هنا يرقد السلطان عجبنا ورفاقه
الدكتور عمر مصطفى شركيان
[email protected]
لقد اتَّصل بي شخص لم أكن أعرفه من قبل، ثمَّ لم أسمع به قطعاً، لكنه ربما قد سمع بي من قبل، وبخاصة إنَّه يعمل في المنطقة التي تعلَّمت فيها يافعاً، وعدت إليها للتدريب مدرِّساً، ثم رجعت إليها كرَّة أخرى معلِّماً، ولي فيها كثر من الأصحاب والمآرب. فقد كتب الغريب المتَّصل بلغة إنجليزيَّة رصينة لا تشوبها شائبة. أجل، لقد انبهرت من سلاسة اللغة التي كتب بها صاحبنا تلك الرِّسالة، التي يبدو أنَّه اكتسبها في مدارس السُّودان الجديد في جبال النُّوبة، والمنهج التعليمي الذي يتمُّ تدريسه للنشء في تلك المدارس. ونحن فيما نقول ذلك ندري وندرك الدرك الأسفل الذي أوصلت إليه حكومة الإنقاذ التربية والتعليم في السُّودان. على أيِّة حال، إذ تبدو في الرِّسالة إيَّاها الحميَّة التاريخيَّة والشهامة النُّوبويَّة. إذاً، من ذا الذي يكون ذاك الرَّاسل المتَّصل؟ وماذا أرسله لنا حتى طفقنا ندوِّن هذه الأسطر القليلة في الكلمات والعظمية في العبارات؟
هذا الرَّفيق الرَّاسل الراكز يُدعى عبد الكريم يوسف سلوار، وهو المشهور باسم سلوار، وهو من أبناء قرية كُرمتي، ثمَّ إنَّه عضو في هيئة التدريس في معهد السياسة والقيادة بمنطقة جُلُد. تجدر الإشارة إلى أنَّ قرية كُرمتي تقع في قلب جبال الأما (النيمانج)، وتبعد بضعة أميال من منطقة سلارا؛ تلك البقعة التي درسنا في مدرستها الثانوية العامة (المتوسطة لاحقاً) ونحن في مقتبل الشباب، حيث كنا نهرب ليلاً في الليالي المقمرة أو المظلمة إلى منطقة كلارا لمشاهدة رقصات الفرنق، ونعود قبل بزوغ الفجر لنستعد للدراسة. إذ كنا نضع أمتعتنا في داخل أسرتنا، ثمَّ نغطيها بالبطانيَّات حتى يظن الطالب المسؤول في الداخلية بأنَّنا نائمون، ونكثر في الغطيط، ومن ثمَّ لا يُكتشف أمرنا ونكون من الخاسرين العاصين للوائح المدرسيَّة، ونتعرَّض إلى العقاب الأليم. وإنِّي لأتذكَّر في ذلك الرَّدح من الزمان أنَّ الفتيات كنَّ يتحدثن إلينا بلغة الأما؛ تلك اللغة التي كنا لا نفقه من أمرها شيئاً، وسرعان ما يكتشفن أنَّنا طلاب المدرسة الثانوية، وأنَّنا من غير قبيل الأما.
مهما يكن من شيء، فقد أرسل سلوار صوراً لمقابر شخصيَّات تاريخيَّة، وأردف مع تلك الصُّور رسالة مفادها “عسى أن تسعفك هذه الصُّور، وتلهم ذاكرتك لكتابة التاريخ الصحيح عن السُّودان عامة، والمنطقة بشكل خاص.” إذ أنَّ أيَّة أمَّة لا تعرف تاريخها لا تحسن صياغة مستقبلها. بيد أنَّ مما زاد إعجابي بهذا الرفيق الإسفيري أنَّه يحمل عقلاً تحرُّريَّاً، وهو ينتمي إلى شباب السُّودان الجديد. وعودة إلى الصُّور الثلاث فإنَّها عبارة عن مقابر – كما أسلفنا ذكراً – لقادة تاريخيين ومقاتلين أشاوس حاربوا السلطات الاستعماريَّة حرباً شعواء في جبال الأما العام 1917م: ففي المقبرة الأولى يرقد رفات وزير السلطان عجبنا يومذاك، أو ما يمكن نعته بالمستشار في هذا اليوم، وهو سلباي (سباي) كيلكون. إذ ما زال الأهالي يعتنون بها بعد مضي أكثر من خمسة ومائة عام، وقد تمَّ تجديد بنائها في 21 شباط (فبراير) 2022م. أما المقبرة الوسطى فهي للسلطان عجبنا، وهو أحد أشرس معارضي السلطة الاستعمارية البريطانيَّة في ذلك الحين من الزمان، ثمَّ هو الذي تمَّ إعدامه مع وزيره السالف ذكره العام 1917م. أما الصورة الثالثة فهي عبارة عن مقبرة جماعيَّة لعدد 200 مقاتل استشهدوا في المعارك الضارية، وفي حومة الوغى، وتمَّ دفنهم في منطقة تُنديَّة على مفترق الطرق: يبدأ الطريق الأوَّل وينتهي في سوق ورنغي، والثاني يؤدِّي إلى أنقيلفا.
لا ريب في أنَّ حياة هؤلاء الثوَّار تستلفت الانتباه، وتدعو الباحث إلى نبش خباياهم. لقد أبدى هؤلاء المقاتلون ضروب البسالة، فلم تثنهم الآلة العسكريَّة للحكومة الاستعماريَّة، ولم تلن لهم قناة، ثمَّ كانوا – كما شهد لهم الأعداء والأصدقاء – موضع الإجلال والتوقير. بلى، وهم الذين تركوا دويَّاً في عصرهم، ودوَّخوا الدولة الاستعماريَّة في ذلك الحين من الزمان، حتى ولئن لم يرد ذكرهم في وجهة النظر الرسميَّة التي ترضى عنها الفئة الحاكمة، أو هي تتماشى مع عقليَّة كتَّابها من العلماء الذين يؤرِّخون للأحداث، ويتفهَّمونها بوحي من الورع التقليدي. ومع ذلك، إذ هم أهل لنا بالإعجاب، وموضع للتقدير.
الجدير بالذكر أنَّنا سردنا سيرة ومسيرة السلطان عجبنا النضاليَّة بشيء من التفصيل شديد في سفر ضخم، ونشرناه في لندن بعنوان “في النزاع السُّوداني.. عثرات ومآلات بروتوكول جنوب كردفان والنيل الأزرق” العام 2015م. حينما عكفنا على دراسة ثورة السلطان عجبنا، طلبنا معلومات أرشيفيَّة من دار الوثائق البريطانيَّة، وقد أرسل لنا القائمون بالأمر جزئين من ثلاث أجزاء مع رسالة مفادها أنَّ الجزء الثالث محظور، ولكن بعد أسبوعين تمَّ فك الحظر، وأرسلوا لنا الجزء الثالث، ومن ثمَّ طفقنا نسأل أنفسنا في أنفسنا: لِمَ حظر هؤلاء الإنجليز هذا الجزء الأخير، حتى رأينا أنَّ هذا الجزء كان يحمل صوراً للإعدامات الميدانيَّة للسلطان عجبنا ووزيره كيلكون، وكانت صور الإعدامات لا تمت إلى الإنسانيَّة بصلة.