؤسسة الدولة وإعادة النظام وحكم القانون، بصرف النظر عن هويته الفكرية أو العقائدية. وبما أن الكيزان يرون أنهم هم الأكثر مالا وتنظيما، مستعينين بتركيا وقطر، فإنهم سيكون في مقدورهم تنظيم جيش من بقايا داعش وما شابه، مثل بوكو حرام .. إلخ، ليستعيدوا به مؤسسة الدولة وإستعادة حكمهم.
هذا هو الإتفاق الذي توصل إليه الكيزان مع الإنقلابيين! ولهذا الإتفاق عدة خطوات، نجملها في الآتي:
أولا، إعادة الكيزان إلى مواقعهم بطريقة منظمة ومرتبة، ذلك حتى يشاركوا بفاعلية في تنفيذ مخطط انهيار مؤسسة الدولة؛
ثانيا، إعادة جميع الأموال والأصول المصادرة من الكيزان إلى أصحابها وكأن شيئا لم يكن؛
ثالثا، تدمير الإقتصاد بطريقة ممنهجة هي عين ما تقوم به وزارة المالية وباقة جوقة الوزراء المكلفين؛
رابعا، تدمير الأجهزة العدلية من قضاء ونيابة عامة بطريقة تجعلها تعمل لتحقيق الظلم، لا العدل، وبطريقة على عينك يا تاجر؛
خامسا، تدمير المؤسسة العسكرية عبر دمج كل المليشيات (الجنجويد والحركات) دون أي تسريح أو نزع سلاح، بالضبط كما نصت مسودة دستور لجنة المحامين التسييرية؛
سادسا، تبنّي سياسة التلاعب بالكلام والوعود المتكررة بترك السلطة للمدنيين، بطريقة تنطوي على “مَطْوَحة” قوى الحرية والتغيير، مستفيدين في ذلك من الدعم الدولي والإقليمي للأنقلابيين؛
سابعا، إشعال الفتن الإثنية، وتشجيع خطاب الكراهية والعنصرية القائمة ظاهريا على الإستقطاب العروبي في مواجهة الإستقطاب الأفريقي، ودعم هذين التيارين اللذين يمثلان وجهين لعملة واحدة. فالحقيقة الماثلة للعيان هي أن هذين خيارين أيديولوجيين لا علاقة لهما بصراع وتفاعل الثقافات السودانية المعافى، بما يشمل الثقافتين العربية والإسلامية السمحتين؛
ثامنا، توجيه الضربة القاضية لمؤسسة الدولة وذلك عبر التدمير المنهجي لمؤسسة الشرطة، ذلك لأن جهاز الشرطة هو الذي يربط ما بين الشعب ومجمل مؤسساته المدنية، وما بين المؤسسات العدلية (القضاء والنيابة العامة)، وما بين المؤسسات العسكرية الأخرى. فالشرطة جهاز ذو طبيعة مدنية وعسكرية؛ وبدون الشرطة تفقد المؤسسات العدلية جميع قدراتها؛ وبدون الشرطة، تعُمُّ الفوضى؛
تاسعا وأخيرا، إشعال الحرب الأهلية في باقي مناطق السودان، ذلك بغرض إعادة ترسيم الخريطة الديموغرافية في السودان لتكون لصالح المجموعات الأفريقية المستعربة على حساب المجموعات الأفريقية غير المستعربة، أي تكرار سيناريو حريق دارفور مع إستصحاب مأساة معسكرات النزوح واللجوء.
ختاما
إن ما يحدث الآن في مدينة لقاوة وفي النيل الأزرق، وما حدث من قبل في مدينة أبو زبد، وما حدث في بورسودان وكسلا والقضارف، وما لا يزال يحدث في دارفور من أحداث عنف ومصادمات إثنية لا ينبغي النظر إليها كأحداث متفرقة، لا رابط بينها، بل ينبغي النظر إليها عبر هذا المنظور الشامل. وضمن ذلك ينبغي النظر إلى مجمل خطابات الكراهية والعنصرية التي فشت هذه الأيام. وليعلم الشعب ان وزر هذه الموبقة يتحملها الضالعون فيها دون التفريق بين معسكر والآخر، ذلك لأنهم في حقيقتهم ليسوا سوى وجهي عملة واحدة، اسمها “العنصرية” ، والعنصرية كيفما تجلّت وكشفت عن نفسها أثبتت أنها لا وطنية ولا إنسانية، وهي أصلا عملة نافدة الصلاحية منذ منتصف القرن العشرين، ناهيك عن القرن الحادي والعشرين. وليعلم جميع الضالعين في خطاب الكراهية والعنصرية أنهم لا يختلفون عن بعضهم بعضا، مهما بدا ظاهريا أنهم ينقسمون إلى أكثر من استقطاب؛ فليعلم هؤلاء أنهم، بجانب سقوطهم في معيار الأخلاق والحضارة، ليسوا سوى كومبارس في مؤامرة ضد الوطن يخططها الإنقلابيون والكيزان.
إننا في مؤتمر كوش، في هذا المنعطف الخطير والسودان يقف في مفترق الطرق، بين أن يكون أو لا يكون، ندعو ونُهيب بجميع القوى الوطنية لإدراك خطورة هذه اللحظة الحرجة، ذلك حتى يتجاوزوا عن صغائر إختلافاتهم وضغائن منازعاتهم، ذلك كيما يلتقوا على كلمةٍ سواء لخصها شعار “الحصة وطن”! علينا أن نضع وحدة البلاد نصب أعيننا، ونجعل منها معيارا للكشف عن الخونة والكيزان لنعزلهم بعيدا من ألخطوط والجبهات الوطنية العاملة على إنقاذ الوطن، إيمانا منها بأن هذه الشعب العظيم يستحق الأفضل في كل المجالات.
النضال مستمر والنصر أكيد!
The Congress of CUSH
مؤتمر كوش
الخرطوم – 22 أكتوبر 2022