“هيروشيما”.. “نفحات” سلام وجمال من تحت الرُّكام “النووي”.

✍️🏿 عادل شالوكا

 

 

قادتني الصدفة وأنا أتصفَّح (ألبوم) الصور التي إلتقطتها خلال سفرياتي خارج السودان لأن أستعيد ذاكرة المدينة التي دُمِّرت – يكاد يكون بالكامل – في الحرب العالمية الثانية 1945. وفي نفس اليوم رأيت صوراً لمدن دُمِّرت فيها البنيات التحتية خلال الحرب الحالية (15 أبريل 2023) وخاصة في العاصمة الخرطوم. و(بالطبع تم تدمير أكثر من ذلك خلال الحروب السابقة). هذه المدينة زُرتها وأحببتها حتى اليوم بسبب عزيمة وإصرار أهلها للنهوض مرة أخرى والتقدُّم، بل وتقديم رسالة (السلام العالمي) لكافة الشعوب. ولعل ما جعلني أكتب عنها بعد حوالي (19) سنة، هو التفاؤل بان يوما ما يُمكن أن تخرُج بلادنا من ركام الحروب المُدمِّرَة التي تسبَّبنا فيها منذ العام 1955، ومن تسبَّب فيها بالطبع هي (النُخب السياسية) غير المؤَّهلَة لقيادة أو حُكم أو إدارة البلاد، وهي من قسمت وجدان الشعوب السودانية ومصيرها (سنتحدَّث عن ذلك في مقال لاحق قيد الإعداد). من ينظر إلى مدينة “جوبا” اليوم، فسيجد إنها ليست هي “جوبا” في عام 2004، ولا فريق “كرة السلة” بدولة جنوب السودان هو “فريق السودان” قبل (2011). وربما لم يتساءل البعض لماذا يفرح السودانيون بفوز منتخب جنوب السودان لكرة السلة، ولماذا يفرح شعب جنوب السودان بفوز منتخب السودان لكرة القدم؟ ولماذا لا زالوا يشجعون المريخ والهلال؟. واليوم يفرح السودانيين (المختلفين في كل شيء) بفوز منتخبهم (صقور الجديان)؟ هذا يحدث فقط لإدراكهم بأنه يمثلهم ك”شعوب” ولا يمثل “النخب” التي أشعلت الحروب على مر التاريخ وحولتهم إلى نازحين ولاجئين وباحثين عن “أوطان بديلة”. فلماذا لم يتألق هذا المنتخب عندما كانت هنالك “دولة”، والآن يتألقون “دون دولة”؟. فما هي المشكلة إذاً؟ وربما “اللبيب” لا يفهم بالإشارة.

في سبتمبر من العام 2005 بعد إتفاق السلام الشامل “نيفاشا” تم إختياري من ضمن فريق من الشباب السوداني (10 أشخاص) تم إختيارهم من وزارات (الخارجية، التعاون الدولي، الإستثمار، التجارة الخارجية، العون الإنساني) ومنظمات فئوية ضمت (الإتحاد العام للمرأة السودانية، إتحاد شباب السودان الجديد، الإتحاد الوطني للشباب السوداني، الإتحاد العام للطلاب السودانيين) لزيارة دولة اليابان في إطار التعاون بين البلدين لنقل تجربة اليابان وخروجها من الحرب العالمية الثانية وكيف حقَّقت تطوُّراً وتقدُّماً سريعاً مُتجاوزةً آثار الحرب ومُخلَّفاتها.

كنَّا إثنان نُمثِّل الحركة الشعبية لتحرير السودان (رئيس إتحاد شباب السودان الجديد بقطاع الجنوب، ورئيس إتحاد إتحاد شباب السودان الجديد بقطاع الشمال)، أنا ورفيق يُدعَى (مارتن) – لا أتذكر إسمه بالكامل – أتَى من جوبا مُمثِّلاً للشباب من قطاع الجنوب، وكنت أنا مُمثِّلاً للشباب في قطاع الشمال.

 

المُشرف على الفريق كان زميلي ودفعتي في جامعة الخرطوم “ماندي سمايا” الذي درس بكلية القانون وتخرَّج فيها بمرتبة الشرف الأولى وكان أول دفعته، وقتها كان “سكرتير ثالث” بوزارة الخارجية السودانية لذلك كُلِّف برئاسة الوفد. وكان أول من يفتتح الحديث مُتحدِّثاً بإسم الحكومة السودانية وبعد ذلك يُقدِّم بقية أعضاء الوفد للحديث. وهو حالياً يشغل منصب وكيل وزارة الخارجية بدولة جنوب السودان.

 

تم إخطارنا رسمياً عبر مؤسَّساتنا بالزيارة التي كانت مُفاجئة بالنسبة لجميعنا، فلم يخطُر على بال أيً منا زيارة دولة عُظمَى مثل اليابان في ذلك الوقت. بدأنا نبحث عن مُستلزمات الرحلة من الأصدقاء والأقارب (بِدَل، ملابس وغيارات، وجزمة مناسبة، شنطة سفر، ..ألخ) جزء كان “شدَّة” والباقي قِنعوا منو. قبل الرحلة بيومين تم دعوتنا إلى وزارة الخارجية التي دخلتها للمرة الأولى والأخيرة في حياتي، وهنالك قدَّم لنا مسؤول ملف آسيا في وزارة الخارجية بحضور الزميل ” ماندي سمايا” تنويراً عن علاقات السودان مع دول آسيا وخاصة اليابان، وقدَّم لنا شخص آخر مُحاضرة عن البروتوكول. وفي نفس اليوم تمَّت دعوتنا لتناول وجبة عشاء مع السفير الياباني لدى السودان، وهنالك قدَّم لنا هو وزوجته تنويراً عن عادات وتقاليد اليابانيين وكيفية التحايا وردها، والوجبات الرئيسية وكيفية تناولها (بالعصايات الإثنين)، كانت تجربة فريدة.

 

تحرَّكنا من مطار الخرطوم في تمام الساعة الرابعة صباحاً عبر الخطوط المصرية ووصلنا القاهرة حوالي السابعة صباحاً وذهبنا للفندق التابع للخطوط المصرية في إنتظار الطائرة التي سنُغادر بها إلى طوكيو. العندو قروش جرَى سوق “العتبة” وزاد ليهو (بدلة.. بدلتين). البقية فضلوا في الفندق منتظرين وقت الإقلاع. تحرَّكنا من مطار القاهرة حوالي الرابعة مساءً، وقضينا تلك الليلة ونهار اليوم التالي كللو و”ليلو” في الأجواء الطويلة عابرين عدة دول. وصلنا طوكيو في تمام السادسة صباحاً من اليوم الثالث (14 ساعة في الجو) في حين إن الرحلة من اليابان إلى الولايات المتحدة تستغرق حوالي (10) ساعات، لأن الأرض “كروية ومدوَّرة” مثل “كرة القدم. حيث قضينا ليلتان في الطائرة الضخمة التي تسع حوالي (405) راكب، وهي من طراز أيربص A330. كان الركاب من مختلف الجنسيات (مصريين، يابانيين، إيرانيين، صينيين، خواجات، أفارقة، هنود، …إلخ).

 

أُستقبلنا بواسطة مندوبي وزارة الخارجية اليابانية حيث ذهبوا بنا إلى مقر إقامتنا في فندق “برينس” – PRINCE HOTEL وهو فندق يقع في قلب العاصمة اليابانية وبجواره برج طوكيو الشهير.

في مساء يوم الوصول، قدَّم لنا مندوب وزارة الخارجية جدول الأعمال الذي شمل لقاءات مع: وزارة الخارجية، مركز النساء، مركز الشباب، المتحف القومي، مكتبة طوكيو العامة، قصر الإمبراطور، إحدى مراكز اللغة اليابانية، زيارة مدينة “هيروشيما” التاريخية، زيارة حدائق عامة، برج طوكيو، دعوات غداء وعشاء عمل مع جهات رسمية، وجبة عشاء في منزل السفير السوداني الذي قدم لنا “كسرة بالخضرة المفروكة وقُرَّاصة بالدمعة” وطلَّعنا من جو المأكولات الغريبة (طبعاً كلنا العشرة كنُّا في الفندق بنأكل Eggs and Fish وسلطة خضراء.. وفواكه، لأنو ده المضمون. السفير لما عايز يودِّعنا أدانا (أنا ومارتن) 200 دولار لكل، وقال لباقي الجماعة (إنتو ناس حكومة وديل جايين من الغابة)، كان لطيفاً وطيباً وبشوشاً. مشينا السوق ولقيناه غالي جداً بسبب إرتفاع دخل الفرد في اليابان – ما في علاقة بين إقتصادنا وإقتصادهم. إكتفينا بهدايا بسيطة للرفاق والأهل، كما إكتفينا بالنظر إلى العمارات الشاهقة وناطحات السحاب. عرفنا من السفير إنهم ينقلون العمارة من مكان لمكان تاني عااادي لو في طريق مفروض يمر بالعمارة في تخطيط جديد للطرق، والعمارات كلها عندها “يايات” بتحت، يعني لما يجي الزلزال، العمارة “بتنطط” لحدي ما تقيف براها بدون ما تتهدم. والضرر بكون بسيط خالص، يعني فقط، لو في “كباية” قاعدة في رأس “طربيزة” بتقع وتتكسر. واليابان إحدى الدول التي تقع في حزام الزلازل الذي يعرف ب”الحزام الناري”، أو (خط النار – Ring of Fire) ويمتد هذا الحزام من “تشيلي” شمالا على طول ساحل المحيط الهادي لأمريكا الجنوبية إلى المكسيك في أمريكا الشمالية، مرورا بالساحل الغربي للولايات المتحدة، إلى الأجزاء الجنوبية من “ألاسكا”، ويمتد ليشمل جزر “ألوتيان” في المحيط الهادي في اليابان والفلبين وغينيا الجديدة. وجزر جنوب غرب المحيط الهادي ونيوزيلندا. والدول الخمس الأكثر عرضة للزلازل في العالم هي (الصين، أندونيسيا، إيران، تركيا، واليابان) وفقا لأطلس العالم – World Atlas.

 

بإستثناء اللقاءات والإجتماعات الرسمية، فقد كانت زيارة مدينة “هيروشيما” أهم برنامج في جدول أعمال الرحلة التي إستغرقت (23) يوماً. تحرَّكنا في ذلك اليوم والكل يرسم في مخيلتِه صورة للمدينة التي شوَّقنا إليها السفير ومندوب وزارة الخارجية اليابانية. كان ذلك في تمام التاسعة صباحا، وكانت الرحلة بالقطار السريع وإستغرقت حوالي أربعة ساعات، وبعدها أخذتنا سيارتان إلى الفندق الذي قضينا فيه ليلتين. كان فندقاً فخماً “خمسة نجوم” ينزل فيه الزوار من كافة أنحاء العالم لمُشاهدة المدينة التاريخية وآثار الحرب العالمية الثانية – وأهمها “متحف السلام”.

 

ومن هنا تبدأ قصة المدينة التاريخية:

 

مدينة “هيروشيما” تقع في “جزيرة “أونشو” وتُشرف على خليج “هيروشيما”، وهي عاصمة محافظة هيروشيما وأكبر مدنها. إشتهرت عالمياً لأنها كانت أول مدينة في العالم تُلقى فيها قنبلة ذرية. يبلغ تعدادها حوالي (1,136,684) نسمة (2003). وهي حالياً مركز حضري كبير يشتهر بصناعة الآلات والسيارات (مازدا) بالإضافة إلى تجهيز الأغذية. القصف الذري على “هيروشيما” هو هجوم نووي شنَّته الولايات المُتحدة ضد الإمبراطورية اليابانية في نهاية الحرب العالمية الثانية في 6 أغسطس 1945 حيث قصفت الولايات المتحدة مدينتي (هيروشيما و نجازاكي) بإستخدام قنابل ذرية سميت بالولد الصغير (هيروشيما) والرجل البدين (نجازاكي) وكان ذلك بسبب رفض تنفيذ إعلان مؤتمر “بوتسدام”، وكان نصه أن تستسلم اليابان إستسلاماً كاملاً بدون شروط، إلاَّ أن رئيس الوزراء الياباني “سوزوكي” رفض هذا التقرير وتجاهل المُهلة التي حدَدها إعلان “بوتسدام” وبموجب الأمر التنفيذي الذي أصدره الرئيس الأمريكي “هاري ترومان” قامت الولايات المتحدة بإطلاق السلاح الذري “الولد الصغير” على مدينة “هيروشيما” يوم 6 أغسطس 1945 ثم تلاها إطلاق قنبلة “الرجل البدين” في 9 أغسطس من نفس الشهر. وكانت هذه الهجمات هي الوحيدة التي تمت فيها إستخدام الأسلحة “الذرية” في تاريخ الحرب. كانت النتيجة إستسلام اليابان، والخسائر لدى الولايات المتحدة وبريطانيا (20) أسير كانوا مُحتجزين في مكان إلقاء القنبلة، وحوالي (140,000) قتيل في “هيروشيما”، و(80,000) في “نجازاكي” بحلول نهاية العام 1945، حيث مات ما يقرب من نصف هذا العدد في نفس اليوم الذي تمت فيه التفجيرات ومن بين هؤلاء مات 15 – 20 % متأثرين بالجروح أو بسبب الحروق والصدمات والحروق الإشعائية يضاعفها الأمراض وسوء التغذية والتسمُّم الإشعاعي. ومنذ ذلك الحين، توفى عدد كبير بسبب سرطان الدم (231) حالة والسرطانات الصلبة (334) حالة نتيجة التعرض للإشعاعات المنبثقة من القنابل. وكانت معظم الوفيات من المدنيين. وقد زُوِّدت الأسلحة الذرية المُستخدمة في هجمات 1945 باليورانيوم (235) والبلوتونيوم (239) مما أدى إلى إطلاق كمية هائلة من الحرارة وإشعاءات (غاما) ذات الموجات القصيرة والذي إنتقل أثناء الإنفجار كطاقة حرارية يمكن أن تصل إلى (5,538) درجة مئوية. ووفقاً للجمعية النووية العالمية، كان الإنفجار الصادر عن قنبلة (الولد الصغير – The Little Boy ) ا لتي ضربت مدينة “هيروشيما” يعادل إنفجار (16,000) طن من مادة (TNT). وكانت الولايات المتحدة قد إستهدفت المدينتين لأهميتهما العسكرية.

 

بعد ستة أيام من تفجير القنبلة النووية على “نجازاكي”، في الخامس عشر من أغسطس أعلنت اليابان إستسلامها لقوات الحلفاء، حيث وقَّعت وثيقة الإستسلام في الثاني من شهر سبتمبر، مما أنهَى الحرب رسمياً، ومن ثم نهاية الحرب العالمية الثانية. كما وقعت ألمانيا وثيقة الإستسلام في السابع من مايو 1945 مما أنهَى الحرب في أوربا. وقد جعلت هذه التفجيرات اليابان تعتمد “المباديء الثلاثة غير النووية” بعد الحرب، والتي تمنع الأمة من التسلُّح “النووي”. ولكن رغم ذلك إحتفظت (9) دول بأسلحتها النووية وطوَّرتها بتحديث ترسانتها النووية، وقد نشر بعضها أسلحة نووية جديدة أو ذات قدرات نووية في العام 2003. وهذه الدول هي: (الولايات المتحدة، روسيا، المملكة المتحدة، فرنسا، الصين، الهند، باكستان، كوريا الشمالية، وإسرائيل). وبعض الدول الأخرَى تسعَى حاليا لإمتلاك هذه الأسلحة للسيطرة على الكرة الأرضية، أو في أحسن الأحوال تحقيق التوازُن العسكري.

 

نصب هيروشيما التذكاري:

 

كان نصب “هيروشيما” التذكاري للسلام في (قبة جينباكو) والذي كان يُعرف سابقاً بـ(قاعة الترويج الصناعي) لمحافظة هيروشيما، أحد الهياكل الوحيدة المتبقية بد إنفجار أول قنبلة ذرية في العالم. ويقع منتزه “هيروشيما” التذكاري للسلام، حيث النصب، في وسط مدينة هيروشيما. وقد تمت المحافظة على الشكل الذي كان عليه بعد قصف القنبلة، وذلك بفضل جهود حثيثة، نذكر منها جهود سكان “هيروشيما” الذين يتطلَّعون إلى السلام الدائم والتخلُّص نهائياً من الأسلحة النووية كافةً على الكرة الأرضية. فهذا النصب رمزٌ متين وصلب للقوة الأكثر تدميراً التي إخترعها الإنسان حتى الآن، وفي الوقت نفسه رمز لجنوح الإنسان نحو السلام. ويقول اليابانيون (إن جحيم القنبلة النووية يجب ألَّا يتكرَّر أبداً). وخلال زيارتنا للمتحف التذكاري، إستمعنا لإفادات بعض الناجين وعمدة المدينة.. وآخرين. والآن إستطاعت اليابان أن تنهض من تحت أنقاض وركام القنبلة الذرية وتتقدَّم الشعوب في كافة المجالات الصناعية والخدمية.. والتنمية بصورة عامة.

 

الدرس: كيف نحوِّل “الدمار”.. لسلام وجمال ونهضة وتقدُّم في إطار دولة “تسع الجميع”. وأرجو أن يتعلَّم السودانيين في هذه المرة، ليعوا “الدروس” وليس “درس واحد” إن الحروب نتائجها “الدمار”.. فلتكُن هذه آخر حرب في السودان إذا إستمر بحدوده الحالية. ولكن “كيف” ؟ كما تغنت فرقة “عقد الجلاد”.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.