نشأة وتطور المدن “الإقليمية”: أولاً:مدينة جوبا

✍️ أتيم سايمون

 

مرت مدينة جوبا ، عاصمة المديرية و الاقليم الإستوائي سابقا وعاصمة دولة جنوب السودان الحالية بعدة مراحل عبر الحقب و الفترات التاريخية المختلفة،فقد تطورت من قرية صغيرة مغمورة وغير مشهورة على الضفة الغربية لبحر الجبل، إلى مدينة كبيرة شاعت سمعتها في الآفاق ،إذ أصبحت العاصمة السياسية الثانية في السودان و المدينة الأولى في الجنوب التي تتجه اليها الأنظار من كل حدب وصوب.

وبحسب بول دينق شول فقد تضاربت الروايات الشفهية عن أصل كلمة جوبا فمن بعض تلك الروايات حسب بول دينق شول ما يفيد ان كلمة جوبا في الأصل إسم محلي يطلق على المولود البكر لدى قبيلة الباري، أما المكان الذي عرف بهذا الإسم “جوبا” فان روايات قبيلة الباري الشفهية تشير إلى أنه مسمى لطبيب شعبي مشهور يدعى جوبيك من أحد عشائر الباري تسمى “نيوري” قدم إلى منطقة “تيندو” أو جوبا ناباري أي جوبا الحالية ومن مناطق الباري الشمالية وبالتحديد منطقة “نياركينجي” وهو ما يعرف اليوم باسم جبل لادو فيما بين 1880-1920،وقد رحبت به عشيرة “لومبيري” وهي إحدى عشائر الباري أيضا وأفسحت له بينها ، ولمع نجمه بعد سنوات قليلة وذاع صيته وبلغت شهرته الأسماع ،لما كان يقوم به من طقوس تقليدية قيمة أفاد بها من كان في محيطه و بيئته الجديدة وما دونها من المناطق البعيدة ، ونظرا لعوامل الأمن والرفاه التي عمت المنطقة في كنفه ، إذ قاوم الأمراض و الإعتداءات الخارجية ،أخص أهل “تيندو” له النية فاعتبروه مخلصهم ،بل جعلوه طرفا مهما في حياتهم وإمعانا في الرضا عنه أطلقوا إسمه على منطقتهم فصارت تعرف بإسم “جوبيك”.

حدثت تغييرات في الإسم فهناك روايات تعزيه إلى أسباب جغرافية وتأثيرات خارجية ، حيث تشير الروايات إلى أنه أهل القسم الشمالي من الباري ،يحذفون الكاف من نطقهم في أواخر الكلمة أحيانا كما في نحو “جوبي” في جوبيك، بينما تثبت في نطق أهل القسم الجنوبي الذي يبقي على الكاف في آخر الكلمة ،أما التأثير الخارجي فيتمثل فيما نتج عن الغزو الأجنبي الأوربي الذي أخضع المنطقة الإستوائية لسلطانه في أواخر القرن التاسع عشر حاملا معه عاداته اللغوية فصارت الكلمة جوبا بدلا عن جوبي1924.

فكرت سلطات مدينة منقلا منذ العام 1924 في نقل رئاسة مركز الرجاف الإداري إلى مكان أفضل من ذلك الموقع نسبة لتعثر حركة المواصلات النهرية بين منطقة الرجاف وجوبا بسببالجنادل والمسارع الصخرية على النهر في قرية “كوندرا”، وبعد أكثر من ثلاث سنوات من البحث الدقيق نقلت رئاسة مركز الرجاف عام 1929 إلى جوبا التي كانت يومذاك قرية صغيرة على الضفة الغربية لبحر الجبل، ويعود ذلك لمزاياها العديدة فهي تقع في مكان مرتفع يقيها من خطر الفيضانات ،كما أن المجرى النيلي شمالها يخلو من الجنادل الضغيرة مما يجعلها صالحة لرسو البواخر النيلية ، ولا يستبعد أن تكون موجة الإهتزازات الأرضية التي تنبعث من جبل “لوقويك – الرجاف” من حين لآخر هي واحدة من الأسباب التي دفعت السلطات دفعا إلى نقل رئاسة المركز الى منطقة جوبا .

يقول بريندان توتلي في وصف نشأة مدينة جوبا الحالية:”تم إنشاء جوبا على سلسلة من التلال الصخرية الممتدة شرقاً من جبل كوروك (المعروف شعبياً بجبل كوجور) إلى منعطف بحر الجبل الذي كان عميقاً بما يكفي لحركة مرور السفن البخارية. مثلما ان مدينة جوبا لم تكن زريبة سابقة تم تحويلها لتصبح محطة عسكرية او مركز إداري كما هو الحال مع بقية مدن جنوب السودان الأخرى، وقد تم اختيارها كمقر إداري جديد في العام 1927 من قبل آرثر والاس سكرين ، حاكم مقاطعة منقلا و والذي كان “يعاني باستمرار من الملاريا” بعد أن أثبتت كلا من كوندوكورو و منقلا أنها مواقع “غير صحية” في تقديره.و خلال زيارة له لمحطة جمعية التبشير الكنسية ، التي أنشأها أرشيبالد شو بالقرب من إحدى قرى باري الصغيرة ، رأى سكرين أن التلال الممتدة إلى النهر ستكون موقعًا صحيًا لمقر إقليمي. وبدأ البناء في عام 1928 بمكتب بخاري إلى جانب تشييد طريق بطول 22 ميلاً يربط المحطة الجديدة بطريق الرجاف-أبا. وكذلك تم الفراغ من أعمال بناء فندق جوبا في العام التالي 1929، وتم بناء المباني الحكومية ومنازل المسؤولين على طول التلال المطلة على الأراضي المنخفضة في المستنقعات الواقعة شمالاً. من هذه القمة ، حيث يوجد شارع الوزارات الحالي ، وذلك حتى يتسنى للمسؤولين البريطانيين مراقبة “بوروسوكي” ، منطقة إقامة السكان المحليين الذين تم الإستعانة بهم لبناء المدينة .

بحلول عام 1934 ‘ستقر حوالي ألف شخص في “بوروسوكي”، وبسبب إنتشار الحمى الصفراء تم نقل السكان فجأة الى “بوروكورونجو” والتي هي منطقة الملكية الحالية وتم هدم “بوروسوكي”، وتم تحديد منطقة سكن الأهالي الجديدة في المنطقة الصخرية المرتفعة من ضفة “خور بو” الذي يفصلها عن المستشفى من جهة الشمال، وتركت متنزها صغيرا ليلعب فيه الاطفال ، وتنهتي منطقة سكن الأهالى في “خور لوبيت” ، وقد كانت تضم مدرسة الملكية الإبتدائية وسبعة مجمعات سكنية تم تقسيم كل منها الى عشرة قطع مفصولة عن بعضها بأشجار الخروع.

في العام 1930 نقلت أيضا رئاسة مديرية منقلا إلى داخل جوبا بسبب الفيضانات التي كانت تغمر منطقة منقلا من وقت لآخروذلك بسبب إنخفاض مستوى الأرض فيها،ونمت جوبا كمدينة إستعمارية صغيرة بلغ عدد سكانها حتى منتصف الثلاثينيات حوالى 1200 نسمة، وكانت توجد بها امتدادات قصيرة من الطرق ، وكانت توجد بها عدد من المتاجر المملوكة للهنود واليونانيين وصف من الورش الصغيرة والمستودعات والعديد من الأكواخ الصغيرة ، بالإضافة إلى فندق جوبا الذي يبعد مسافة حوالي كيلومتر واحد في الناحية الغربية للمدينة.

كانت مدينة جوبا الحديثة آنذاك صغيرة الحجم ، تم تحديد مركزها بنصب تذكاري من الحجر تم تزيينه بالواح صغيرة نقشت عليها اسماء مبشرين ومرتزقة وضباط وإداريين كانوا يعملون مع النظام العثماني ابرزهم ): لويس ساباتير ، فرديناند فيرن ، إغناتيوس كنوبلشر ، صموئيل بيكر ، تشارلز غوردون ، أمين باشا ، رومولو جيسي ، وتشارلز تشايلي لونج،وكانت توجد في الجهة الشرقية مكاتب ومساكن مديري المدينة “ضابط المنطقة،الطبيب،الممرضة،ضابط الصحة و مسئول الأشغال العامة والمسئول الزراعي”.

وخلال الفترة الممتدة من ثلاثينيات الى أربعينيات القرن المأضي نشأت في منطقة سكن الأهالي بمدينة جوبا التي اصبحت عاصمة المديرية الإستوائية في 1945، مجموعة من الأحياء السكنية مثل ” حي كوستي ،حي ملكال ،نمرة تلاتة، حي جلابة، وتلك مناطق مفصولة من موقع سكن الأجانب من موظفي الحكومة والتجار في حي المديرية.

هذا ويعتبر حي الملكية من أقدم المناطق السكنية بمدينة جوبا التي تأسست في عهد الادارة الأنجلو مصرية في العام 1930، وكانت تضم منازل المواطنين الذين تمت الإستعانة بهم في بناء المدينة الحديثة، وقد كان هؤلاء العمال يقيمون قبلا في منطقة تدعى “بورسيكي” في المنطقة التي أقيم بها مطار الذي بدأ تشييده في العام 1925، وبعد إكتمال بناء المطار تم تحويل في 1934 تم تحويل المواطنين وإعادة توطينهم في مركز الملكية (Tuttle، 2022)،وكان السكان الأوائل بحي الملكية ينحدرون من مناطق عديدة من شمال وجنوب السودان،فقد كانت تمثل مركزا حضريا متنوع من حيث الثقافة واللغة والمعتقدات، ويرتبط إسم الملكية بعدة أحياء ومناطق حملت ذات التسمية في السودان وشرق إفريقيا، والتي يعود إنشائها للجنود المتقاعدين من الخدمة العسكرية في الجيش التركي المصري خلال فترة القرن التاسع عشر، وكانت السلطات الإستعمارية تطلق علي الملكية إسم “منطقة سكن الأهالي” أيضا، في مقابل المدينة القديمة التي تحمل إسم “جوبا” الواقعة شمالي “خور بو” حيث يقيم الموظفين الانجليز و التجار الأجانب.

وفي بداية الخمسينيات توسعت منطقة الملكية ، فتم إعادة توطين جزء من سكانها في المناطق المقابلة للملكية وذلك في إطار الخطط الهادفة لتخطيط وتنظيم المدينة وفتح الطرق الجديدة، وقد تم تعويض المتضررين من التخطيط في مناطق سكنية جديدة ،وكانت تلك بداية تأسيس حي كوستي وحي ملكال نمرة تلاتة ، كلي بالك في الخمسينيات، وفي الستينيات تم تأسيس أحياء كتور وأطلع برة من قبل الأشخاص الذين لم يتمكنوا من الإستجابة لمعايير التخطيط الجديدة في حي الملكية.

ومن الملاحظات المهمة التي وضعها شويشيرو ناكاو، في دراسته التاريخية عن حي الملكية بجوبا، هي أن هناك إختلافات كبيرة بينها وبين المناطق الأخرى التي حملت ذات الإسم في شمال السودان و شرق إفريقيا، وفي بقية مدن جنوب السودان الأخرى مثل واو وملكال، فالمجموعات المستقرة في منطقة الملكية السكنية بجوبا ترتبط بصلات وجذور معروفة مع مجتمعاتها المحلية، في وقت تتميز فيه عنها باكتسابها للسمات الحضرية التي نتجت عن تفاعلاتها المبكرة مع الإدارة التركية المصرية في منقلا وصولا لعهد الحكم الانجليزي،فاصبحت تشكل خليطا سكانيا يضم الى جانب الجنوبيين مجموعات أخرى من السودان وشرق إفريقيا تشكل موزاييك ثقافي وإجتماعي.

هذا ويعتبر حي “الجلابة” من أقدم وأعرق أحياء مدينة جوبا، فقد بدأ منه تأسيس المدينة الحديثة في عشرينيات القرن المنصرم ،حيث تم بناؤه من قبل التجار الأجانب بالتعاون مع السلطات الأنجلو مصرية،حيث إستقروا في المنطقة التي إتخذت إسمها من اللقب الذي يطلق علي التجار الشماليين في أغلب مناطق جنوب السودان،وكانت تسكن في الحي أيضا مجموعات كبيرة من اللبنانيين والسوريين واليونانيين والقبارصة.

وقد كان المسئولين البريطانيين يشيرون إلى حي الجلابة باسم “الحي اليوناني”، بسبب المباني ذات السمات المعمارية اليونانية والحياة الاجتماعية التي كان يهيمن عليها اليونانيون ،الذين شكلوا مجتمعا تجاريا نشطا للغاية خلال الحقبة الإستعمارية، وقدر عددهم في عام 1924 بحوالي 4000 شخص في جنوب السودان بأكمله،وقد زود التجار الأغاريق المدينة الوليدة بالسلع الحديثة وقاموا ببناء الاندية والحانات و المطاعم و الكاتدرائية اليونانية.

وفي العام 1945 يقدم جوزيف لاقو قدم جوزيف لاقو ،وصفا لمدينة جوبا التي وصلها لأول مرة قادما من نمولي بقالول :” وفي الساعة الرابعة بعد الظهر دخلنا منطقة عالية مكنتنا من رؤية مدينة جوبا عاصمة الإستوائية رغم بعدها،وكانت تبدو لنا كمنطقة مكتظة بالمباني ،لم نشاهد مثلها قط، وفي المقدمة بدأت الملكية “منطقة سكن الأهالي” بإمتدادها المثير،صفوف متراصة من القطاطي تتخللها شوارع ضيقة. وفي اليمين هناك مباني كبيرة وسط غابات من الأشجار نراها لأول مرة. وهكذا دخلنا مدينة جوبا في الضفة الأخرى وحدقنا باندهاش في المباني المتراصة على جانبي الطريق” .

ويقدم عبد الله السريع وصفا لسوق الملكية في جوبا في العام 1974 وهي الفترة التي أعقبت توقيع إتفاقية أديس أبابا للسلام :” وفي اليوم التالي خرجت إلى سوق الخضار الذي يعرف بسوق “الملكية” وهناك وجدت سوقا مزدحما بالناس ومحال بقالة كثيرة ،وآخرين يفترشون الأرض ،وأكثرهم سيدات بصدورهن العارية،وهن يرتدين نصف الملابس ومنهن من تحمل (قفة) تبيع ما معها من خضار.. والخضر متوفرة من كل الأنواع وهي تباع بـ(الكوم) وليس بالميزان ،وتباع البامية بالعدد،وإلى جانب سوق الخضار يوجد سوق الجزارين وتجار السمك”.

كما يقدم السريع وصفا عابرا للمدينة التي يصلها للمرة الأولى في كتابه سنوات في جنوب السودان بقوله:” أثناء عودتنا إلى المنزل تأملت مدينة جوبا أكثر ،فوجدتها مدينة صغيرة، يبدو عليها القدم، وهي تقع في أحضان الطبيعة، تحيط بها جبال متباعدة، وسفوح خضراء ، وشوارعها غير مرصوفة، وتكثر بها الأشجار المتعددة .. ورأيت العشش (القطاطي) تبنى من أغصان الشجر و الطين المخلوط بالقش، وتقف أعواد السافنا الغابي التي ترص يشكل مائل ،كي تمنع تسرب المطر إلى الداخل،وتكثر أكوام الزبالة بينها مما يؤدي إلى تكاثر الأمراض بين السكان، كما أني لم أر مرافق صحية في الأحياء” .

_________________________

*من ورقة تطور المدينة في جنوب السودان ، المنشورة في كتاب للمؤلف بعنوان ( اضواء على ظلال) ، الصادر عن دار رفيقي للطباعة والنشر بجنوب السودان في العام ٢٠٢٢

Salah Elamin

Khalil Mannon

Shuichiro Nakao

عبد الجليل سليمان

الصادق الرضي

Garang Theil

Moses Ajang

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.