هل سيحِّق معارضو الحركة الشعبيَّة من “أبناء النُّوبة” بالخارج ما لم يتحقَّق؟ (الحلقة الثانية)
الدكتور قندول إبراهيم قندول
[email protected]
تصحيح وتنبيه:
• ورد في الحلقة السابقة بالخطأ “تحالفات الحد الأدنى”، والصحيح: “تحالفات الحد الأعلى”.
• قمنا بالتصحيحات الاملائيَّة والنحوية في النصوص الأصليَّة بعد نقلها (دون تغيير للمعني) والتعليق عليها.
• الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان – شمال بقيادة عبد العزيز آدم الحلو (ليس آدم أبكر هارون) قوميَّة وتتكوَّن عضويتها من كل السُّودان ومن جميع المناطق وغالبيَّة العضويَّة من جبال النُّوبة وإثنية النُّوبة بطبيعة أو بحكم وجودها فيها. هذا التنبيه ضروري حتى لا يُفهم أنَّ كل النُّوبة حركة شعبيَّة قيادة الحلو، وأنَّها للنُوبة حصريَّاً.
وعدنا في الحقلة الأولى مواصلة مقالنا دون شخصنة، وذكر الأسماء عند الضرورة فقط. تتناول الحلقة الثانية افتتاحيَّة البيان بالتركيز على أهم ما جاء فيه من حديث لازب، لأنَّ معظمه كان استعطاف ممل لا معنى له. ولكن ما يهمنا ما جاء بالنص: “أنَّ توقيع عبد العزيز آدم أبكر هارون (الحلو) مع الكتلة الديمقراطيَّة كان مفاجئاً ومبكياً لشعب جبال النُّوبة بالتحديد النُّوبة، لأنَّ الحركة وقَّعت تحالفات سابقة مع “كتل” سياسيَّة كثيرة، ولكن “انحرافه من مسار الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان ورؤيتها بصورة صارخة ومفضوحة وتغاضي عن كل مطالب شعب جبال النوبة أهمها حق تقرير المصير الذى أقره المؤتمر العام ضمن القضايا المصيرية الأساسيَّة غير القابلة للمساوة”.
أولاً: إنَّه من المتاهة أن يتعمَّد الإنسان تضليل وتشويش الحقائق المجردَّة لأنصاره. هذا ما تم منذ الوهلة الأولى للافتتاحية، بدءاً بالاسم المغلوط للشخص المستهدف. فالحقيقة التي لا خلاف حولها أنَّ رئيس وقائد الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان هو “عبد العزيز آدم الحلو” وليس كما داوم خصومه القدامى والحديثين تسميته، أو إضافة “أبكر هارون” في اسمه ووضع اسم جده بين قوسين، لتحقيره والتقليل من شأنه، وهذا قدر العاجز أو العاجزين. تاركين العنان للقوم للبحث عن “عبد العزيز آدم أبكر هارون”. “عبد العزيز آدم الحلو” الذي نعرفه رجلٌ متواضع، وقد قيل من تواضع لله رفعه، فهو رفيع الخُلق، ونبيل الروح، فكل من يجلس إليه يستمتع بحِكمِه، ويرتوي من حلمه، ولئن أراد خصومه ازدراءه وإذلاله ببخس اسمه الذي ارتضاه. ثم بعد كل محاولاتهم تلك، ما العيب في اسمي “أبكر” و”هارون”؟ أوليس اسم “هارون” لأخ النبي “موسى”، عليه السلام؟ بلى! إن تصروا على ما أنتم عليه، فاذهبوا أو أحيوا بغيظكم! وإن نمت أو نحيا فعلى بينة من قول الحق.
ثانياَّ: لماذا أثار كاتبو البيان هذه الضجة على توقيع التحالف مع الكتلة الديمقراطيَّة في هذا التوقيت المفصلي من تاريخ النزاع السُّوداني دون التحالفات السابقة الكثيرة، كما ذكروا على مضض؟ كذلك لِمَ التركيز على كلمة “اختراق” التي وردت في حديث أحد قادة الكتلة الديمقراطيَّة؟ ألا يثير ذلك غباراً كثيفاً حول الدوافع الحقيقيَّة لأصحاب هذا التيار الغامض الهوية؟ هذا بالضبط يبيِّن ويثبت شكوكنا أنَّ هناك جهة ما تحرِّك هذه الجماعة. وإنَّ كلمتي “انحراف” و”مسار” مستعارتين من قاموس جهة معروفة بالسببيَّة التي بموجبهما نفَّذت انقلابها بحجة تصحيح “مسار الثورة” لإعادة إنتاج الأزمة. وهذا دليل آخر على أنَّ الجماعة هذه تسيطر عليها قوة خفية، مثلما اعتاد بعضهم ترديد الاتهام “الجزافي” بأنَّ هناك جهة ثالثة تخلق المشاكل والأزمات.
ثالثاً: الحديث عن القضايا المصيريّة شائك جداً ومعقَّد للغاية، واقحامه أو بسترته بهذه البساطة غير مجدٍ، ويحتاج لمساحة أوسع وفضاء أعلى، ومناخ ملائم للخوض فيه، ولكنا سنوليها (القضايا) بعض الاهتمام. إنَّ مؤتمر القضايا المصيريَّة الذي انعقد في ٢٣ يونيو ١٩٩٥م بحضور ٩ تنظيمات مؤثِّرة وفعَّالة، كان القصد منه انقاذ السُّودان الواحد، آنذاك، من المستنقع الآسن العميق الذي هو غارق فيه الآن. فمن المؤكَّد، لا يُعقل أنَّ تظل البلاد قابعة في الوحل لمدة ٢٨ سنة دون أمل في الأفق القريب أو البعيد بانفراج أزماته السياسيَّة، والاقتصاديَّة والأمنيَّة، وهلمجرا.
كان من أهم القضايا التي نُوقشت في المؤتمر إياه، قضيَّة حق تقرير المصير للشعوب (دون تحديد) حيث جاء، في الفقرة تحت أولاً: إيقاف الحرب وإحلال السلام في السُّودان: (أ) حق تقرير المصير، وتأكيده في النقطة (١) كحق أصيل وديمقراطي للشعوب (دن تحديد أيضاً)، وأقرَّ المؤتمر ممارسة هذا الحق بشرط توفّر مناخ الشرعيَّة والديمقراطيَّة كما ورد في النقطة (٣) من (أ). وهكذا كانت المخرجات من ((أ) ١-٤)، ولكن جاء الشيطان في التفاصيل (The devil in the Details)، كما يقولون إذ نص البند (٥) من (أ) على أن يمارس شعب جنوب السُّودان بحدود ١ يناير ١٩٥٦م حق تقرير المصير؛ وعلى مواطني جبال النُّوبة (ليس النُّوبة فقط) والأنقسنا (ليس وحدهم فقط) إجراء استفتاء للتأكُّد من مستقبلهما السياسي والإداري حسب ما جاء في البند (٨). وربما كان المقصود بالاستفتاء هنا المشورة الشعبيَّة، وهو كذلك. ولكن لم يتم ذلك لأسباب ينبغي أن نعرفها جميعاً. علاوة على هذا كله، نص البند (٩) من (أ) على “الوحدة القائمة على الإرادة الحرة”، حيث لم يكن هناك نص صريح لتقرير المصير لشعب جبال النُّوبة (ليس النُّوبة بالتحديد) أو الأنقسنا (بالتحديد). إذن، أين “انحراف” عبد العزيز الحلو، أو بالأصح “الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُودان – شمال عن المسار؟
عطفاً على كل ما ورد، لا تُوجد “كلمة تقرير المصير”، أو “الحكم الذاتي” لجبال النُّوبة في الدستور الانتقالي لعام ٢٠٠٥م أو الاتفاقيات التي تمت قبله. ومع ذلك تصر الحركة الشعبيَّة الآن على تحقيق “الوحدة الطوعيَّة”، التي تحمل معنىً بسيطاً وسهل الفهم للجميع إلا الذين لا يرون، ولا يسمعون، وإن قرأوا لا يفهمون. الوحدة الطوعيَّة “بوعي وبتحكُّم الفرد على قراراته وتصرفاته دون إكراه، أو إملاء، أو تدخُّل من أية قوة”. بمعنى آخر، اختيار الوحدة بإرادة ووعي الشعب المعني بمسببات ذلك الاختيار، أو الإقرار بإرادة ذاتية دون أن يُحمل عليه. هذا الخيار ثبَّتته الحركة الشعبيَّة في مواثيقها وأدبياتها (المنفيستو والدستور). كما أنَّها ترفض، مبدأ الحكم الذاتي لأسباب كثيرة، منها فشل تجربة الحكم الذاتي في بلدان كثيرة، مسلمة وغير مسلمة، شرقيَّة وغربيَّة، وأفريقيَّة. تجربة السُّودان هي الأقرب مثلاً، و”تلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكَّرون (الحشر/٢١)”. فالسُّودان انشطر عندما فُرضت على جنوبه “وحدة غير طوعيًّة أو بمعنى أدقَّ، “وجدة قسريَّة”، فسارت وصارت الأمور إلى ما هي، وتآكل أمل “الوحدة القائمة على الإرادة الحرة”، وهذا ما تهابه الأنظمة الخرطوميَّة. كما ليس سراً إذا أذعنا أنَّنا بحثنا وكتبنا وأطلنا الكتابة النقديَّة لبعض كتاب الأنظمة القمعيَّة التي توالت على حكم البلاد، ولم تبرح، سلسلة من المقالات عن الحكم الذاتي وتقرير المصير جبال النُّوبة. تلك المقالات متوفِّرة في وسائط التواصل الاجتماعي. ….. نواصل