نضال عبد الوهاب ومن لف لفه، الحرس القديم الفاشل ومحدودية الأفق السياسي: 2-2

خالد كودي، بوسطن20/ 3/ 2025

 

 

في الجزء الأول من هذا المقال، ناقشنا جملة من القضايا المرتبطة بالتحولات السياسية الجارية في السودان، مع التركيز على الهجوم المنهجي الذي تتعرض له الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، وتعرية ازدواجية الخطاب لدى بعض النخب التي تروّج لمواقف متناقضة و في كثير من الأحيان متواطئة مع بعض ملامح الدولة القديمة، أو متشبثة بسقوف إصلاحية محدودة لا تلامس جوهر الأزمة السودانية.

وقد تركز النقاش حول المحاور التالية:

١/الهجوم الممنهج على الحركة الشعبية، وكيف أطلقت بعض القوى حملات إعلامية منظّمة لتشويه موقفها بعد توقيعها على ميثاق التأسيس في 22 فبراير 2025، متجاهلين أن هذا الميثاق قدّم رؤية متقدمة لمعالجة قضايا الهوية، علمانية الدولة، العدالة التاريخية، وإعادة هيكلة السلطة والثروة وغيرها.

٢/ ازدواجية المعايير في تقييم التحالفات، حيث اتضح أن القوى التي تهاجم اليوم تحالف الحركة مع الدعم السريع، هي ذاتها من كانت تدعمه كجزء من التحالفات المدنية بعد سقوط نظام البشير، ما يكشف عن انتقائية سياسية مفضوحة في خطابها.

٣/ ذهنية الوصاية السياسية التي يمثلها نضال عبد الوهاب ومن يشابهه، عبر تنصيب أنفسهم أوصياء على ما يسمونه “النقاء الثوري”، بينما لم يقدّموا بدائل حقيقية، واكتفوا بإعادة إنتاج خطاب استعلائي، فارغ المحتوى، ومفلس استراتيجيًا

٤/ سقف الإصلاح المحدود لدى المعارضة التقليدية، حيث يتّضح أن كثيرًا من الأصوات الناقدة للتحالفات العسكرية تتبنى موقفًا ضبابيًا تجاه المؤسسة العسكرية نفسها، إذ ترفض تفكيكها أو مساءلة عقيدتها القتالية، وتكتفي بمطلب “إصلاح” شكلي، ما يعكس ارتباطًا مصلحيًا ببنية الدولة القديمة.

ناقشنا هذه المحاور في الجزء الأول من المقال، وسنواصل في الجزء الثاني تفكيك مزيد من المغالطات التي تحكم هذا الخطاب المرتبك والمعادي لمشروع السودان الجديد، مع تحليل من زوايا اخري لأبعاد تحالف تأسيس، ودلالاته السياسية، وأثره على إعادة تشكيل مستقبل الدولة السودانية.

التحوّل الثوري لا يأتي بالترقيع:

الفرق الجوهري بين تحالف تأسيس وبين أصحاب الرؤى الإصلاحية أو الطوباوية، الذين يروّجون لفكرة “التغيير المدني” في ظل استمرار هيمنة الجيش والمليشيات الإسلامية، هو أن تحالف تأسيس لا يسعى إلى تجميل مؤسسة انهارت أخلاقيًا ووظيفيًا لعقود، بل يهدف إلى تفكيكها وإعادة بنائها من الجذر، على أسس جديدة تمامًا.

فـالسودان الجديد لا يمكن أن يولد من رحم الدولة القديمة أو مؤسستها العسكرية القائمة، التي شكّلت العمود الفقري للاستبداد والعنف البنيوي منذ الاستقلال. بل لا بد من قطيعة حقيقية وجذرية مع هذه المنظومات، وتأسيس مؤسسة عسكرية وطنية جديدة، مهنية، خاضعة للسلطة المدنية، تمثّل الشعب بكل تنوعه، وتحمي الدولة لا النظام. إن التحول الثوري ليس تحسينًا تدريجيًا لما هو قائم، بل إعادة تعريف لما يجب أن يكون.

الإصلاح أم التفكيك؟ دروس من العالم:

لتوضيح هذه النقطة للأستاذ نضال ومن معه من المشوشين، دعونا نستعرض نموذجين عالميين:

١/ الإصلاح الفاشل: الجيش العراقي بعد 2003

بعد سقوط نظام صدام حسين، قررت الولايات المتحدة الإبقاء على بعض عناصر الجيش العراقي ومحاولة إصلاحه. لكن بدلاً من التحول إلى مؤسسة وطنية، تحول الجيش إلى أداة بيد الأحزاب الطائفية، وفشل في حماية البلاد، ما أدى إلى انهياره أمام تنظيم داعش في 2014

٢/ التفكيك الناجح: الجيش الرواندي بعد الإبادة الجماعية 1994

بعد انتهاء الإبادة الجماعية في رواندا، قررت الدولة حل الجيش القديم بالكامل، وإعادة بناء مؤسسة عسكرية جديدة من الصفر، قائمة على مبادئ المواطنة، والانضباط، وعدم الولاء لأي إثنية معينة. هذا القرار أدى إلى استقرار رواندا، وتحول الجيش الجديد إلى مؤسسة محترفة تساهم اليوم في عمليات حفظ السلام الدولية.

الفرق بين الإصلاح والتفكيك: جوهر الصراع على مستقبل الدولة:

الفارق الجوهري بين مشروع “تأسيس” والخطابات الإصلاحية التي يروج لها نضال ومن يشاركونه الرؤية، يكمن في فهم طبيعة الدولة السودانية ومؤسساتها، وعلى رأسها المؤسسة العسكرية: هل المطلوب ترقيع ما فشل لعقود؟ أم تفكيكه وإعادة بنائه من الأساس؟

تجارب التاريخ واضحة:

في العراق، اختير مسار “الإصلاح”، فتم الإبقاء على مؤسسة عسكرية طائفية، فاسدة، ومرتبطة بولاءات ما قبل الدولة، فكانت النتيجة جيشًا عاجزًا عن حماية البلد من التفكك، والإرهاب، والتدخلات الخارجية.

في المقابل، اختارت رواندا طريق “التفكيك”، فجرى حل الجيش القديم بالكامل، وبُنيت مؤسسة عسكرية جديدة على أساس وطني ومهني شامل. هذه الخطوة الصارمة كانت مدخلًا لاستقرار سياسي واجتماعي طالما اعتُبر مستحيلًا بعد الإبادة الجماعية.

وهنا يبرز السؤال الجوهري:

لماذا يخشى نضال ومن يمثلهم من الحرس القديم مسار التفكيك؟

لأنهم لا يريدون تغييرًا حقيقيًا، بل تحسينًا محدودًا يحافظ على مركزهم في النظام القديم.

يريدون “جيشًا أكثر احترافية”، لكنهم لا يريدون جيشًا جديدًا بعقيدة مغايرة ومنظومة خاضعة للسلطة المدنية.

يريدون “دولة أكثر عدالة”، لكنهم لا يقبلون بناء دولة مختلفة جذريًا عن السودان القديم، دولة تقوم على المساواة لا الامتيازات المتوارثة. يريدون “سودانًا جديدًا” كشعار، لكنهم لا يريدونه كسيرورة تغيير تؤسس لقواعد جديدة لا تُكتب بشروطهم، بل بشروط من ناضلوا ودفعوا الثمن من أجل تأسيسه.

إن نضال يمثل ذهنية سياسية عاجزة عن مغادرة الماضي، ترى في مؤسسات الدولة الحالية إرثًا يجب الحفاظ عليه مع بعض التعديلات التجميلية، لا منظومة يجب تفكيكها لأنها ولدت من رحم الاستعمار، وتطورت كأداة قمع واستغلال، ولم تكن يومًا دولة وطنية لكل السودانيين.

هذا هو جوهر الصراع الحقيقي اليوم:

هل نريد دولة جديدة فعلاً، أم نسخة محسّنة من دولة فاشلة؟

ومَن يخشى التفكيك، لا يخشى على الوطن، بل يخشى أن يفقد آخر ما تبقى له من سلطة في منظومة لم تكن عادلة يومًا.

وهذا هو الفارق بين من يريد التغيير الشكلي، ومن يؤمن بتغيير جذري يعيد بناء السودان من الصفر.

ذهنية الوصاية السياسية: من يملك حق تقرير خيارات الحركة الشعبية؟

من المدهش أن نُضطر، في لحظة فارقة من تاريخ السودان، إلى مواجهة عقلية ما زالت تتعامل مع الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال كأنها “تابع فكري” أو “ذراع تنفيذية” لمشاريع الآخرين. هذه الذهنية، التي يتبناها نضال ومن يشاركونه المنهج، تقوم على ادعاء احتكار الحق في تحديد مسارات النضال، وكأنهم منحوا أنفسهم تفويضًا دائمًا في رسم حدود التغيير، وتوزيع صكوك الشرعية الثورية.

كما كتب عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، فإن أحد أخطر أعداء التغيير “هو النخبة التي تتقمص دور الكاهن الأخلاقي، لكنها في الواقع تحرس النظام القائم من أي تهديد حقيقي.”

وهذا ما يفعله نضال ورفاقه: يريدون من الحركة أن تظل في موقع رمزي كما اسلفنا، ترفع شعارات نقية، ولكن دون أن تملك أدوات التأثير، أو زمام المبادرة، أو حتى حق التحالف الاستراتيجي. الحركة الشعبية ليست عضلات للآخرين، ولا رصيد رمزي يُستعمل عند الحاجة.

ما يحاول هؤلاء فعله هو إعادة إنتاج العلاقة المختلّة التي صاغتها الأحزاب المركزية مع الهامش لعقود: العلاقة التي يُستخدم فيها نضال أهل الهامش كـ”قوة تنفيذية” في حين يُحتكر “العقل السياسي” و”القرار الإستراتيجي” في المركز.

وهنا يُستعاد، دون خجل، المنطق الاستعماري ذاته: تقسيم الفعل إلى “عقل” متمدّن و”جسد” مُستَغلّ. لا يختلف هذا السلوك عن ما وصفه المفكر الكيني نغوغي واثيونغو عندما قال:

“النخبة التي لا تكسر علاقتها مع السلطة القديمة، تعيد إنتاج الاستعمار في ثياب محلية”

السودان الجديد ليس شعارًا بل قطيعة مع بنية القهر:

نضال ، ومن يشاركونه ذلك “النقد المعقّم”، لا يسعون إلى سودان جديد فعلي، بل إلى إصدار منقّح من السودان القديم، يراعي توازنات مصالحهم، ويُبقي على امتيازاتهم تحت غطاء نظري ثوري. هم يريدون تغييرًا بلا تكلفة، وتحولًا لا يزعج مراكز النفوذ التقليدي. السودان الجديد، كما تطرحه الحركة الشعبية، ليس “رؤية مثالية”، بل عملية سياسية مركبة، تسعى إلى تفكيك بنية الدولة القديمة وإعادة هندستها على أسس العدالة والمواطنة والمركزية الديمقراطية. وهو بذلك لا يطلب الإذن من أحد، ولا ينتظر أن يُكتب له القبول من دوائر لم تشارك أصلًا في بناء المشروع، ولم تُضحِّ من أجله.

“قرّاد الخيل”: من يتطفلون على مشاريع لا يملكون ثمنها

في كل مشروع تحرري حقيقي، يبرز من يحاول أن يتسلق على ظهور المناضلين، دون أن يخوض معاركهم أو يدفع كلفة انتمائهم. هؤلاء هم “قرّاد الخيل” في التجربة السياسية — طفيليون يتشبثون بجسد الفعل الثوري لحظة اندفاعه، ثم يتحدثون كما لو كانوا في طليعته بينما هم يشوهونها أحيانا ويسعوا الي تحويرها أحيانا اخري!

وكما كتب المفكر الكولومبي أورلاندو فالس بيدلا:

“”أخطر ما يواجه الحركات التحررية ليس خصومها الظاهرون، بل الطفيليون الذين يلتصقون بها ليمارسوا الوصاية عليها دون أن يدفعوا كلفة الانتماء”

هذا هو تمامًا حال من ينتقدون الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال من خارجها، بل وينصّبون أنفسهم مرشدين أخلاقيين لمشروع لم يبنوه، ولا شاركوا في نضالاته. إنهم ليسوا أعضاءً في الحركة، ولا في سجلها السياسي أو العسكري، لكنهم يتحدثون عنها كما لو كانت أرضًا مشاعًا يجب أن تُدار وفق هواهم.

هؤلاء يمثلون ما وصفه الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا بـ”المتطفل الرمزي” ذلك الذي يقتات على سرديات غيره ليمنح نفسه حضورًا لم يصنعه، ومكانة لم يدفع ثمنها. فهم لم يساهموا في بناء السودان الجديد، لا في ساحات الفكر، ولا في ميدان الفعل، بل وقفوا على الهامش، يشوّشون على المبادئ التأسيسية نفسها: من الموقف من حق تقرير المصير، إلى رفض التحالفات السياسية الضرورية والمصيرية، مثل تلك التي أنتجت ميثاق تأسيس نيروبي ودستوره. ومع ذلك، لا يترددون في منح أنفسهم سلطة الوصاية والتقييم، كأنما يملكون مفاتيح النقاء الثوري، وهم في الواقع أبعد ما يكونون عن الالتزام أو المساهمة الفعلية.

إن من لم يدفع ثمن النضال، لا يملك حق توجيه البوصلة.

ومن لم يدخل ميادين التأسيس، لا يحق له أن يُنصّب نفسه قيمًا على مساره.

تحالف “تأسيس”: ضرورة إستراتيجية لا تهديد رمزي:

تحالف تأسيس ليس خيارًا عابرًا، بل استجابة واقعية لاختلالات بنيوية في الدولة السودانية، تهدف إلى كسر احتكار الجيش ومراكز النفوذ التقليدي لمفاتيح السلطة، وتفكيك الهياكل التي حكمت السودان منذ الاستقلال. ولأن هذا التحالف ينزع الشرعية من النخب القديمة، ويُعيد توزيع القوة على أسس العدالة التاريخية، والتنوع الحقيقي، والمواطنة الشاملة، فهو يثير قلق الذين لا يرغبون في تغيير قواعد اللعبة، بل فقط تعديل اللاعبين.

نقد أم قلق مموّه؟ حين يتحوّل الحرص الزائف إلى أداة لإعاقة التغيير:

الخطاب الذي يطرحه نضال وأمثاله لا يُعبّر عن نقد مبدئي بقدر ما يكشف عن قلق مضمر من فقدان الوصاية السياسية التي طالما مارستها النخب التقليدية على مسار التغيير في السودان. فلو كان الدافع الحقيقي هو انتهاكات حقوق الإنسان، لكانوا أول من اعترض على تقديم الدعم السريع ممثلًا مدنيًا في ملف السلام من قِبل قوى الحرية والتغيير بعد سقوط البشير. لكن ما يرفضونه اليوم ليس سجل الانتهاكات ذاته، بل استقلال الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال في بناء تحالف سياسي خارج هندسة القوى القديمة ومرجعياتها. جوهر اعتراضهم لا يتعلق بطبيعة الحلفاء، بل بمن يملك القرار، ومن يصوغ شروط التحالف، وسنعالج هذا في مقالات اخري.

بكلمات أخرى: هم لم يرفضوا الدعم السريع كقوة، وإنما يرفضون أن تُعيد الحركة الشعبية صياغة علاقتها به من موقع القوة السياسية والفكرية، لا من موقع التبعية أو الاستدعاء الرمزي- حتي اسالوا حركات سلام جوبا. هذا هو الفرق بين من يسعى لإعادة تشكيل موازين القوى، ومن يتمسّك بامتيازاته داخل منظومة قديمة تُعيد إنتاج الفشل باسم الثورة

والسؤال البديهي هنا: على ماذا يعترض هؤلاء؟

هل على الإقرار بعلمانية الدولة؟

هل على الاعتراف بحق تقرير المصير؟

هل على العدالة التاريخية بوصفها ضرورة لتجاوز المظالم البنيوية؟

هل على إعادة تاسيس الدولة والجيش؟

وهل ظهرت مثل هذه المبادئ – مجتمعة وبوضوح – في أي وثيقة سياسية سودانية من قبل؟

إذا كانت الإجابة “لا”، فإن رفضهم ليس رفضًا للمحتوى، بل رفض للجهة التي تجرّأت على إنتاج محتوى جديد، خارج وصايتهم ومفرداتهم القديمة. وهذا، في حقيقته، خوف من تحوّل مركز القرار السياسي إلى قوى كانت تُحرم حتى من الجلوس إلى طاولة الحوار، ناهيك عن قيادتها. إنه، باختصار، خوف مقنّع لا رؤية واضحة، وعرقلة لمشروع تأسيسي يحمل لأول مرة ملامح خروج حقيقي من قبضة الدولة القديمة.

الحركة الشعبية: مؤسسة مستقلة، تقود لا تُقاد:

الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال ليست ملحقة بأحد، ولا تُدار عبر تدوينات الإسافير أو تنظيرات الصالونات. هي مؤسسة ثورية لها مجلس تحرير قيادي، ومكتب سياسي، وقواعد تمتلك الوعي والشرعية.

وهي تعرف جيدًا أن التغيير لا يُستجدى، بل يُنتزع، وأن التحوّل الحقيقي لا يصنعه من يخشون امتلاك أدوات القوة، بل من يصوغونها بوعي ومسؤولية.

السودان الجديد: فضاء مفتوح، لا ينتظر المترددين

السودان الجديد ليس مشروعًا نظريًا أو ورقة بحثية، بل تحوّل بنيوي يسعى إلى إعادة تعريف معنى الدولة والسلطة والانتماء.

وهو لا يُصاغ وفق خيال النخب التي فشلت في إنتاج التغيير، بل ينبثق من إرادة القوى التي تواجه الواقع بكل تناقضاته وشراسته، كما قال المفكر البرازيلي باولو فريري:

.”الحياد في لحظة الظلم، خيانة. والانتظار في لحظة التحول، خضوع”

والسودان الجديد لن ينتظر من لا يملكون الشجاعة لعبور الجسر، ولن يتوقف على من لا يريدون التخلي عن ضفافهم القديمة

المزايدة بملف حقوق الإنسان في السودان: انتهازية سياسية وتنصّل أخلاقي:

من بين أكثر الحجج التي يكررها خصوم تحالف “تأسيس”، ومنهم نضال ومن يشاركونه الخطاب ذاته، هي حجة سجل قوات الدعم السريع في انتهاكات حقوق الإنسان. لا شك أن لقوات الدعم السريع سجلًا موثقًا من الانتهاكات الجسيمة ضد المدنيين، بما في ذلك جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، والتي تمثل خرقًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني، وتستوجب المساءلة الكاملة والمحاسبة الصارمة والعادلة لكل من تورّط فيها، سواء من موقع القرار أو التنفيذ.

لكن المعضلة لا تكمن في الاعتراف بهذه الجرائم، بل في الطريقة التي تُستخدم بها. فالحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، لم تبرر هذه الانتهاكات في أي وقت، بل أدانتها صراحة، وجعلت من العدالة – لا مجرد الانتقام – إحدى دعامات مشروعها السياسي، كما هو موضح في وثائقها وفي ميثاق تأسيس ، الذي تضمن مفهوم “العدالة التاريخية” بوصفه عملية متكاملة تتجاوز العقاب الفوري إلى مساءلة البنية السياسية والأمنية التي أنتجت هذه الجرائم.

وهنا يبرز سؤال جوهري: هل المطلوب إدانة الجرائم فقط، أم تفكيك البنية التي جعلت هذه الجرائم ممكنة؟

هذا هو الفارق الجوهري بين الموقف الأخلاقي المبدئي، والموقف الانتهازي النفعي. نضال وأمثاله لا يطرحون المسألة من منطلق إنصاف الضحايا، بل يوظفونها لأغراض المكايدة السياسية، في محاولة لتجريم تحالف سياسي يسعى إلى تفكيك جذور الأزمة لا فقط الوقوف على سطحها.

كما أشار المفكر السياسي الألماني أكسل هونيث، فإن “العدالة لا تتحقق بإدانة الجاني فقط، بل بفهم السياق المؤسسي الذي سمح للجريمة أن تكون ممكنة”.

ومشروع “تأسيس” صمم ليعمل في هذا الاتجاه: تفكيك المنظومة الايدولوجية، العسكرية-الأمنية التي مارست العنف لعقود، سواء أكان ذلك من خلال الجيش أو المليشيات أو الأجهزة الأمنية، أو من خلال مركزية الدولة السلطوية.

تتجلى الانتهازية عندما يُختزل ملف حقوق الإنسان في انتهاكات طرف معين، ويتم تجاهل الأطراف الأخرى التي ارتكبت جرائم مماثلة وأفظع، فقط لأنها تنتمي إلى البنية التقليدية للدولة أو تتماهى مع خطاب بعض النخب. هذا الصمت الانتقائي والتواطؤ الانتهازي يقوّض أسس العدالة ذاتها.

لقد تم تقديم قوات الدعم السريع في مرحلة ما بعد الثورة، من قبل قوى مدنية محسوبة على المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير، كشريك رئيسي في حكومة الثورة وكقائد لملف السلام. بل إن نائب رئيس المجلس السيادي حينها، محمد حمدان دقلو، تولّى بنفسه قيادة التفاوض مع الحركات المسلحة، ولم ترتفع حينها أصوات تدين هذه المشاركة كما يحدث اليوم مع الحركة الشعبية!

التجارب الدولية تؤكد أن المسار نحو العدالة في مجتمعات مابعد الحروب عملية معقدة وقد لا يعني بالضرورة الإقصاء المطلق، بل إعادة الدمج المشروط ضمن مشروع سياسي جديد. ففي جنوب أفريقيا، بينما تمت تفكيك بنية دولة الابرتائد، خضع جهاز الأمن العنصري لإعادة الهيكلة والرقابة المدنية بعد مرحلة العدالة الانتقالية. وفي أيرلندا الشمالية، تمت إعادة دمج الجماعات شبه العسكرية ضمن العملية السياسية بعد اتفاق الجمعة العظيمة عام 1998. وفي رواندا، تم تشكيل جيش وطني جديد على أسس شاملة بعد الإبادة الجماعية، وتفكيك بنية السلطة المؤسسات التي شرعت للإبادة.

كما كتب جون بول ليدراش، أحد أبرز منظّري العدالة الانتقالية: “ليست العدالة الانتقالية تصفية حساب، بل إعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع على أساس جديد يمنع تكرار الانتهاك”. بالتالي، فإن تحالف الحركة الشعبية مع قوات الدعم السريع لا يشكّل مكافأة على الجرائم المرتكبة، بل هو محاولة لإعادة توجيه الصراع السياسي نحو بناء مشروع شامل يخضع فيه الجميع لمنظومة محاسبة، وتحت مظلة الدولة القانونية.

إن أخطر ما يمكن أن يحدث هو أن تتحول معاناة الضحايا إلى أداة للمزايدة السياسية. حينذاك، لا تُستخدم هذه القضايا من أجل إحقاق الحق، بل لابتزاز القوى التي تحاول إعادة تشكيل الدولة من جذورها، وهذا بالتاكيد لن ينطوي علي الحركة الشعبية.

وفي النهاية، من يعارض تحالفًا هدفه وقف الحرب، وإعادة تشييد الدولة، وبناء منظومة عدالة شاملة، دون أن يقدّم بديلًا عمليًا، لا ينحاز إلى الضحايا، بل يُعيد إنتاج الشروط التي جعلتهم ضحايا في المقام الأول.

الفارق بين التجارب الدولية وما يفعله نضال وأمثاله، أن العالم واجه هذه الملفات بجدية ومسؤولية، لا بالمزايدة والصلف الفارغ. أما في السودان، فإن البعض يستخدم دماء الضحايا كذريعة للحفاظ على امتيازاتهم. السودان الجديد يمضي قُدُمًا، وهو يضع حقوق الإنسان في قلب مشروعه، لا كأداة للتخويف، بل كأساس لبناء دولة لا تسمح بتكرار الانتهاك. كل من تورّط في جرائم سيُحاسب، ولكن في إطار منظومة عدالة شاملة، لا وفق انتقائية تسعى لتصفية الخصوم أكثر مما تسعى لتحقيق العدالة والإنصاف.

وكما قال الفيلسوف أنطونيو غرامشي: “الحقائق لا تزول بالمزايدة عليها، بل تُستبدل فقط حين نواجهها بخطاب أعمق ومشروع أصلب” والسودان الجديد هو المشروع الصلب في السودان الان.

الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال ليست كيانًا يمكن إخضاعه للابتزاز السياسي أو التأثير عبر الضغوط الإعلامية. إنها حركة ثورية راسخة، تستمد شرعيتها من مؤسساتها المنتخبة وإرادة عضويتها، وتبني تحالفاتها وفقًا لرؤية استراتيجية تخدم مشروع السودان الجديد. الحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال لا تتحرك لإرضاء النخب التقليدية، بل لتفكيك منظومة الاستبداد والمركزية. فالسودان الجديد لا ينتظر المترددين، ومن لا يملك الشجاعة لمواجهة التحوّل الجذري، سيتركه الزمن خلفه.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.