نهر (يابوس) العظيم .. أنثروبولوجيا الثورة.
عادل شالوكا
مُنذ المسح الإثنوغرافي الذي أُجريَ في (دار فونج) Ethnographic Observation in Dar -Funj – بواسطة عالم الأنثروبولوجيا البريطاني (إدوارد إيفانز بريتشارد) في العام 1932 – و(دار فونج) تعني (أرض الفونج) أي إنهم أصحاب الأرض التاريخيين ومُلَّاكها رغم التحوُّلات (الدِّيموغرافية) التي حدثت في المنطقة بفعل الحرب في إطار إستراتيجية (الأرض المحروقة – Burned Land) وسياسة (الإحلال والإبدال -Replacements & Cannibalization) – وبعد دراسة أستاذة الأنثروبولوجيا الإجتماعية (ويندي روزاليند جيمس) – وهي عالمة الأنثروبولوجيا البريطانية وتلميذة (إيفانز بريتشارد) التي أجرَت عدة دراسات في إقليم الفونج – الأولى كانت حول قبيلة (الأودوك) بعنوان: (مباديء التنظيم الإجتماعي للناطقين بلغة “الأودوك” بجنوب الفونج – 1970) / ودراسة أخرى “إثنوغرافية” بعنوان: (البقاء على قيد الحياة في الحدود الأثيوبية السُّودانية – 1979) / ودراستها كذلك بعنوان: (خشب الأبنوس المُستمع: المعرفة الأخلاقية والدِّين والسُّلطة بين “أودوك” السُّودان – 1999) / وآخر دراسة لها (الحرب والبقاء على حدود السُّودان: أصوات من النيل الأزرق – 2007). بالإضافة إلى إسهامات الدكتور/ عبد الغَفار محمد أحمد – أستاذ الأنثروبولوجيا الإجتماعية بجامعة الخرطوم (رافق ويندي جيمس في دراستها للـ”أودوك” في إقليم الفونج) الذي قام بدراسة تحت عنوان: (الأنقسنا في الأنثروبولوجيا الإقتصادية وقضايا التنمية في السُّودان – 1975). ودراسة البروفيسور: محمد إبراهيم أبو سليم: (الفونج والأرض: وثائق تمليك) – شُعبة أبحاث السُّودان – جامعة الخرطوم، أغسطس 1976. ربما لم يحظَى إقليم الفونج بأي دراسات حديثة طيلة الفترة التي تلت تلك الكتابات العلمية العميقة التي تناولت (الأرض، السُّكان، الجغرافيا، الثقافة، .. إلخ). فقد حدثت تحوُّلات كبيرة وتغيير إجتماعي ملحوظ مع إرتفاع درجة الوعي السِّياسي لدى شعب الإقليم الذي وعى بحقوقه وصارت مطالبه وتطلُّعاته واضحة المعالم. فلقد تعرَّض الإقليم لظلم تاريخي وتهميش مُركَّب (إجتماعي، سياسي، إقتصادي، …. إلخ) منذ عهود طويلة.
الأرض والسُّكان:
(الفونج) هو الإسم الذي عُرِفت به المنطقة وسُكَّانها تاريخياً، وهو الإسم الذي يجمع كل القبائل والمجموعات الإثنية الموجودة في المنطقة (للمزيد من المعلومات حول القبائل والمجموعات الإثنية في الإقليم يمكن مُراجعة كتاب: المناطق المُهمَّشة في السُّودان – كفاح من أجل الأرض والهوية، عادل شالوكا – مطبعة الحضارة، القاهرة – 2016)ومات حول القبائل يمانية الإجتماعية للأفراد داخل المجتمعحت مصدراً للرفاه والمكانة الإجتماعية هطول الأمطار، ومن ال. في الأدبيات السُّودانية يطلقون إسم (الأنقسنا) على سكان الإقليم – وهذا غير صحيح على الإطلاق لأن (الأنقسنا) عبارة عن قبيلة فقط من ضمن قبائل الإقليم مثلها مثل قبائل: (البرتا، البرون، الأودوك، الكدالو، الهمج، القُمز، الكوما – قنزا، الرقريق، الجُمجم، القباوين، السُركم، الدَّوالا، الوطاويط، بالدقو، جبلاوين، مابان، أبو رملة .. وغيرها). وإقليم الفونج هو أحد أقاليم السُّكان الأصليين في السُّودان، وآخر إقليم سقط في أيدي الغزو (التركي – المصري) في العام 1821 (فقد كانوا الملوك .. والآخرون رعية) كما قال الملك بادي السادس.
الحكومة السُّودانية ترفض إطلاق إسم الفونج على الإقليم بعد تغييره إلى (ولاية النيل الأزرق) في السنوات الماضية في مُحاولة صريحة لطمس هوية سُكَّان المنطقة الأصليين – وموقفنا هو إرجاع الإسم الأصلي والحدود التَّاريخية للإقليم.
وهضبة جبال الفونج تقع على إرتفاع (300) متر فوق سطح البحر، وتتميَّز المنطقة بخصوبتها ومُعدَّل مُرتفع من الأمطار في الفترة ما بين نهاية أبريل ونهاية أكتوبر. كانت المنطقة في عهد سلطنة سنار تقع ضمن مملكة (فازوغلي) التي كانت تتبع رأساً لملوك الفونج في سنار، وقد كانت المنطقة تُعرف قديماً بالسلطنة الزرقاء قبل أن يتم تغيير إسمها إلى (مملكة الفونج) وسُمِّيت أيضاً (مملكة سنار). إمتد فترة حكمها من عام (1504 -1821م) وكان رئاستها في سنار، وحالياً آثار الفونج معظمها مدفونة في منطقة تُرعة كنانة بالقرب من (نقطة تفتيش سنار) وهي تُعتبر مقابر (ملوك الفونج)، وقد تم شق ترعتين فى هذه المنطقة هما تُرعتي (كنانة والجزيرة) والهدف من ذلك هو طمس هذه الآثار ومحوها من الوجود، وتوجد حالياً (قُبة) بالقرب من البوابة الرئيسية (التفتيش) وهي جزء من هذه الآثار، وبالإضافة إلى ذلك فقد تم التخلُّص من معظم الوثائق الهامة المُتعلِّقة بتاريخ الفونج كجزء من سياسات الإقصاء من التَّاريخ، والتَّهميش بكافة أشكالِه.
أُتيحَت لنا خلال الأيام الماضية فرصة زيارة الإقليم بـ(المناطق المُحرَّرة) في زيارة تاريخية للسكرتير العام للحركة الشعبية لتحرير السُّودان – شمال القائد/ عمار آمون دلدوم، وتحت إستضافة القائد/ جوزيف توكا علي – النائب الأول لرئيس الحركة الشعبية ونائب القائد/ العام للحركة الشعبية لتحرير السُّودان – شمال (القائد/ عبد العزيز آدم الحلو). حيث زُرنا الإقليم بـ(المناطق المُحرَّرة) الذي تعرَّض للظلم والقمع التَّاريخي منذ مئات السنين (عهد العبودية والإسترقاق) – هذا الإقليم الذي حرَّرته الحركة الشعبية وسيّطرت عليه لأنها تؤمن إن هذا الشعب ولد حُراً ويجب أن يعيش كذلك، ولن تستطيع أي قوَى على وجه الأرض أن تستعبده مرة أخرى إلَّا على جُثث الثُّوار الذين يؤمنون بقضيتهم العادلة.
تحرَّكنا من منطقة المابان بجنوب السُّودان متوغِّلين داخل إقليم الفونج عبر مناطق (سافنا غنية) ذات غابات كثيفة الأشجار. طبوغرافية المنطقة عبارة عن: جبال بُركانية مُتفرِّقة، وتربة طينية (هضبة) تصلح لزراعة الذرة والسمسم .. وغيرها من المحاصيل، بالإضافة إلى الأراضي التي تقع بالقرب من الجبال (رملية “قردود”، وأخرى حجرية “كركر”). وتتخلَّل المنطقة أيضاً وديان خصبة لزراعة البساتين (بطحة) – ومنطقة (قيسان) هي أكثر المناطق التي تنتج الفواكه وخاصة (المانجو)، بالإضافة إلى نهر (يابوس) دائم الجريان، والخيران الأُخرَى (موسمية الجريان). الغطاء النباتي يغلُب عليه أشجار: السِدر، الهجليج، الطلح، الأبنوس، القنا، الهبيل، الدوم، الحراز، الجُميز، السُنط، العرديب، والصَهب الذي يسمُّونه في الإقليم بـ(السيلَك) وتتميَّز بأحجامها الضخمة مُقارنة بالمناطق الأخرى في السُّودان وهي الأكثر إنتشاراً بالإضافة إلى أشجار السِدر. لاحظنا إن أشجار الأبنوس تنتشر في الإقليم بكميات كبيرة وبأحجام ضخمة – وهذا له علاقة بالمناخ (سافنا غنية) وهطول الأمطار الغزيرة لفترة (8 شهور – 40 – 700 ملم). (القَنا) يتم إستخدامِه في بناء المنازِل بالإضافة إلى (السيلَك) والقَش (حشائش طويلة وبوص). يستخدمون (القنا) بطُرق مُختلِفة وفنِّيات عالية لبناء جُدران المنزل وبأشكال هندسية جميلة، ويستخدمون (السيلَك) للسقف والركائز. غالبية المنازل شُيِّدت بالمواد المحلِية بسبب الحرب وعدم الإستقرار والتنقُّل المُستمِر، ويُساعدهم على ذلك توفُّر المواد المحلية. أما المرافق العامة ومؤسَّسات الحكومة فيوجد القليل منها مُشيَّدة بالمواد الثابتة (الطوب، الأسمنت، الزنك، والحديد) وهي مباني قديمة. فالحكومات السُّودانية قامت بتدمير جميع المرافق بالإقليم خلال الحرب بصورة مُتعمَّدة ومُمنهَجة، فعند إحتلال أي منطقة بواسطة الحكومة تقوم القوات المُسلَّحة بتدمير: المدارس، المُستشفيات، دور العبادة والبيوت المُشيَّدة بصورة جيِّدة – بعد نزع السقوف (الزنك) والأبواب والنوافذ.
في بيام (شالي) إلتقينا بشعب الإقليم الذين تدافعوا بكثافة من كل القرَى والبومات لإستقبال قائدهم المحبوب النائب الأول لرئيس الحركة الشعبية لتحرير لتحرير السُّودان – شمال / جوزيف توكا علي – وفي معيتِه الضابط التنفيذي الأول للحركة الشعبية وسكرتيرها العام القائد/ عمار آمون دلدوم – هنالك كانت ملحمة كبيرة جمعت شعب الإقليم بقيادتِه، عندما قدَّم السكرتير العام النائب الأول لرئيس الحركة الشعبية القائد/ جوزيف توكا – لمُخاطبة الجمهور إمتلأ الميدان فجأة ودون سابق إنذار، فقد تدافع الجمهور بصورة تلقائية أمام المنصَّة ليقدموا الرقصات التراثية لإستقبال القائد، وبعدها عاد الجميع إلى مواقعهم وإستمعوا إلى القائد في هدوء وسط التَّصفيق الدَّاوي من حين إلى آخر، أكَّد لهم حتمية تحقيق وبناء السُّودان الجديد لإسترداد الحقوق والكرامة الإنسانية وإزالة التَّهميش، وقال لهم: (علم السُّودان الجديد يرفرف في سماء المناطق المُحرَّرة ولن تستطيع أي قوَى إنزاله – فنحن لدينا الأرض، السُّكان، والموارد .. ولن نحتاج إلى حكومات الخرطوم بعد اليوم إن هم رفضوا السُّودان الجديد الذي يسِع الجميع بمُختلف إثنياتهم وثقافاتهم). وفي كلمتِه أكَّد لهم السكرتير العام للحركة الشعبية، القائد/ عمار آمون – (إن قضية الأرض هي واحدة من القضايا الرئيسية التي فجَّرَت الحروب في السُّودان، والأرض ملك للقبائل والمُجتمعات المحلية ولا يجب أن تتدخَّل الحكومة لإستخدامها إلا بقوانين عادلة). وفي معسكر (دورو) للاجئين في مُقاطعة المابان بدولة جنوب السُّودان وجدنا إن تطلُّعاتهم المشروعة بالسلام والأمن والإستقرار لم تأخذهم بعيداً عن قضاياهم التَّاريخية، فهم مع السلام الشامل والعادل الذي لا يُعيدهم إلى الحرب مرة أخرَى، ولذلك رفضوا الذهاب إلى مناطق الحكومة بعد إتفاقية السلام بجوبا والتي وقَّعَتها فصائِل الجبهة الثورية ومن ضمنها مجموعة (مالك أقار) أحد أبرز أبناء الإقليم.
في اللقاءات الجماهيرية التي أقمناها كانت (الوازا) حاضرة بالإضافة إلى (الزُمبارة) و الـ(تيلي)، وهي أدوات عزف ورقص تراثي في المناسبات المُهِمَّة. (الوازا) عبارة عن أداة عزف بالنفخ تُصنع من القرع وهي أكثر إستخداماً لدى مجموعة (البرتَا) وخاصة (الدوَّالا، الكيلي، وقبائل أخرى). أما (الزُمبارة) ويسمُّونها (بولشوك) أو (بولو) فهي أداة عزف بالنفخ، وتُصنع أيضاً من (القَنا)، وتُستخدم بواسطة مجموعات (الأودوك والبرون). والـ(تيلي) آلة عزف تُصنع من (الأعواد – الخشب) ويتم العزف عليها عن طريق الضرب بأعواد أُخرى صغيرة، وتُستخدم وسط قبائل (الأودوك، الكوما – قنزا، والمابان). يرقص شعب الفونج إعتزازاً وإفتخاراً بثقافتهم وتُراثهم الغني، جميع الرقصات مُستنبطة من بيئتِهم الغنية المُرتبِطة بالزِّراعة في جميع مواسِمها، بالإضافة إلى دلالات الخير والرخاء والوفرة – الفروسية والشجاعة. هذه الثقافة التي هُمِّشت وتم إقصائها من التَّاريخ والحاضر. لاحظنا إعتزاز النِساء بأنفسهِنَّ وهِن يتجولنَّ بثقة في الطُرق والأسواق ويُشارِكنَّ في المُناسبات الرَّسمية، فـ(للمرأة) دورٌ كبير في مُجتمع الفونج رغم تهميشهُنَّ المركَّب كغيرهُنَّ من نساء السُّودان. لاحظنا كذلك عدم إرتدائِهنَّ للـ(توب) السُّوداني بإعتباره لا يُعبِّر عن ثقافتهِنَّ. وأحد مطالبنا الأساسية هو الإعتراف بجميع الثقافات السُّودانية وعكسها وبثَّها في وسائل وأجهزة الإعلام المُختلفة، وفي المنهج الدراسي.
النشاط الإقتصادي :
شعب الفونج بصفة عامة يُمارِسون الزراعة، حيث كانوا يزرعون على سفوح الجبال ويقيمون المُدرَّجات لتفادي تعرية التربة وهجمات صيد الرقيق، ولكن بعد إنتهاء عهد الرِق والعبودية في بداية فترة الحكم (الإنجليزي – المصري) نزلوا إلي السهول لزراعتها بدلاً عن الإعتماد على زراعة المُدرَّجات. ويُمارسون العمل التعاوني (النفير) عند بداية الزراعة وعند الحصاد. ملكية الأرض عندهم تقوم على (الملكية الجماعية) للقبيلة وحق إنتفاع كل عضو في القبيلة بالأرض.
بجانب الزراعة (الحرفة الرئيسية) فإن سكان الفونج يرعون الماشية والأغنام التي هي مصدر (اللحوم والألبان) بالإضافة إلى أنشطة ثانوية أخرَى مثل الصيد، وحديثاً دخل التعدين بمناجم الذهب (التعدين الأهلي) كمصدر مهم للرزق والحصول على الأموال لتحسين مستوى المعيشة، وقد أدَّى ذلك (نسبياً) لتغيير نمط الحياة وتحوُّل البعض من النشاط الزراعي إلى التعدين. وقد بذلت سلطات السُّودان الجديد جهوداً كبيرة لحث السُّكان وتشجيعهم بعدم ترك الزراعة بحيث تنعدم محاصيل (الذرة، السمسم، اللوبيا، الفول ..إلخ) في الإقليم وترتفع أسعارها. ومن التدابير التي أُتُّخِذَت أن يتم إغلاق المناجم في موسم الزراعة على أن تُفتح بعد الحصاد ليتفرَّغ السُّكان للزراعة في موسم هطول الأمطار. في مناطق التعدين لاحظنا إرتفاع الأسعار في الأسواق والمطاعم والقهاوي، ولاحظنا كذلك وجود إثنيات مُختلفة من السُّكان جمعتهم رغبة الحصول على المعدن النفيس (الذهب) الذي يدر الأموال بسرعة. الشباب الذين يعملون بالمناجم تزوَّجوا سريعاً مُقارنة مع أقرانهم، وإمتلكوا الدَّراجات البُخارية (المواتر) التي أصبحت إحدى وسائل الرفاه والرُقي بالحالة الإقتصادية التي بدورها تؤثِّر على المكانة الإجتماعية للأفراد داخل المُجتمع.
نهر يابوس:
يُسمُّونه بـ(خور يابوس) في بعض الكتابات، ولكنه (نهر) دائم الجريان ينحدِر من مُرتفعات الهضبة الأثيوبية وينساب داخل أراضي إقليم الفونج ويواصل جريانه حتَّى منطقة المابان بجنوب السُّودان. وحول المنطقة تقطُن قبيلة (القنزا) التي توجد بالضفة الشرقية لنهر يابوس جنوب الكُرمك وتجاورهم قبيلة الكوما. وللقنزا علاقات إمتزاج وتصاهُر مع الكوما، وتُحسَب قبائل (الكوما والقنزا) علي أساس إنها مجموعة واحدة. بالإضافة إلى ذلك توجد بعض القبائل الأخرَى حول نهر يابوس مثل (الكدالو، الأودوك، البرون .. وغيرها). ولمجموعة (القنزا) عُمدة شهير يُدعَى (عويسا مادي) وهو من الذين ساهموا برسم حدود السُّودان مع أثيوبيا، وكان قد تم تكريمه بواسطة الزعيم الراحل الدكتور/ جون قرنق دي مبيور.
ويُمثِّل نهر يابوس إحدى الركائز الإقتصادية المُهمَّة في الإقليم، فهو مورد للثروة السمكية حيث توجد فيه أسماك (القرموط، البياض، والكبروس) التي يتم بها تغذية الأسواق المحلية – ولقد لاحظنا وجودها في السوق – وحول النهر تنتشر جناين (المانجو، البرتقال، الموز، الليمون، الباباي) بالإضافة إلى المحاصيل البستانية الأخرى (الطماطم، البامية، الشطة، البامبي، البفرة، الجرجير، .. وغيرها). وفي إحدى المناطق بالقرب من النهر يوجد السوق الرئيسي لإقليم الفونج بـ(الأراضي المُحرَّرة)، وهذا الموقع تم إختياره في منطقة غير معلومة للحكومة السُّودانية بعد تكثيفيها للطلعات والقصف الجوي منذ العام 2011. في هذا السوق يلتقِي الجميع من كافة المُقاطعات والبيامات والبومات، حيث يتبادلون السلع والمنتوجات والأخبار، ويطمئنون على أحوال بعضهم البعض. وفيه لاحظنا وجود الأثيوبيين الذين يجلبون بضائعهم من السلع الإستراتيجية ويشترون السلع المُنتَجة محلِّياً. العملات المُتداولة في السوق هي (الجنيه السُّوداني، جنيه جنوب السُّودان، البر الأثيوبي، الدولار الأمريكي) وذلك للظروف الإستثنائية التي يمُر بها الإقليم – إنه سوقٌ للتلاحُم الإجتماعي والتبادُل الإقتصادي.
نهر يابوس يُعتبر فخر إقليم الفونج، فهو ينساب بقوة وعزيمة وعناد طول أيام السنة ويرفض أن يتوقَّف وكانَّه يُعارِض فكرة إنه (خور)، فهو نهر دائم الجريان بإمتياز، تمرَّد على (الموسمية)، ويجري بإستمرار ليوفِّر الخيرات لسُكان الإقليم حتَّى لا يعانوا، فشعب الإقليم هو شعب مُنتِج بطبيعتِه لأنه يمتلك أكثر الأراضي الزراعية عالية الخصوبة، وهي الأراضي التي إنتزعتها الحكومات السُّودانية وأنشأت شركات زراعية: (سعودية، أماراتية، مصرية .. وغيرها). أثناء تجوالنا لاحظنا مساحات كبيرة تصلُح للزراعة الآلية وغالبيتها أراضي (بِكر) لم تستطيع الحكومة السُّودانية التوغُّل فيها منذ الحرب الأولى في منتصف الثمانينات لكونها كانت تحت سيطرة الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السُّودان. السُّكان المحلِّيين بدأوا الآن في زراعة هذه الأراضي بالآليات (زراعة حديثة) – وهذا لم يكُن في إمكانهم فعله لولا تحرير هذه المناطق والسيطرة عليها بأنفسهم. إنها ثورة (شعبية) أعادَت إليهم حقوقهم وكرامتِهم الإنسانية.
حول نهر (يابوس) تُنتَج المحاصيل البُستانية بكافة أنواعها والثروة السمكية بالإضافة إلى كونِه مصدراً مُهمَّاً لمياه الشُرب للإنسان والحيوان – هو نهر الحياة – ولذلك فهو (عظيم). هذا النهر جعل سكان الإقليم لا ينتظرون المُساعدات الإنسانية التي إستخدمتها الحكومة السُّودانية كسلاح ضد شعب الإقليم لتركيعهم حتَّى يتنازلوا عن حقوقهم الأساسية وكرامتهم الإنسانية .. ولكن هيهات.
الفلاتة الرُعاة:
خلال وجودنا في الإقليم وأثناء عبورنا بالسيارة داخل البيامات المُختلفة لاحظنا تواجد الرُعاة (الفلاتة) الذين نصبوا الخيام في موارد المياه والكلا (أشجار شوكية قصيرة وحشائش خضراء)، لاحظنا أيضاً إن بعضهم يتحدَّثون بلغة (الأودوك) – سألت القائد/ جوزيف توكا – هل الفلاتة يتحدَّثون بلغة (الأودوك) – فأجاب قائلاً: (بعضهم يتحدَّثون وليس جميعهم، هنا يوجد من عاش لسنوات طويلة .. هؤلاء هم من يستطيعون التحدُّث ببعض اللغات المحلية). لاحظت أيضاً عدم التصاهُر والتزاوج بين الفلاتة والمجموعات السُّكانية الأصلية بإقليم الفونج. سألت الرفيق/ صديق سُلطان – سكرتير الشئون الإجتماعية والخدمات بالحركة الشعبية لتحرير السُّودان – شمال في المستوى القومي، والرفيق/ شرف ياسين – رئيس إتحاد شباب السُّودان الجديد بالإقليم – كان ردَّهم: (إن الرُعاة “الفلاتة” هم مجموعات مُتنقِّلة وغير مُستقِرَّة، ولذلك يصعب التزاوج معها، فهم يأتون إلى هذه المناطق في شهر أكتوبر ويخرجون منها في نهاية يونيو – ولا يهتمون بالحياة المُستقِرَّة). وهذا يعني إن إختلاف نمط الحياة حال دون التزاوج بين الفلاتة (الرُعاة – الرُّحَّل) والسُّكان الأصليين بالإقليم (المُزارعين – المُستقّرِّين).
وقد شارك الفلاتة الرعاة بأعداد كبيرة في اللقاء الجماهيري الذي أقمناه في بيام (شالي) وخاطبه القائد/ جوزيف توكا علي – النائب الأول لرئيس الحركة الشعبية، والقائد/ عمار آمون دلدوم السكرتير العام .. وبقية القيادات. وقد وجَّه القائد/ جوزيف توكا – سُلطات السُّودان الجديد (إقليم الفونج) بمُعاملة (الفلاتة) وفق حقوق المواطنة المنصوص عليها في مشروع السُّودان الجديد وقال لهم: (لقد كنتم طيلة العهود الماضية سُكَّاناً ومواطنين في هذا الإقليم .. وستظلُّون كذلك .. ولكم كافة الحقوق). وكانوا قد شكلَّوا حضوراً بهيِّاً في ذلك اللقاء وقدَّموا الرقصات الشعبية المُميَّزة للفلاتة إحتفاءً بقيادة الحركة الشعبية.
كفاح شعب يعرف حقوقه:
سُكَّان الإقليم رغم مُعاناتهم المُستمِرة طيلة العهود الماضية، لكنه يُدرِك جيِّداً إن الحصول على الحقوق يتطلَّب الصبر والتضحية. لاحظنا المواطنين في الطُرقات يمشون مرفوعي الرؤوس وهم يتمتَّعون بالحرية والكرامة الإنسانية دون التعرُّض لمُضايقات الشرطة والأجهزة الأمنية القمعية، فهم يعيشون في المناطق الأكثر أمناً وأماناً في السُّودان، حيث لا يوجد جنجويد ولا بُمبان .. لا إعتقالات، تعذيب .. ولا نهب وإغتصاب. إذ يمكنهم التحرُّك حتَّى في الساعات المُتأخِّرة من الليل دون سلاح للحماية. فالشخص يحمل الـ(عصَا) فقط لمساعدِته على المشي، وربما لقتل الثعابين والصيد. السُّكَّان الآن يزرعون أراضيهم الخصِبة ويستخرجون ثرواتِهم الطبيعية بحرية دون قيود ويستمتعون بجميع خيراتهم التي حرموا منها لعهود طويلة منذ الحقب الإستعمارية وفي عهد الحكومات المُتعاقِبة على السُّلطة في السُّودان حيث تم إستغلال الموارد ونهبها، مع قمع السُّكان وإبادتهم .. أو تشريدهم في أحسن الأحوال.
إقليم الفونج كان قد إنتظم – كبقية الأقاليم المُهمَّشة الأخرَى – في تنظيم مطلبي يُطالب بحقوق الإقليم وبأن ينال حظِّه في التنمية والمُشاركة السِّياسية (إتحاد عام جنوب وشمال الفونج) الذي تأسَّس في العام 1967 برئاسة الراحل أحمد عثمان الريح كتنظيم سياسي يُعبِّر عن تطلُّعات شعب الإقليم بعد فشل الأحزاب التقليدية في الإطِّلاع بمهامها بالرغم من أن غالبية أهل الفونج كانوا يتبعون لطائفة الختمية التي مارست الإستعلاء والهيمنة وفرضت وصاياها على المنطقة عن طريق فرض مُمثِّلين لها من المركز للترشُّح في مناطق الفونج بدلاً عن أبنائِها في فترة الدِّيمقراطية الثانية ممَّا ولَّد غبناً وشعوراً بالظلم والإضطهاد.
إنضم الإتحاد في عام 1969 إلى الكتلة السوداء بعد إنقلاب النميري حينها تم التضييق عليها من جانب القوَى الإقليمية الأخرَى بدعوة إنها عنصرية وقبلية، شارك الإتحاد في تأسيس (تضامن قوى الريف السُّوداني) عام 1985 بنادي الخريجين بود مدني برئاسة الهادي تنجور – وكان (تضامُن قوَى الريف) قد تأسَّس كجزء من تدابير قوي الهامش في مواجهة القوي الرجعية والطائفية التي أستأثرت بالسُّلطة منذ رحيل الإستعمار، وقد ضم ثلاثة عشر تنظيماً سياسياً أبرزهم (جبهة نهضة دارفور، التجمُّع السِّياسي لجنوب السُّودان، والحزب القومي السُّوداني)، وقد جعلت الرئاسة دورية بين التنظيمات كل ثلاثة أشهر ولم يفلح التضامُن في تقديم شيء ملموس في الحياة السِّياسية السُّودانية نتيجة لتعرُّض عضويته لإستقطاب سياسي حاد من قبل الأحزاب الطائفية فضلاً عن قيام إنقلاب المؤتمر الوطني في يونيو 1989. وشارك إتحاد عام جنوب وشمال الفونج في ورشة أمبو بأثيوبيا عام 1985 ومؤتمر كوكادام 1986.
ومنذ العام 1986 إنضم الإقليم إلى الحركة الشعبية لتحرير السُّودان وكان أبرز القيادات من أبناء الإقليم (مالك أقار إير، جوزيف توكا علي، بيتر كوما .. وآخرون)، وبدأوا نضالاً وكفاحاً طويل الأمد من أجل حقوقه ومُعالجة الإختلالات التاريخية لتوزيع السُلطة والثروة وإزالة كافة أشكال التَّهميش وبناء السُّودان الجديد الموحَّد الذي يسع الجميع.
إنه نضال طويل الأمد .. لشعب عظيم .. والنصر أكيد.