نضال عبد الوهاب ومن لف لفه، الحرس القديم الفاشل ومحدودية الأفق السياسي: 1-2

✍️🏽 خالد كودي، بوسطن 20 /3/ 2025

 

تعليق على نضال عبد الوهاب ومن يشاطرونه الموقف:

“الثورة ليست تفويضًا أبديًا لمجموعة تحتكر النقاء، بل هي عملية مستمرة لتجاوز الجمود والتغيير الجذري”

– إرنستو تشي جيفارا.

هذا المقال ليس موجهًا لشخص نضال عبد الوهاب فحسب، بل هو ردٌّ على تيارٍ كامل من النخب المتحجرة التي نصّبت نفسها أوصياء على “النقاء الثوري”، تتلاعب بصكوك النضال، وتوزّعها كيفما شاءت، بينما تخوّن كل من لا يلتزم بقوالبها الجاهزة. هؤلاء يملؤون الفضاء الرقمي بضجيج لا ينقطع منذ أن وقّعت الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال على تحالف سياسي مع قوات الدعم السريع، إلى جانب قوى مدنية وحركات مسلحة أخرى، خلال اجتماع نيروبي في 4 مارس 2025

لكن لماذا هذا الهجوم؟

لأول مرة في تاريخ السودان، تم الإقرار في ميثاق التأسيس بعلمانية الدولة، وحُسمت قضية الهوية بشكل واضح، وتم وضع رؤية شاملة حول الجيش السوداني وتفكيكه، ومسألة الأرض، والحكم اللامركزي، والتوزيع العادل والمنصف للسلطة والثروة… الخ. كما طرح الميثاق مفاهيم متقدمة حول العدالة التاريخية، مصطحبا العدالة الانتقالية التقليدية، ليخاطب الجذور العميقة للظلم والتهميش في السودان.

لكن هذا لم يُعجب نضال عبد الوهاب ومن يشاطرونه الرؤية الجامدة. فقد انخرطوا في حملة منظمة لتشويه الحركة الشعبية وقيادتها، مستخدمين خطاب التخوين، والارتزاق، والعمالة، دون تقديم أي ادلة موضوعية او رؤية بديلة لكيف الخروج من الوضع الذي يعيشه السودان اليوم. هؤلاء الذين يدّعون النقاء الثوري، تناسوا أن الحركة الشعبية قد وقّعت سابقًا أكثر من 25 اتفاقًا سياسيًا وإعلان مبادئ مع قوى سياسية ومدنية وتنظيمات فئوية، بما فيها قيادة الدعم السريع ذاتها، عندما قدّمته القوى المدنية التي سطت على الثورة بعد سقوط عمر البشير كممثل شرعي لها.

“الحقيقة هي عدو هؤلاء الذين لا يملكون غير الأوهام ليعيشوا بها”

– جورج أورويل.

كل اتفاقيات الحركة السابقة مرّت بهدوء، لم تُثر ضجيجًا في دوائر “الأوصياء الثوريين”، لكن عندما تم توقيع الميثاق السياسي والدستور الجديد، تحرّكت ماكينات التخوين والهجوم الممنهج، رغم أن الجيش السوداني نفسه لم يتوقف عن محاولات التفاهم مع ذات الدعم السريع. هنا يكشف نضال عبد الوهاب وأمثاله عن تناقضهم الفج، فهم ينتقدون أي تقارب بين الحركة الشعبية والدعم السريع، بينما يغضّون الطرف عن التفاهمات التي يجريها الجيش وغيره من القوي السياسية والمدنية مع نفس الطرف!

“السودان الجديد” ليس قالبًا جامدًا… ولا حكرًا على أحد

“”المؤمن بالفكرة لا يخاف من تطويرها، أما العاجزون فيريدونها متحفًا مغلقًا على أفكارهم المتكلسة

– مالكوم إكس.

نضال عبد الوهاب ليس عضوًا في الحركة الشعبية، لكنه يمنح نفسه الحق في تحديد مساراتها، ووضع حدود فكرية لا ينبغي تجاوزها، ورفض أي محاولة لإعادة إنتاج مشروع “السودان الجديد” خارج التصورات الجامدة التي يحملها. لكنه ينسى حقيقة جوهرية:

“السودان الجديد” لم يكن يومًا مشروعًا محافظًا، ولا فكرة مغلقة تخضع لوصاية نخب بعينها، بل هو مشروع مفتوح، ديناميكي، قابل للتطور والتكيّف مع الواقع السياسي والاجتماعي المتغيّر. والحركة الشعبية لم تكن يومًا رهينة لمنظور أحادي، ولا تقبل أن يحدّد مسارها حراس العقيدة السياسية القديمة، وبالتأكيد… ولا الفاشلون.

نضال وذهنية الوصاية:

يبدو أن نضال ومن يشاطرونه يعاني من عقدة الوصاية، حيث يظن أنه صاحب حق في تحديد الخيارات السياسية للحركة الشعبية، وهكذا يسوق في الاسافير، رغم أنه ليس جزءًا منها، ولم يدفع ثمن النضال في صفوفها، ولم يساهم في صياغة مساراتها التاريخية. لكنه يتصرف كما لو كان الموجّه الأخلاقي والسياسي للحركة، معتقدًا أن رؤيته الخاصة لماهية “السودان الجديد” هي الحقيقة التي يجب أن تتبعها الحركة وقادتها وأعضاؤها! هذا السلوك الصلف ليس جديدًا على التيارات التي تتبنى خطاب التغيير الشكلي، لكنها في الواقع تخشى التغيير الجذري، لأنها تفضل إصلاح النظام القديم بدلًا من تفكيكه وإعادة بنائه وفق أسس جديدة وبيد ثوار السودان الجديد، وهذا ما دفعنا لتخصيص هذه المساحة وتشريح هذه الظاهرة.

نضال عبد الوهاب: وصاية بلا رؤية واقعية:

في مقالته حول تحالف الحركة الشعبية مع قوات الدعم السريع، اتهامه لمثقفي الحركة بالتدليس وما اليه، يحاول نضال عبد الوهاب تصوير أي تحالف سياسي مع قوة عسكرية على أنه خيانة لمبادئ الحركة الشعبية، جاهلًا أن السياسة لا تُدار بمنطق الجمود والمثالية المجردة، بل وفق توازنات القوى والواقع السياسي والمصالح الديناميكية. كما يزايد على الحركة الشعبية بملف حقوق الإنسان، ويستخدم سجل الدعم السريع كأداة لمهاجمة هذا التحالف، متناسيًا أن الحركة الشعبية ليست ساذجة، بل تدرك تمامًا من هو الدعم السريع، وتاريخه، والجرائم التي ارتكبها، ومع ذلك، اختارت التحالف معه استنادًا إلى ميثاق التأسيس والدستور الانتقالي، لا إلى سجله الحقوقي.

السلام لا يُصنع مع الأصدقاء، بل مع الأعداء:

الحركة الشعبية لديها تاريخ طويل في البحث عن السلام حتى مع ألد أعدائها، بما في ذلك المؤتمر الوطني، الذي لم يكتفِ بصنع قوات الدعم السريع، بل كان مسؤولا عن بعضٍ من أسوأ انتهاكات حقوق الإنسان في العالم. ورغم ذلك، دخلت الحركة الشعبية في تفاهمات سياسية مع النظام في مراحل مختلفة، ليس لأنها تتغاضى عن جرائمه، بل لأنها تدرك أن أي تغيير حقيقي يتطلب التعاطي مع مراكز القوة الموجودة على الأرض. فمن يريد إيقاف الحروب، عليه أن يتحاور مع من يشعلها. ومن يسعى لإنهاء الانتهاكات، لا يمكنه تجاهل الأطراف التي ترتكبها، بل عليه التعامل معها، وإيجاد حلول للأسباب التي تؤدي إلى استمرار الحروب وارتكاب الانتهاكات.

الحركة الشعبية: سياسة الواقع لا أوهام الشعارات:

الحركة الشعبية لا تمارس سياسة الشعارات الفارغة، ولا تتخذ قراراتها بناءً على حسابات عاطفية أو مثالية زائفة، بل وفق رؤية استراتيجية واضحة تهدف إلى بناء وطن مستقر، خالٍ من الحروب والصراعات الدائمة. هذه ليست مجرد وجهة نظر، بل حقيقة أكدها التاريخ، حيث أثبتت التجارب السياسية أن رفض الحوار مع الخصوم لا يؤدي إلا إلى إطالة أمد الأزمات، بينما التفاوض والاستيعاب هو ما يصنع الاستقرار الدائم.

يقول ماكس فيبر، عالم الاجتماع الألماني الشهير:

“السياسة ليست فعلًا أخلاقيًا محضًا، بل هي فن الموازنة بين الممكن والمثالي، وبين الضرورة والقيم”

وبنفس المعنى، قال هنري كسنجر، أحد أبرز مفكري العلاقات الدولية:

“السلام لا يصنعه الأصدقاء، بل الخصوم الذين يدركون أن استمرار الصراع ليس في مصلحتهم”

نماذج لقادة صنعوا السلام عبر التفاهم مع خصومهم بدرجات مختلفة:

١/ نيلسون مانديلا – جنوب إفريقيا:

بعد 27 عامًا من السجن بسبب نظام الفصل العنصري، خرج مانديلا لا ليحاكم النظام القديم، بل ليجلس مع قادته ويتفاوض معهم. التقى فريدريك دي كليرك، رئيس النظام الذي اضطهد السود لعقود، وسعى لإدماجه في عملية تحول سياسي سلمية بدلاً من الانتقام. هذه الشجاعة السياسية جنّبت جنوب إفريقيا حربًا أهلية، وجعلت مانديلا رمزًا عالميًا للسلام والمصالحة.

٢/ ونستون تشرشل و جوزيف ستالين – تحالف الضرورة في الحرب العالمية الثانية:

كان تشرشل معروفًا بعدائه للشيوعية، بينما كان ستالين يقود أحد أكثر الأنظمة القمعية في العالم. لكن أمام خطر النازية، قرر الرجلان التحالف لهزيمة العدو المشترك. فكما قال تشرشل:

“إذا غزا هتلر الجحيم، فسأتحالف مع الشيطان نفسه”

. ٣/ رونالد ريغان وميخائيل غورباتشوف – نهاية الحرب الباردة

بدلًا من مواصلة سباق التسلح المدمر مع الاتحاد السوفيتي، اختار الرئيس الأمريكي رونالد ريغان الجلوس مع غورباتشوف، وبدأ محادثات أنهت الحرب الباردة دون مواجهة نووية، رغم أن النظام السوفيتي كان أحد أكثر الأنظمة قمعًا في القرن العشرين.

. ٤/ جيري آدامز – السلام في أيرلندا الشمالية

قاد جيري آدامز حزب الشين فين، الجناح السياسي للجيش الجمهوري الإيرلندي، الذي كان في صراع دموي مع بريطانيا لعقود. لكنه أدرك أن التفاوض هو الطريق الوحيد لإنهاء العنف، وساهم في توقيع اتفاقية الجمعة العظيمة، التي وضعت حدًا لنزاع استمر أكثر من 30 عامًا.

. ٥/ لي كوان يو – بناء سنغافورة من خلال استيعاب الخصوم

لي كوان يو، مؤسس سنغافورة الحديثة، لم يصل إلى الاستقرار والنهضة الاقتصادية عبر إقصاء خصومه، بل من خلال استيعاب القوى المعارضة، وإشراكهم في العملية السياسية

الحركة الشعبية: نهج استراتيجي لا عواطف مؤقتة:

مثل هؤلاء القادة، الحركة الشعبية لا تتحرك وفق العواطف أو الحسابات الضيقة، بل وفق رؤية سياسية ناضجة تدرك أن بناء الدول يحتاج إلى الشجاعة للتفاوض حتى مع الأعداء. نعم، الدعم السريع لديه سجل سيئ في حقوق الإنسان، لكن الواقع لا يتغير بالإنكار، بل عبر التعامل معه بحكمة وتغيير موازين القوى في الوقت المناسب. إذا كان نضال عبد الوهاب وغيره، يعتقد أن السياسة تُمارس عبر الشعارات دون تفاوض، فهو ببساطة لا يفهم كيف تُبنى الدول، ولا كيف يُصنع السلام ومن لديه القدرة علي صنع السلام.

مأساة حظوة الميلاد وذهنية الوصاية:

في كل المجتمعات، تُولد فئة من النخب التي تعتقد أن مجرد انتمائها (للنخب بمختلف- اوجهها) يمنحها الحق في التحدث باسم الآخرين، وتحديد مصائرهم، ورسم مساراتهم، حتى لو لم يكن لديها أي سجل نجاح فعلي يمكن استخدامه كمرجعية.

عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو يفسر هذا الأمر من خلال مفهوم “رأس المال الرمزي”، حيث تحتكر بعض الفئات النفوذ السياسي فقط بسبب امتيازاتها التاريخية، وليس بناءً على الكفاءة أو الإنجاز، نضال هذا، مثل غيره من أمتداد هذه النخب، لم يُنتخب، لم يقاتل، لم يبنِ، ولم يُقدّم مشروعًا حقيقيًا ومعروفا واحدا في حياته، لكنه يصر على أنه هو من يفهم مصلحة الحركة الشعبية وحريص علي تاريخها النضالي أكثر من عضويتها ومؤسساتها وقيادتها نفسها!

الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي وصف هذه الظاهرة بـ”هيمنة النخبة”، حيث تستخدم النخب الخطاب الأخلاقي والإعلامي لإبقاء السلطة في أيديها، حتى عندما تكون غير مؤهلة للقيادة. هذه النخب لا تستطيع رؤية المهمشين كمتحكمين في مصائرهم وصانعي لما يقود الي تحقيق مصالحهم ، ولا كشركاء متساوين في صنع القرار، بل تراهم كأتباع عليهم أن يصغوا وينفذوا. حتى عندما يكون الفشل هو النتيجة الوحيدة لمسيرتهم، لا يتوقفون عن إصدار التعليمات والتوجيهات وكأنهم أوصياء على الجميع.

نموذج الفشل المتكرر: عجز عن الإنجاز وإصرار على التجريب بالآخرين:

في المشهد السياسي السوداني، كما في العديد من التجارب التاريخية، يتكرر نمط مألوف للنخب التي لم تقُد يومًا حركة سياسية ناجحة، ولم تبنِ مؤسسة قوية، ولم تطرح مشروعًا بديلاً عما تنتقده، لكنها مع ذلك تمنح نفسها الحق في التنظير، وتوزيع صكوك الوطنية، وكأن امتلاك الصوت العالي يعوض غياب الفعل والإنجاز.

يقول نعوم تشومسكي:

“النخب التي تفشل في تقديم حلول حقيقية تلجأ إلى احتكار الخطاب بدلًا من احتكار الفعل”

هذه النخب لا تضع أي استراتيجية قابلة للتنفيذ، ولا تتحمل مسؤولية أي تجربة سابقة، لكنها تستمر في محاولات فرض وصايتها على المجتمع، مقتنعة بأن امتيازاتها الجهوية او الاثنية أوالطبقية تمنحها الحق في إعادة إنتاج الفشل.

أشار إدوارد سعيد في المثقف والسلطة”:

“المثقف الحقيقي هو من ينتج الأفكار، لا من يرددها ليحافظ على موقعه بين النخب”

لكن هذه النخب لا تسعى إلى إنتاج الأفكار، بل إلى احتكار السردية السياسية، حتى ولو كان الثمن هو الإبقاء على نفس الهياكل التي تدّعي معارضتها.

يقول فرانز فانون في معذبو الأرض”:

“لا شيء أخطر على الشعوب المستعمَرة من نخب تعيد إنتاج آليات القهر التي تدّعي محاربتها” هؤلاء النخب لا يعيشون على النجاح، بل على نقد الآخرين وعرقلة التغيير الحقيقي. حتى عندما تفشل مشاريعهم الفكرية والسياسية، فإنهم دائمًا يجدون من يلومونه غير أنفسهم! منذ استقلال السودان، والنخب طلت كما هي، جاء أكتوبر فتمخضت لتلد نفس الفار الذي ولدته في ابريل وأخيرا في ديسمير!

وكما أوضح جون ديوي:

“الاختبار الحقيقي لأي فكرة ليس في مدى قدرتها على إثارة الجدل، بل في قدرتها على تحقيق نتائج ملموسة” لكنهم لا يقيسون نجاحهم او فشلهم بالنتائج، بل بمدى قدرتهم على إبقاء أنفسهم في قلب المشهد، حتى ولو كان ثمن ذلك هو إدامة الأزمات السياسية والاجتماعية وتدوير الرؤي المجربة.

أنطونيو غرامشي وصف هذه الظاهرة بدقة عندما قال:

“”الأزمة تحدث عندما يكون القديم يحتضر، لكن الجديد لم يولد بعد، وحينها يكثر أنصاف المثقفين الذين يملأون الفراغ بالصراخ” وهذا تمامًا ما ينطبق على نضال عبد الوهاب ومن يشاركونه الهجوم على الحركة الشعبية وعضويتها ومشروعها. فهم لا يمتلكون رؤية واضحة أو بديلًا حقيقيًا، بل يكررون نفس الخطابات المستهلكة والتجارب الفاشلة، في محاولة لملء الفراغ بالضجيج بدلًا من تقديم أي مشروع فعّال وقابل للتطبيق.

لكن الحقيقة واضحة: انتهى زمن هذه النخب. السودان الجديد لن يُصنع وفق مزاج الفاشلين، بل وفق إرادة أولئك الذين يعملون على بنائه، لا من يكتفون بالكلام عنه.

نضال عبد الوهاب وسقف “الإصلاح” المحدود:

المشكلة مع نضال عبد الوهاب ومن يشاركونه ذات المواقف لا تتوقف عند محاولة فرض الوصاية على الحركة الشعبية، بل تمتد إلى محدودية الأفق السياسي الذي يتحركون ضمنه. فبينما يرفض نضال التحالفات مع قوى عسكرية مثل قوات الدعم السريع، فإنه لا يقدم أي بدائل حقيقية لمواجهة القوى العسكرية الفاشية المهيمنة في السودان – لماذا؟

لأن الجيش السوداني، بتركيبته الحالية، لا يمثل تهديدًا حقيقيًا لنضال ومن هم على شاكلته، بل يظل، إلى حد كبير، مؤسسة آمنة لهم، تتماشى مع مصالحهم ورؤيتهم السياسية المحدودة. هذا الجيش، بكل تاريخه في الانقلابات، الحروب الاهلية، القمع، والاستبداد، لم يكن يومًا مؤسسة محايدة، ومع ذلك، فإن سقف اعتراض نضال عليه لا يتجاوز حدود “إصلاح الجيش”، أو “إعادة هيكلته”، أو ترديد شعارات مثل “العسكر للثكنات”، دون أن يطرح أبدًا فكرة تفكيك الجيش بالكامل، وإعادة بناء مؤسسة عسكرية بعقيدة جديدة قائمة على المواطنة، لا على الهيمنة السياسية والإثنية.

إن هذه الانتقائية في المواقف تكشف عن ارتباط مصالح هؤلاء بالمؤسسة العسكرية التقليدية، حيث يتبنون خطابًا يدعو إلى “إصلاحها”، بينما يرفضون أي تحالفات مع قوى عسكرية أخرى تهدد احتكار الجيش للسلطة، حتى لو كان ذلك جزءًا من استراتيجية أوسع لإعادة تشكيل السودان على أسس جديدة.

وهذا هو الفارق الجوهري بين مايتبناه أمثال نضال وبين مشروع تأسيس:

تفكيك الجيش، لا إصلاحه:

مشروع تحالف تأسيس لا يسعى إلى “إصلاح” الجيش السوداني، بل إلى تفكيكه بالكامل وإعادة بناء مؤسسة عسكرية جديدة تتماشى مع رؤية السودان الجديد وتعبر عن السودان برمته. على عكس ما يروج له البعض، فإن المعضلة ليست في مجرد “سلوك” الجيش وهناته هنا وهناك، بل في بنيته العميقة وعقيدته القتالية التي تأسست على القمع والتمييز والولاء للنخب الحاكمة، لا للوطن.

نضال ومن يشاركونه ذات الرؤية يريدون “جيشًا أكثر وطنية”، لكنهم لا يريدون تفكيكه جذريًا، بل يفضلون تحسينه ضمن الإطار القائم، دون المساس بالبنية العميقة التي جعلته أداة قمع تاريخية. هذه المقاربة الإصلاحية المحافظة تعكس حالة من الازدواجية السياسية، حيث يتم رفض الواقع، لكن في الوقت ذاته، يُخشى تغييره جذريًا!

تحالف تأسيس: موقف الوثيقة التأسيسية من الجيش السوداني بين التفكيك والإصلاح:

تتبنى الوثيقة التأسيسية لتحالف تأسيس موقفًا حاسمًا من الجيش السوداني، حيث تعتبره مؤسسة غير وطنية، نشأت منذ الاستقلال كأداة لحماية النخبة الحاكمة وقمع السودانيين في الأطراف، بدلاً من أن تكون قوة عسكرية وطنية تمثل الجميع. وبناءً على ذلك، ترفض الوثيقة فكرة إصلاح الجيش، مؤكدة أن الحل الوحيد هو تفكيكه بالكامل وإعادة بنائه على أسس جديدة.

أسس التغيير في الوثيقة التأسيسية- تفكيك الجيش السوداني الحالي:

١/ حل جميع تشكيلاته القائمة، بما يشمل هيكله القيادي وعقيدته القتالية

التخلص من الإرث العسكري المرتبط بالتمييز العنصري، الجهوي، والهوس الديني

. ٢/ بناء جيش جديد يمثل السودان بكل مكوناته

تأسيس مؤسسة عسكرية وطنية تقوم على معايير غير عنصرية وغير إقصائية

ضمان تمثيل حقيقي لمختلف مناطق السودان، بعيدًا عن مركزية السلطة التقليدية

تطوير عقيدة عسكرية حديثة تحمي الديمقراطية ولا تخضع لأي نظام سياسي استبدادي

. ٣/ إخضاع المؤسسة العسكرية للسلطة المدنية

ضمان عدم تدخل الجيش في السياسة أو استخدامه كأداة لقمع الشعب

بناء جيش يلتزم بدستور ديمقراطي علماني يضمن سيادة القانون

رؤية تحالف تأسيس مقابل الإصلاحية المحافظة:

يرى تحالف تأسيس أن الجيش السوداني لا يمكن إصلاحه لأنه جزء أساسي من المشكلة وليس مجرد أداة خاطئة يمكن تصحيحها. الإصلاحيون المحافظون، مثل نضال ومن يشاركونه ذات الرؤية، يريدون “تعديلات شكلية” داخل الجيش، دون المساس بجوهره القمعي، مما يعني إعادة إنتاج الأزمة بدلًا من معالجتها

الإصلاح أم التفكيك؟ دروس من العالم:

تجارب العالم تؤكد أن الجيوش التي ترسخت في أنظمة استبدادية لا يمكن إصلاحها دون إعادة تشكيلها بالكامل

ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية: تم حل الجيش النازي بالكامل، وأعيد بناء مؤسسة عسكرية جديدة تحت إشراف ديمقراطي صارم.

جنوب إفريقيا بعد الأبارتهايد: تم تفكيك الجيش العنصري وإعادة هيكلته ليشمل قوات التحرير التي كانت تقاتله، مما أرسى جيشًا أكثر تمثيلًا وعدالة.

إندونيسيا بعد سقوط سوهارتو: أُخضعت المؤسسة العسكرية لإصلاحات جذرية أزالت نفوذها السياسي وأعادت هيكلتها.

نواصل في الجزء الثاني من المقال.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.