هل ستلتزم )تقدم( بماوقعت عليه مع الحركة الشعبية لتحرير السودان وتصرح به؟
خالد كودي ، بوسطن الأحد/ 19/5/
في الثامن عشر من مايو لعام 2024، أبرم الرفيق عبد العزيز آدم الحلو، رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال والقائد العام للجيش الشعبي، اتفاقًا مهمًا مع د. عبد الله حمدوك، رئيس تنسيقية القوي الديمقراطية المدنية (تقدم) ورئيس الوزراء السابق. تم التوقيع على الاتفاق في العاصمة الكينية، نيروبي، وقد أُعطي لهذا الاتفاق اسم (إعلان نيروبي).
الإعلان استند على تعقيدات الأزمة التاريخية في السودان وفشل النخب التي حكمت منذ الاستقلال في إدارة الدولة بما يضمن الأمن، السلام، الوحدة، والتنمية المستدامة. الإعلان أكد، واقر أن ثورة ديسمبر وإسقاط نظام الإنقاذ تم بتضحيات شباب السودان وكفاح الحركات المسلحة، كما أقر البيان بأن الحرب الدائرة اليوم بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع منذ 15 أبريل 2023 تشكل أكبر كارثة في تاريخ البلاد واستمرارها يهدد بالانهيار التام وتفتيت السودان.
الطرفان اتفقا على العمل معًا لوقف الحرب وتجنيب البلاد المصير الكارثي من خلال دعوة الأطراف المتحاربة إلى وقف إطلاق النار والتعاون في جهود وقف الحرب بما فيها المنابر الدولية، كمنبر جدة. كذلك دعا الإعلان الأطراف إلى الالتزام بالقانون الإنساني فيما يخص حماية المدنيين وإيصال المساعدات الإنسانية.
الإعلان تضمن اهمية العمل المشترك لمعالجة الأزمات المتراكمة عبر عملية تأسيسية ترتكز على مبادئ تعتبرها الحركة الشعبية لتحرير السودان جذورًا للمشكلة السودانية وتشمل التامين علي وحدة السودان شعبًا وأرضًا وسيادته على أرضه وموارده، والوحدة الطوعية لشعوب السودان، والحكم الديمقراطي اللامركزي. كما يلتزم الإعلان بالتنوع التاريخي والمعاصر لتكون الهوية السودانية، التي لا تميز بين المواطنين بناءً على الدين أو العرق أو اللون أو اللغة أو الجهة، أساسًا للمواطنة. وتعهد الإعلان بتأسيس دولة علمانية تقف على مسافة واحدة من الأديان والثقافات وتعترف بالتنوع وتعبر عن جميع مكوناتها بالمساواة والعدالة. كذلك نص الإعلان على تأسيس منظومة عسكرية وأمنية جديدة وفقًا للمعايير الدولية تفضي إلى جيش مهني قومي يعمل وفق عقيدة عسكرية جديدة ملتزمة بحماية الأمن والوطن وفقًا للدستور، وبناءً على التعداد السكاني، مع الابتعاد عن أي نشاط اقتصادي أو سياسي. تضمن الإعلان أيضًا تأسيس حكم مدني ديمقراطي فيدرالي يضمن المشاركة المنصفة في الثروة والسلطة ويضمن حرية الدين والفكر ويفصل الهويات الثقافية والدينية والجهوية عن الدولة، وأكد على معالجة تركة الانتهاكات الإنسانية من خلال العدالة والمحاسبة التاريخية
الإعلان اشترط تضمين هذه المبادئ في الدستور، وفي حالة عدم تضمينها يحق لشعوب السودان ممارسة حق تقرير المصير، مما يوفر للنخب التي حكمت السودان منذ استقلاله بما في ذلك قوي الحرية والتغيير آنذاك، وتقدم الان فرصة لاعتبار آخير.
وأخيرًا، دعا الإعلان إلى عقد مائدة مستديرة تضم الأطراف المؤمنة بالمبادئ التأسيسية المنصوص عليها في هذا الإعلان، ووجه نداءً إلى الشعب السوداني لدعم جهود وقف الحرب ونبذ خطاب الكراهية. كما ناشد المجتمع الدولي الضغط على الأطراف المتحاربة لوقف الحرب والوقوف إلى جانب السودان وشعبه في مواجهة الكارثة الإنسانية.
تجدر الإشارة إلى أنه في الرابع من سبتمبر لعام 2020، وقعت الحركة الشعبية لتحرير السودان/شمال اتفاقًا مماثلا مع حكومة عبد الله حمدوك الانتقالية في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، جاء ذاك الاتفاق في أعقاب الإطاحة بالرئيس عمر البشير وأثناء تولي حمدوك رئاسة مجلس الوزراء، وهدف إلى معالجة الأسباب الجذرية للأزمة السودانية التي تشمل مجموعة من القضايا المعقدة. تضمن الاتفاق ست نقاط أساسية، منها توضيح مسألة الهوية السودانية، التصدي لمشكلات التنمية غير المتوازنة، تحديد طبيعة علاقة الدين بالدولة، تعزيز مبدأ الوحدة الطوعية، وضع ضمانات لتنفيذ الاتفاق، والأهم من ذلك، وقف الأعمال العدائية وإنهاء الحروب الأهلية التي عصفت بالبلاد لعقود.
منذ توقيع الاتفاق المذكور، شهد السودان تحولات عميقة وجذرية على صعيد السياسة والمجتمع والاقتصاد والامن والسلام. في فترة الحكومة الانتقالية، التي كانت تحت رعاية قوى الحرية والتغيير، برز تراجع واضح عن القيم الثورية التي كانت الشرارة الأولى للثورة السودانية. بدلاً من التغيير الجذري، اتجهت الحكومة نحو إصلاحات ترميمية تديرها شخصيات سياسية متنازعة وأحزاب شمالية غير مهتمة ولامصلحة لها في تغيير جوهري للبنية التقليدية للدولة، مما أدى إلى استمرار وتعقيد الأزمات القديمة.
هذا الوضع أدى إلى تحالف الحكومة الانتقالية مع قوى السودان القديم، وبشكل خاص مع اللجنة الأمنية لنظام الإنقاذ وقوات الدعم السريع، في محاولة للحفاظ على الاستقرار. الحرب الحالية في السودان، التي اندلعت بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع في أبريل من العام الماضي، تعكس استقطابًا حادًا بين النخب العسكرية والمدنية، ولم تكن قائمة على أسس تغيير جذري وحقيقي في الدولة، بل كانت صراعًا على من سيرث الحكم بعد البشير، مما يعني استمرار الوضع القديم بكل مشكلاته وتعقيداته دون إحداث تغيير جوهري. هذه الشراكات الفاشلة لم تنجح في منع النزاع، مما أضاف تعقيدات إلى الأزمة السودانية، وأدت الحرب إلى وقوع آلاف القتلى وتشريد ملايين النازحين واللاجئين، بالإضافة إلى تدمير البنية التحتية في المناطق الرئيسية التي تسيطر عليها الحكومة.
منذ ذلك الحين، مرت مياة كثيرة تحت الجسر و شهد السودان تغيرات جذرية وعميقة في النسيج السياسي والاجتماعي والاقتصادي. خلال فترة الحكومة الانتقالية التي شكلتها قوى الحرية والتغيير وأصبحت حاضنتها، لوحظ تراجع واضح عن القيم الثورية التي كانت الشرارة الأولى للثورة السودانية. بدلاً عن ذلك، انخرطت الحكومة في مساعي إصلاحية ترميمية يديرها ساسة متشاكسين، غير ناضجين وأحزاب شمالية تفتقر إلى الرغبة في تحقيق تغيير جذري في البنية التقليدية للدولة السودانية والذي يعني اطلاق النار علي ارجلهم، وهذا ساهم في استمرار المشكلات القديمة دون حلول بل ازدياد في التعقيد.
أدى تحالف الحكومة الانتقالية برئاسة د، عبد الله حمدوك مع قوى السودان القديم من ناحية، ومع اللجنة الأمنية لنظام الإنقاذ وقوات الدعم السريع من الناحية الأخرى الي استقطاب حاد بين النخب العسكرية والمدنية وبين التكوينات العسكرية المتمثلة في الجيش والدعم السريع فيما بينها، وبين القوي المدنية وبعضها البعض- فالقوي التي تولت السلطة بعد إزاحة البشير ارتكبت أخطاء فادحة، وماخلقته من صراعات متشابكة، لم يرتكز على أسس تغيير جذري وحقيقي في بنية الدولة السودانية، بل كان مجرد نزاع حول من سيغنم الحكم بعد نظام البشير، مما عني استمرارية الوضع القديم بكل مساويه ومعضلاته وتعقيداته دون إحداث تغيير جوهري وذات معني لكل السودانيين.
خلقت الحكومة الانتقالية وضع يضمن استمرارية جذور الأزمة ويزيد من احتمالية تكرار النزاعات وهذا ماحدث. فالشراكات بين الأطراف الفاعلة لم تنجح في منع اندلاع النزاع في أبريل من العام الماضي بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، الأمر الذي أضاف تعقيدات إضافية إلى الأزمة. فقد أسفرت الحرب عن وقوع آلاف القتلى وتشريد ملايين النازحين داخليًا وخارجيًا كلاجئين، بالإضافة إلى تدمير البنية التحتية في المناطق الرئيسية التي تقع تحت سيطرة الحكومة، مما كشف عن عمق المشكلات التي لم تُعالج جذورها بالشكل المطلوب. ويبقى الوضع في السودان معقدًا بسبب إشكاليات الحكم والأبعاد المتعددة للأزمة، بما في ذلك الاستقطاب الحاد بين النخب العسكرية والمدنية، في قشور المشكلات، مظاهرها وهو ما يتطلب من القوي الحادبة علي بقاء الدولة السودانية التزامًا جادًا بمعالجة هذه الأسباب وبشكل شامل وجذري لتجنب تكرار الصراعات التي تؤدي الي الفشل في المستقبل، فهل سترتفع تقدم وغيرها لتواجه التحديات التي تمت تسميتها باتقان في الاعلان الموقع بين الرفيق عبد العزيز ادم الحلو عن الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال ود. عبد الله حمدوك بصفته رئيس تنسيقية القوي الديمقراطية المدنية– تقدم؟
ابتداء من مساء الثامن عشر من مايو لعام 2024 بدأت الأوساط السياسية للسودان الجديد مراقبة حركة قيادات تقدم بعين لاتخلو من الشك، حيث ان تقدم تضم العديد من العناصر الرئيسية لقوى الحرية والتغيير، وكذلك الشخصيات التي قادت الحكومة الانتقالية السابقة. تلك الحكومة التي عُرفت بين قوي السودان الجديد بتقاعسها عن دعم و تنفيذ اتفاق أديس الذي وُقع في الرابع من سبتمبر لعام 2020. يطرح هذا الوضع تساؤلات حول ما إذا كانت القيادات الفاعلة في تقدم ستختلف في سلوكها ومواقفها هذه المرة عن سابقتها وتتعامل مع جذور المشكلة السودانية كما تم تحديدها في إعلان نيروبي، أم أن التاريخ سيعيد نفسه وسيعيدوا تكرار نفس الأخطاء.
من الجدير بالذكر أن قيادات تقدم وشخصياتها الإعلامية كانت تتخذ، في أفضل الأحوال، مواقف تتجاهل الحركة الشعبية والقضايا التي تصنفها الحركة كجذور للمشكلة السودانية. وفي أحيان أخرى، صدرت عن بعضهم تصريحات تعبر عن عداء صريح لهذه القضايا ونكرانها. كما أن بعض التصريحات من قيادات تقدم بدت مشبعة بالتعالي والغرور، وهو ما يمكن أن يصنف كصلف.
قبل توقيع اعلان نيروبي، اجندة تقدم المعلنة كما يعبر عنها المتحدثين باسمها في اللقاءات العامة وعبر كتاباتهم الغزيرة اجندة إصلاحية لا تمت للثورة بصلة. اجندة تقدم التي تبشر بها تسعي الي تسويف جذور المشكلة السودانية بيد انها لا تشير الي اهم ما جاء في اعلان نيروبي من قضايا تعد جذور المشكلة في السودان وفقا للقوي التي وقعت معها!
بينما يُظهر إعلان نيروبي اعترافاً صريحاً بقضايا أساسية كتأكيد على وحدة السودان شعبًا وأرضًا وسيادته على موارده، بالإضافة إلى الحكم الديمقراطي اللامركزي. تبرز الأسئلة الآن، هل ستُظهر قيادات تقدم التزاماً واضحاً بتحقيق هذه الوحدة والديمقراطية بالصراحة والمباشرة نفسها وبالاستعداد الي دفع مستحقات القضايا التي تؤدي الي وحدة واستقلال وسيادة السودانيين علي ارضهم مواردهم؟
ومن جهة أخرى، ينص إعلان نيروبي على تأسيس دولة علمانية تفصل بين الدين والدولة، تعترف بالتنوع الثقافي وتعزز المساواة والعدالة بين جميع مكونات المجتمع. لكن، ظلت مفاهيم الدولة المدنية محور تضليل من قبل الأحزاب السياسية الشمالية التقليدية، والتي أغفلت بشكل متعمد الفرق بين المدنية والعلمانية لتجنب التعامل مع قضايا المواطنة المساواة الأساسية. يتبقى أن نرى إذا ما كانت قيادات تقدم ستعتنق بوضوح مفهوم العلمانية كأساس للمواطنة المتساوية، وتصرح به دون عنعنة او تغبيش او اعتذار!
أضاف الإعلان كذلك التزامات لتأسيس منظومة عسكرية وأمنية جديدة وفقًا للمعايير الدولية تفضي إلى جيش مهني قومي يعمل وفق عقيدة عسكرية جديدة ملتزمة بحماية الأمن والوطن وفقًا للدستور، وبناءً على التعداد السكاني، وتغييرات جذرية في عدد الجنود والضباط، مع الابتعاد عن أي نشاط اقتصادي أو سياسي. وتحدي إعادة هيكلة النظام الأمني الحالي يقف كاختبار حقيقي أمام تقدم في تبني وتطبيق هذه الاستراتيجية.
و تضمن الإعلان أيضًا تأسيس حكم مدني ديمقراطي فيدرالي يضمن المشاركة المنصفة في الثروة والسلطة ويضمن حرية الدين والفكر ويفصل الهويات الثقافية والدينية والجهوية عن الدولة. وتقدم ستكون مطالبة بتنزيل هذه الالتزامات الي الفعل حيث من اهم واجباتها الان نبذ الشلليات وتقديم برامج للتفضيل الإيجابي والتي هي العمود الفقري لاي عملية انصاف بعد واقع طويل من الظلم والتهميش، وهل تقدم يمكنها التأسيس لهكذا مفاهيم؟
وأكد الإعلان على معالجة تركة الانتهاكات الإنسانية من خلال العدالة والمحاسبة التاريخية، وهنا الإعلان لم يتحدث عن العدالة الانتقالية، المفهوم الذي ظلت تردده النخب كهروب من مواجهة تركة تاريخ طويل من الظلم ادي الي تهميش ممنهج علي كل الأصعدة والي وغبن مستدام له اثاره المادية والمعنوية علي مجتمعات باسرها. فالعدالة التاريخية تحوي العدالة الانتقالية وتتجاوزها الي مفهوم وعمليات اشمل تضمن المحاسبة والانصاف المادي والمعنوي والمشاريع التي تضمنت تحويل المجتمعات من مجتمعات عنصرية الي مجتمعات سوية تدرك معني الإنسانية وتبعات تجاوزها علي حد القانون.
وختاما، يجدر القول ان جماهير الحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال قدمت تضحيات جسيمة من أجل مشروع السودان الجديد، حيث قدمت آلاف الشهداء وواجهت بشجاعة التهميش المستمر والحروب العنصرية التي لا تزال ترزح تحت وطأتها البلاد حتى اليوم. استطاعت الحركة، عبر جيشها الشعبي الذي بُني من مقاتلين ضحوا من أجل الحرية، تحرير مناطق تفوق في مساحتها دولتي رواندا وبروندي معًا. على هذه الأراضي، أقامت نظامًا ديمقراطيًا علمانيًا وأسست حكمًا مدنيًا تحت ما يُعرف بالسلطة المدنية للسودان الجديد. تمكنت هذه السلطة من تحقيق تقدم اقتصادي، في مجال الزراعة، والصمود في مجالات الصحة رغم الحصار الذي واجهته. اليوم، يتمتع كل مواطن في الأراضي المحررة بحقوقه الأساسية، بما في ذلك حرية الضمير والاعتقاد والعبادة بأي شكل يختاره والمشاركة في العملية السياسية من أدنى المستويات، البومة إلى مجالس التحرير، بكامل إرادته. كما حققت السلطة المدنية للسودان الجديد تقدمًا ملموسًا في تطوير القوانين في جميع المستويات وغيرت المناهج التعليمية لتعكس رؤية السودان الجديد والمواطنة المتساوية. اليوم، يمكن لأي مواطن في الأراضي المحررة أن يعلن بكل فخر أنه مواطن حر في وطنه، وأنه لن يتعرض لأي انتقاص في حقوقه مهما كانت المبررات.
الان، هل ستصمد قيادات وتكوينات تقدم امام ماجاء في اعلان نيروبي، وهل ستصمد تكوينات تقدم امام قوي السودان القديم او المتواطئة معها وتنحاز الي تبني قضايا التأسيس الواردة في هذا الإعلان، هل ستتبناها وتطرحها للجماهير بنفس الوضوح؟
وهل ستعيد تقدم تحديد اجندة مؤتمرها التأسيسي ليبني علي مرتكزات بناء سودان ديمقراطي علماني موحد يحمكم بواسطة مدنيين لا مركزيا ؟
نحن نراقب تطورات هذه العمليات عن كثب.
خالد كودي ، بوسطن الأحد/ 19/5/