هل من شركاء وضامنين دوليين لسلام جوبا؟ “1-2”

أحمد حسين آدم

ربما يرى بعض المراقبين أن السؤال الأكثر إلحاحا هو: هل هناك مستقبل للوطن فى ظل المشكلات والتحديات المصيرية والوجودية التى يعيشها تحت الوضع الانتقالى الحالي؟ مهما يكن من أمر فإن قضيتى الانتقال السياسى والسلام الشامل والعادل متلازمتان ومرتبتطان ارتباطا عضويا. إذ إنه لن يكون هناك مستقبل لما تبقى من السودان من غير سلام شامل متفق عليه. وهنا لا أقصد سلام جوبا وحده، فإنجاز وتطبيق السلام الحقيقى هو الطريق الأوحد نحو الحفاظ على سودان موحد، ونجاح الانتقال السياسى فيه. لذلك فقد ظللت أردد باستمرار فى كل مداخلاتي وحواراتي بأن ثورة ديسمبر 2019 ربما تكون الفرصة الأخيرة للسودانيين لمعالجة جذور الأزمة الوطنية المتطاولة، وظلم و قهر دولة ما بعد الاستعمار التى فشلت في أن تكون لكل متساكنيها وفقاً لمواطنة متساوية، بل هي الدولة التي تحولت إلى أداة للابادة الجماعية ضد قطاعات عريضة من مواطنيها العزل.

لا شك أن وثيقة السلام التى أنجزت بين الأطراف السودانية فى مدينة جوبا، عاصمة جنوب السودان، تعد خطوة إستراتيجية مهمة فى الاتجاه الصحيح ويجب أن يرحب بها كل الباحثين عن السلام، وبناء سودان جديد عادل وحر و ديمقراطي، ويكون موطنا لكل شعوبه وأقوامه. فسلام جوبا إذا تم إكمال خطوات شموله وتوسعة مظلته وتنفيذه كاتفاق شامل لكل الناس والضحايا بعيداً عن الأطماع والانحيازات الإثنية الضيقة وغيرها سيكون خطوة ولبنة مهمة نحو إنهاء الحروب وتحقيق السلام والعدالة والتحول الديمقراطى والإصلاح الاقتصادى على نطاق السودان. صحيح أن العبارات الصياغية الضبابية فى بند العدالة خاصة في ما يلي تسليم المتهمين للمحكمة الجنائية الدولية قد أضعف الاتقاق. ذلك أن قضية العدالة الجنائية الدولية جوهرية للضحايا، وكذا بناء واستدامة السلام. غير أن الاتفاق قد احتوى على قضايا أخرى كبرى تتعلق بجذور الأزمة السودانية، مثل الظلامات التاريخية وقضايا الحكم والعدالة الاجتماعية ودسترة التنوع والاعتراف وإعادة الاعتبار للأدوار والمساهمات التاريخية والراهنة لأقوام وشعوب عريضة فى السودان.

بيد أن المشكلة ليست فى صياغة النصوص الجميلة على وثائق اتفاقات السلام. فالعبر والدروس التى تعلمناها من التاريخ السودانى الحديث تكشف أن الاتفاقيات لا تحترم ولا تنفذ، و أن كثيرا من النخب المتنفذة فى المركز ظلت تنقض عهودها ومواثيقها التى تلتزم بها في اتفاقيات السلام. ولعل هذا ما دفع سياسيا و قانونيا ورجل دولة مرموق مثل مولانا أبيل ألير إلى أن يسطر كتابه الشهير ” اتفاقيات كثيرة قد تم نقضها” Too Many Agreements Dis-honored.
صحيح أن مسؤولية تطبيق اتفاق السلام يقع على عاتق جميع أطرافه، لكن التجربة التاريخية علمتنا بأن أطراف الحكم فى المركز هم من يبادرون ويمارسون نقض العهود والمواثيق الناشئة من اتفاقيات السلام فى السودان.
سبق أن كتبت على نحو مفصل حول تحديات تطبيق الاتفاق وعوامل نجاحه، مثل الجوانب المتعلقة بتوافر الإرادة السياسية وحسن النية لدى أطراف الاتفاق والشركاء داخل مؤسسات الحكم الانتقالي وخارجه، وضمان وحدة حركات الكفاح المسلح الموقعة، وتوقيع الأطراف الأساسية الأخرى غير الموقعة، وعدم احتكار امتيازات ومنافع الاتفاق لمجموعات إثنية دون غيرها. وذلك لكي يكون سلاماً يملكه الجميع دون أي إقصاء أو تمييز. لكني فى هذا المقال سأناقش تحديات ومشكلة إيجاد ضامنين وداعمين إقليميين ودوليين لاتفاق سلام جوبا.
ومن نافلة القول إنه لا جدال حول أهمية المال فى تنفيذ اتفاقات السلام، فهنالك العديد من الخبراء الذين كتبوا تفصيلا عن دور التمويل فى تنفيذ ما يلي هذه الاتفاقيات. فبعضهم كتب: “لا سلام بدون مال”، لذلك فإن من نقاط ضعف اتفاق سلام جوبا عدم وجود ضامنين ومانحين إقليميين ودوليين يمكن أن يدعموا أطراف الاتفاق فى تنفيذه. فمعظم اتفاقيات السلام وتجارب الوساطات الإقليمية والدولية فى حل النزاعات كانت تعطي أهمية قصوى لهذا العامل المالي وذلك الذى يتعلق بضمان الاتفاق. فالنزاعات واتفاقيات السلام دائما تحدث فى الدول الفقيرة أو التى تعاني من اقتصادات فقيرة وضعيفة. لهذا فإن عامل التمويل يتجوهر كمشكلة وتحدٍ يمكن أن يكون سببا فى فشل تطبيق الاتفاق نفسه. فالذين رحبوا بالاتفاق لم يرحبوا به ليكون اتفاق محاصصة يوفر وظائف لثلة قليلة من القيادات، بل رحبوا بجوانبه ونصوصه التى تقدم بعض المنافع المحدودة للضحايا والناس العاديين من أصحاب المصلحة من اليتامى والثكالى والأرامل والنازحين واللاجئين والمتاثرين بأهوال الحروب، وذلك لتعويضهم عن بعض تضحياتهم إبان هذه الحروب.

لقد كنت أناقش هذا الأمر مع عدد من أصدقائي المتخصصين فى الاقتصاد، خاصة اقتصادات الحروب والسلام مثل الدكتور حامد التيجاني علي، أحد عمداء معهد الدوحة للدراسات العليا، فجميعهم اتفقوا على أن اتفاق سلام جوبا يحتاج من 10 إلى 15 مليار دولار لتنفيذه وتطبيقه. وهذا بالطبع يشمل الإنفاق على بنود التعويضات الجماعية والفردية وجبر الضرر وعودة النازحين واللاجئين والمساعدات الإنسانية وإعادة البناء والإعمار والتسريح وإعادة الدمج للمحاربين السابقين من منتسبي الحركات المسلحة، والمؤتمرات المتعلقة بتنفيذ الاتفاق وتمويل إنشاء وتشغيل مستويات الحكم الجديدة بعد الاتفاق على إعادة العمل بنظام الحكم الإقليمي الذى كان سائدا قبل نظام الرئيس المعزول عمر البشير. فالسؤال الملح هو: من الذى سيدفع ثمن السلام؟ بكلمة أخرى: من الذى سيدفع ثمن تطبيق اتفاق السلام؟ الإجابة المباشرة والنموذجية على هذا السؤال هى: أن الشعب السوداني هو الذى عليه دفع ثمن السلام لضمان وحدة ومستقبل كيانه، وذلك على الرغم من الظروف الاقتصادية الموروثة من النظام السابق، إضافة إلى أزمة كورونا التي عمقت الأزمة الاقتصادية.

لكن هنالك كذلك مسؤولية أخلاقية تقع على عاتق المجتمع الإقليمي والدولي الذى يجب عليه دعم سلام السودان. ذلك لأن استقرار وأمن وسلام السودان هو جزء من الأمن والسلام والاستقرار الإقليمي والدولي. لذلك – حسناً – فعلت أطراف اتفاق سلام جوبا التى قررت أن تطوف على بعض العواصم الإقليمية للاجتماع بقادتها لحثها وتشجيعها على دعم وضمان وتمويل اتفاق السلام الذى أنجز فى جوبا، خاصة أن هذا الاتفاق حتى الآن يفتقر إلى الضامنين والمانحين كما بينا، الأمر الذى يحتم على أطرافه وضع وتنفيذ خطط وبرامج واضحة لاستقطاب الضامنين والمانحين. لأنه بغير ذلك سيصبح الاتفاق مهددا بالفشل والانهيار الأمر الذى سيدفع السودان إلى سيناريوهات الحرب الشاملة والفوضى والتفتيت، وبالنتيجة سيهدد الأمن والسلام الإقليمي والدولي.

كما ذكرنا آنفاً، فإن البحث عن الضامنين والمانحين الإقليميين والدوليين ليس أمرًا جديدا فى تاريخ تجارب صناعة وبناء السلام فى العالم. فحتى التجارب القريبة فى السودان تدعم هذا المسعى، فمثلا هنالك تجربة اتفاقية السلام الشامل التى وقعت بين نظام المخلوع البشير والحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الراحل الدكتور جون قرنق دمبيور فى يناير 2005، فقد توفر لتلك الاتفاقية عددٌ من الضامنين والمانحين الإقليميين والدوليين الذين ساهموا بسخاء فى تمويل بنود الاتفاقية وضمان تنفيذها. هنالك كذلك تجربة أخرى قريبة فى هذا السياق، وهى تجربة اتفاقية الدوحة للسلام فى دارفور التى وقعت في 2011، حيث لعبت دولة قطر دورا كبيرا فى مساعدة الأطراف آنذاك لإنجاز اتفاقية الدوحة للسلام فى دارفور. لكن لم يتوقف دور قطر عند تلك المرحلة، فقد تابعت مساعيها فى مرحلة دعم وتمويل تنفيذ اتفاقية السلام. بكلمة أخرى، استمرت قطر في دعم وتمويل مرحلة بناء السلام كمدخل لإعادة الإعمار والبناء والتنمية واستدامة السلام فى دارفور، حيث ساهمت قطر بمبلغ 88.5 مليون دولار كجزء من مساهمتها فى تمويل مشاريع الانعاش المبكر من أصل 177 مليون والذي كان ينبغي أن تدفعه حكومة المخلوع البشير آنذاك. هنالك كذلك المشاريع التى نفذتها المنظمات القطرية غير الحكومية مثل منظمة قطر الخيرية، وكمثال لهذه المشاريع نجد المجمعات الخدمية والقرى النموذجية. هذا بالإضافة إلى المساعدات والمشاريع التى قدمتها دولة قطر في بقية أرجاء السودان، منها المساعدات السخية التى قدمتها الدولة نفسها فى مجال مكافحة جائحة كورونا ومواجهة الفيضانات الأخيرة التى اجتاحت مناطق واسعة من السودان.

أعلاه بعض النماذج الناجحة التى يمكن أن تشجع الأطراف السودانية على وضع وتنفيذ خطة دقيقة وواضحة لإقناع المجتمع الإقليمي والدولي لضمان وتمويل اتفاق سلام جوبا وأي اتفاق سلام لاحق. لكن لكي تنجح الأطراف في استقطاب المانحين والضامنين يجب أن تتوحد أطراف القوي الموقعة على اتفاق السلام وأن تقدم نموذجا مسؤولا فى القيادة النزيهة والشفافة التى لا تميز بين مواطنيها. كما يجب أن تقدم الأطراف السودانية نموذجا في الطهر والأمانة ونكران الذات وأن تركز على استقطاب المشاريع والمنح التى يستفيد منها الضحايا والمتأثرين بالحروب والمهمشين والفقراء من شرائح الشعب، ليس المساعدات المالية النقدية وغيرها التى تذهب إلى جيوب القادة والمتنفذين. من ناحية أخرى, يجب على أطراف الاتفاق إشراك المجتمع المدني وروابط واتحادات السودانيين المهاجرين(الدياسبورا) في أرجاء العالم.

كما أن هناك نقطة أخيرة جوهرية فى هذا السياق المهم تتعلق بضرورة أن تبتعد الأطراف كافة عن اصطفافات المحاور الإقليمية والدولية. فيجب عدم رهن سلام واستقرار السودان لصراعات المحاور فى الاقليم، فمن المهم انتهاج وممارسة سياسة خارجية مستقلة ومتوازنة تحقق المصالح الحيوية والاستراتيجية للشعب السوداني ، وذلك وفقا لمبادئ ومرتكزات ثورة ديسمبر المجيدة، وانطلاقاً من كل أدبيات الإجماع الوطنى التي ظلت ترنوا تاريخيا إلى معالجة المشكل السودانى الموروث بكثير من الاعتماد على الفكر السياسي العقلانى والمعبر عن تطلعات ومصالح الأقوام السودانية كافة. فضلاً عن ذلك فإن جيل ثورة ديسمبر بتضحياته المشهودة قد عبر بلا مواربة في شعار الثورة عن أهمية السلام كمدخل لبناء الدولة السودانية المتسامحة مع كل متساكنيها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.