نحو حوار جديد: إعادة تشكيل المستقبل السياسي في السودان عبر إعلان نيروبي:
خالد كودي،
القاهرة ١٣ أغسطس ٢٠٢٤
في الثامن من أغسطس لعام 2024، أطلق الاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية الإقليمية للتنمية (إيقاد) مشاورات تحضيرية حاسمة تهدف إلى التمهيد لحوار سياسي قد يكون تاريخيًا بين الفصائل السياسية السودانية. الهدف الرئيسي من هذه المشاورات كان تشكيل رؤية شاملة للأطراف المشاركة حول القضايا التقنية المتعلقة بالحوار السياسي المرتقب، وتحديد الأطراف التي ستشارك في الحوار الرئيسي.
إلا أن انسحاب قوى رئيسية مثل الحركة الشعبية لتحرير السودان من هذه المشاورات يعكس عمق الأزمة التي يمر بها السودان، ويسلط الضوء على الحالة الحرجة التي يواجهها الوطن وهو على حافة الانهيار الكامل والتمزق. على مدى العقود الماضية، شهدت المفاوضات السودانية سلسلة من التسويفات والتأجيلات التي أديرت بمهارة من قبل قوى السودان القديم للحفاظ علي الامتيازات التاريخية مما أدى إلى تفاقم الأزمات بدلاً من حلها.
تاريخ المفاوضات التي أجريت خلال الفترات الانتقالية بعد كل انقلاب أو ثورة لم يكن فعّالاً في تحقيق أي تغيير ذي معنى في السودان. بدءًا من اتفاقية أديس أبابا في 1972 التي أنهت الحرب الأهلية الأولى، لكنها لم تعالج القضايا الجوهرية مثل الهوية والتنمية المتوازنة، ووصولاً إلى اتفاقيات السلام في نيفاشا عام 2005 التي أدت إلى استقلال جنوب السودان، إلا أنها تركت العديد من القضايا دون حل في مناطق أخرى مثل دارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة. في كل مرحلة من هذه المراحل، كان هناك تسويف للقضايا الرئيسية التي كان من الممكن أن تؤدي إلى تغيير حقيقي وجذري في السودان. الأحزاب السياسية التقليدية وبعض الحركات المسلحة قصيرة النظر وفقيرة المشروع، وعلى الرغم من اختلافها الظاهري، كانت كثيرًا ما تتفق سرًا على تقاسم السلطة دون الإقدام على تغيير البنية التحتية للحكم والإدارة التي من شأنها تحقيق العدالة والمساواة لجميع المواطنين، ويعد اتفاق سلام جوبا مثالاً حديثًا على هذه الديناميكيات التي تقود الي الفشل.
المؤتمر الوطني، تحت قيادة عمر البشير والذي حكم لمدة ثلاثة عقود، استغل الديناميكيات المخادعة لتعزيز قبضته على السلطة، مما أدى إلى استبعاد الأصوات المعارضة وقمعها وتهميش المناطق التي لم تُظهر الولاء للنظام. هذه الديناميكيات أظهرت بوضوح كيف يمكن استخدام السلطة لتفتيت البلاد بدلاً من توحيدها وتعزيز قدرتها على التطور والازدهار.
في ضوء هذه الظروف، فإن الانخراط في جولة جديدة من الحوار السوداني يتطلب مقاربة مختلفة تمامًا عن الماضي، تركز على المصالحة الحقيقية التي تستند إلى عدالة تاريخية، وإعادة هيكلة النظام السياسي بما يضمن تمثيل جميع السودانيين بإنصاف وحماية حقوقهم. يجب أن تكون هذه المحادثات خالية من المؤامرات والتلاعب التي شابت المحاولات السابقة، ويجب أن تقود إلى إرساء دعائم دولة ديمقراطية حقيقية تحترم تنوعها الثقافي والديني وتستجيب لتطلعات شعبها في العيش المشترك والسلام الدائم.
من الضروري أن يتم تحديد القوى التي يجب أن تشارك في أي عملية سياسية تحدد مستقبل السودان، وكذلك القضايا التي يجب أن تُعالج مسبقا، كما يجب أن تتناول هذه العمليات القضايا الجوهرية دون تجاهلها أو تحريفها أو تأجيلها، خاصةً تلك المتعلقة بطبيعة العلاقة بين الدين والدولة في سودان ما بعد الحرب، وكيفية تحديد مستقبل العلاقات الخارجية وغيرهما من القضايا.
على مدار تاريخ السودان، استُخدمت العمليات السياسية كوسيلة للحفاظ على امتيازات تاريخية لفئات معينة ولخداع المواطنين والمجتمع الدولي بأن هناك حواراً حقيقياً قد تم. هذه الديناميكيات أدت إلى تفاقم الأزمات بدلاً من حلها، حيث كانت هذه الأحاديث والمفاوضات تغرق في التفاصيل بينما تبقى القضايا الرئيسية دون حل
فمثلاً، بعد اتفاقية السلام الشامل في عام 2005، التي أدت إلى استقلال جنوب السودان في عام 2011، ركزت الأحاديث بشكل كبير على تقسيم السلطة والثروة دون معالجة الأسباب الجذرية للصراع مثل الهوية الوطنية، وتقاسم الموارد بشكل عادل بين مختلف مناطق السودان. إضافة إلى ذلك، فإن الحكومات المتعاقبة استخدمت الحوار كوسيلة لتأخير الإصلاحات اللازمة، مما سمح للنخب السياسية والعسكرية بالاستمرار في تعزيز سيطرتها على السلطة. الدور الذي لعبه المجتمع الدولي في هذه العمليات غالبًا ما كان محدودًا بالدعم اللفظي والمعنوي دون تحقيق أي تقدم ملموس نحو تغيير حقيقي في السودان.
لذلك، يجب أن يكون الهدف من أي حوار مستقبلي ليس فقط معالجة الأعراض السطحية للمشاكل السودانية، بل يجب أن يستهدف التغيير الجذري في كيفية إدارة الدولة وعلاقتها بالدين، وتشكيل علاقات خارجية تحمي مصالح السودان الوطنية قبل كل شيء. يجب أن يتم الاعتراف بأهمية هذه القضايا ومعالجتها بشكل جدي وفعّال لضمان عدم تكرار الأخطاء السابقة ولتحقيق سلام دائم وتقدم لجميع المواطنين السودانيين..
من الأهمية بمكان أن نفهم الحرب الجارية الآن بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع كصراع بين فصيلين يشتركان في العديد من الجوانب الفكرية والتكتيكية، وقد تشكلت علاقتهما على أساس مشترك من الأفكار والأهداف. قبل اختلافهما، عمل هذان الفصيلان معًا وكانا أدوات رئيسية في قمع ثورة وثوار السودان الجديد، كما اشتركوا في قمع المواطنين السلميين الذين طالبوا بتغييرات اقتصادية وديمقراطية في مناطق سيطرة الحكومة، النزاع الحالي بينهما لا ينبع من اختلافات في الرؤى الوطنية أو السياسية الحقيقية، بل هو نزاع حول من يتحكم في مقاليد السلطة وكيف يتم تقسيم الثروات التي كانوا يستحوذون عليها بطرق غير مشروعة. هذا الصراع ليس سوى استمرار لنفس النهج الذي رافق الحكم في السودان لعقود، حيث استخدمت القوة والترهيب للحفاظ على السيطرة واستغلال الموارد الوطنية.
في سياق أوسع، تعكس الحرب الحالية بين الجيش وقوات الدعم السريع أزمة عميقة في النظام السياسي السوداني، حيث كانت الأدوات العسكرية والأمنية دائمًا هي المهيمنة على المشهد السياسي، بدلاً من تطوير مؤسسات مدنية قوية تعمل على تحقيق العدالة والمساواة. الادعاءات المتكررة من قبل هذه الفصائل بأنها تريد إقامة حكم مدني ديمقراطي هي في حقيقتها محاولات للتمويه وتأجيل التعامل مع المطالب الشعبية الحقيقية.
تستمر المعركة بين الجيش والدعم السريع في إلحاق الأذى بالمدنيين وإرباك العملية السياسية، مما يؤدي إلى ضياع الفرص للتوصل إلى حل سلمي يمكن أن ينقذ البلاد من الانزلاق المستمر نحو الفوضى. من الضروري أن يفهم المجتمع الدولي والسودانيون أنفسهم أن الحلول المستدامة تتطلب إقامة نظام سياسي يعتمد على الشفافية، والمساءلة، واحترام حقوق الإنسان، بعيدًا عن التلاعبات العسكرية والأمنية التي دامت لعقود.
في هذا السياق، يمكن اعتبار رؤية انعقاد طاولة مستديرة للقوى الثورية نقطة انطلاق مهمة لإعادة تجديد الزخم الثوري في السودان، وإعادة التركيز على القضايا الجوهرية التي كانت محركًا للثورة. إعلان نيروبي، الذي تم توقيعه بين الحركة الشعبية وتنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم) وحركة/جيش تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد أحمد نور، يُعد خارطة طريق حيوية لأي حوار جاد يهدف إلى معالجة الأزمة الحالية في السودان.
محتويات ونقاط أساسية في إعلان نيروبي:
١/ الاعتراف بالتنوع: إعلان نيروبي يُقر بالتنوع الثقافي والعرقي والديني في السودان كأساس لبناء دولة تحترم جميع مكوناتها. يُعتبر هذا الاعتراف خطوة أساسية لحل الصراعات التي نشأت بسبب السياسات الإقصائية التي سادت لعقود
٢/ العدالة والمساواة: يؤكد الإعلان على ضرورة تحقيق العدالة والمساواة لجميع المواطنين السودانيين، ويدعو إلى إصلاحات قانونية وسياسية تضمن مشاركة جميع الفصائل والجماعات في العملية السياسية دون تمييز.
٣/ إصلاح الأمن والجيش: الإعلان يطرح إصلاحات جذرية في القطاع الأمني والعسكري بما يكفل فصل الجيش عن السياسة وتكوين جيش وطني يحمي الدولة وليس حزبًا أو فصيلًا معينًا
٤/ الحكم الرشيد والديمقراطية: يشدد الإعلان على ضرورة تبني الحكم الرشيد وتعزيز المؤسسات الديمقراطية التي تضمن شفافية العمليات الحكومية والمحاسبة.
٥/ دور المجتمع الدولي: يدعو الإعلان إلى دور فعال ومساند من المجتمع الدولي لدعم عملية الانتقال الديمقراطي في السودان وضمان التزام جميع الأطراف بما تم الاتفاق عليه.
تأثير إعلان نيروبي:
يمثل إعلان نيروبي نقطة تحول محتملة في مسار السودان نحو السلام والاستقرار. من خلال تقديم إطار شامل للحوار، يوفر الإعلان الأساس لمعالجة القضايا العميقة والمعقدة التي تعيق التقدم نحو دولة مستقرة ومزدهرة. الاعتراف بالحاجة إلى تناول هذه القضايا بطريقة شاملة وعادلة يُعد خطوة ضرورية لبناء الثقة بين جميع الأطراف وضمان مستقبل أفضل لكل السودانيين.