من يحكم باسم الله ومن يورّث باسم الوطن؟ الحَظوة السودانية كجهاز خفي لإعادة إنتاج القهر:

 خالد كودي، بوسطن

 

الحَظوة في السودان: مقاربة تاريخية-اجتماعية في ضوء الإرث الاستعبادي والعنصرية المؤسسية:

في هندسة الامتياز… الحَظوة بوصفها بنية للسيطرة في السودان ما بعد الحرب:
في كل نظام اجتماعي غير عادل، كما أشار عالم الاجتماع بيير بورديو، توجد طبقة من “اللامرئي” تشكّل القاعدة التي تقف عليها الامتيازات، لكنها لا تُسجَّل في الدساتير، ولا تُدرّس في المدارس، بل تُمرَّر عبر اللغة، العادات، ونُظم التمثيل. هذا “اللامرئي” في الحالة السودانية، يُدعى دون أن يُسمّى غالبًا: الحَظوة.
الحظوة في السودان ليست انحرافًا عن القاعدة، بل القاعدة ذاتها التي تأسست عليها الدولة منذ فجر الاستقلال، والتي تستبطن تراتبية اجتماعية وعرقية وثقافية، راسخة، وإن تم إنكارها خطابياً من باب الشينة منكوره. كتبت بيل هوكس:
،”الامتياز لا يحتاج إلى إعلان، يكفي أن يشتغل دون مساءلة حتى يفرض منطقه”
هذا المنطق عمل وما زال يعمل في السودان: من مناهج التعليم التي تُمجّد المركز وتُقصي الأطراف، إلى الإعلام الذي يصوّر “الوطنية” بوجه واحد، إلى القضاء الذي يعامل “المهمش” كمشتبه به مدان بشكل بنيوي، وليس فقط قانوني. في سودان ما بعد الحرب، تعود الحظوة إلى الواجهة لا كمسألة طبقية او اجتماعية فقط، بل كآلية لإعادة هندسة السلطة عبر خطاب “استعادة الدولة” الذي ترفعه القوى المرتبطة بالمركز العسكري والديني والاقتصادي، خاصة في بورتسودان.
تسعى هذه الورقة إلى تفكيك مفهوم “الحظوة” بوصفه نظامًا لإنتاج الامتياز والهيمنة، لا مجرد تمييز فردي أو صدفة تاريخية.

تبدأ الحجة بتحليل تاريخ الرق في السودان كقاعدة مادية ورمزية لهذا النظام، ثم تتتبع كيف حافظت النخب السياسية ما بعد الاستقلال على هذا الإرث، ودمجته في بناء الدولة الحديثة، لا عبر الإصلاح، بل عبر إعادة تدوير الامتيازات في مؤسسات الدولة والتعليم والإعلام والاقتصاد والامن.

في هذا السياق، تُصبح الحظوة في السودان اليوم غير مفصولة عن الأزمة السياسية الراهنة: فهي التي تُفسّر لماذا تقف بعض القوى السياسية والمدنية في صف “الحياد” او المتفرج، ولماذا تتحاشى قوى أخرى النقاش الجاد حول قضايا العلمانية، اللامركزية، أو تقرير المصير، خشية على مكتسبات غير مصرح بها. وكما كتب جيمس بالدوين:
!”لا يمكنك إصلاح ما ترفض أن تُسمّيه”
من هنا، فإن تفكيك الحظوة يتطلب أولاً الاعتراف بوجودها، وثانيًا ربطها بالبنية الأعمق للدولة السودانية: دولة وُلدت استعماريًا، واستمرت على قاعدة الامتياز الاجتماعي، الطبقي والاثني، والنوعي وحُكمت من قبل نخبة كرّست الفروقات، وأبقت على الأغلبية في موقع “الهامش” – مكانيًا وسياسيًا وثقافيًا. وكما يقول دي بويس
W.E.B. Du Bois:
!”المأساة ليست في استمرار الامتياز، بل في قدرة من يملكه على الإقناع بأنه طبيعي”
نقترح في هذه الورقة التفكير في الحظوة السودانية كـ”نظام توريث للسلطة الرمزية” قبل أن تكون سلطة سياسية أو اقتصادية. فهي التي تحدد من يُعتبر مواطنًا كاملًا، ومن يحتاج إلى إذن للبقاء. من يُسمع صوته في تشكيل الوطن، ومن يُطرد من السردية الوطنية بصمت.
ولعل أخطر ما في الحظوة، أنها تُخفي نفسها تحت مسمى “الوحدة الوطنية”، و”الهوية الثقافية”، و”الخصوصية السودانية”، بينما تواصل فرض نمط وحيد في السياسة والثقافة والتاريخ. وهذا ما يُفسر كيف تقف أحزاب سودانية – يسارية كانت أو قومية – ضد مشاريع العدالة الجذرية اليوم، مثل العلمانية أو إعادة توزيع السلطة، لأنها ببساطة لم تفك ارتباطها البنيوي مع هذا النظام غير المعلن.
إن تفكيك الحظوة في السودان بعد الحرب لا يمكن فصله عن المعركة الحالية حول من يُعاد له تعريف “الوطن”، ومن يُسمح له بالمشاركة في كتابته من جديد. فمشروع مثل “ميثاق تأسيس”، الذي يطالب بإعادة بناء الدولة من الهامش، وبإنهاء الامتيازات الدينية والاجتماعية والطبقية، يُثير هلع هذه القوى لأنه يهدد القاعدة التي وقفت عليها منذ 1956، إن لم يكن قبل ذلك.
كتب مالكوم إكس:
.”العدالة لا تُطلب من فوق، بل تُنتزع من تحت، من حيث سُحق الناس لأجيال”
ولهذا، فإن المعركة حول تفكيك الحظوة ليست معركة نظرية، بل هي التحدي الأساسي أمام أي مشروع لبناء وطن عادل وديمقراطي. إنها مسألة من يحق له أن يكون مواطنًا، لا قانونًا فقط، بل تمثيلًا وسردًا وفرصة.
وإذا كانت الثورة تعني شيئًا في السودان اليوم، فهي أن تعيد تعريف من يُسمّى بـ”المواطن”، لا وفق ما تسمح به النخبة، بل وفق ما ينتزعه الهامش.
وكما قالت أنجيلا ديفيس:
.”الحرية ليست حالة، بل ممارسة مستمرة… ولا تمارس الحرية إلا إذا هدمت السياج الذي فُرض عليك بوصفه طبيعيًا”
وهذا هو التأسيس الحقيقي، الذي يبدأ بتسمية ما تم إنكاره طويلًا: إن السودان لم يكن وطنًا للجميع، ولا يزال!

أولًا: الرق في السودان كجذر للحظوة:
تاريخ السودان الحديث لا يمكن فصله عن مؤسسة الرق، التي شُكلت خلال العهدين التركي والمهدوي، واستمرت بطرائق متعددة في الحقبة الاستعمارية وما بعدها. تمثلت البنية الاجتماعية والطبقية في السودان – تحديدًا في الأقاليم النيلية وشمال السودان النيلي – في تمايزٍ اجتماعي صارخ بين من يعتبرون أنفسهم من “الأصول العربية” ومن استُعبدوا أو وُسموا بكونهم “عبيدًا سابقين”. وقد ترسخ هذا التمييز في اللغة، والزواج، والتراتبية الاجتماعية، وحتى في توزيع الميراث والأدوار الدينية، حيث حُصر “العبيد” وأحفادهم في أدوار خدمية هامشية.
هذا الإرث أسس لثقافة الحظوة الوراثية، التي أتاحت لأسر بعينها أن تراكم رأس المال الرمزي والاجتماعي والمادي، بينما حُرم الآخرون من ذلك بفعل العار الاجتماعي والإقصاء البنيوي.

ثانيًا: الحظوة والعنصرية المؤسسية في الدولة الحديثة:
بعد الاستقلال في 1956، لم تفلح الدولة السودانية الوليدة في تفكيك الهياكل الطبقية والعرقية التي خلّفها الاستعمار. على العكس، ورثت النخبة السياسية مفاهيم الحظوة وربطتها بعناصر جديدة من التحديث الانتقائي، كالتعليم الجامعي، ووظائف الخدمة المدنية، ومؤسسات الدولة المركزية.
عانى المهمشون – أبناء الجنوب، جبال النوبة، دارفور، الفونج الجديدة، الشرق والهامش النيلي الأفقر – من حرمانٍ ممنهج من التعليم والخدمات الأساسية. كانت المدارس في الخرطوم ومدن الشمال النيلي متقدمة وممولة، بينما حُرمت مناطق واسعة من الهامش من المدارس الثانوية، ما قاد إلى قفل مبكر لمسار الصعود الاجتماعي، ومن ثم إقصاء الأجيال من الوصول إلى الطبقة الوسطى أو الرفيعة، وتراكم رأس المال الرمزي والمادي عبر الأجيال.

ثالثًا: مذكرة “كرم المواطنين” وتحولات الوعي المُستعمَر – من خطاب الامتياز إلى سؤال المواطنة:
في السادس من مارس 1925، وجّه علي الميرغني، الشريف يوسف الهندي وعبد الرحمن المهدي مذكرة شهيرة إلى مدير المخابرات البريطانية في الخرطوم بعنوان “مذكرة كرام المواطنين”. وقد تبدو للوهلة الأولى وثيقة إصلاحية تطالب بالمساواة، لكنها، في جوهرها، لم تكن سوى محاولة لتثبيت تراتبية اجتماعية قديمة تحت غطاء القانون والشريعة.
المذكرة دعت صراحة إلى عدم مساواة المحرّرين من الرق بالأحرار، واعتبرت أن مساواتهم في الحقوق والفرص “تتعارض مع الشريعة وقوانين البلاد”. بل وطالبت بأن يُمنع هؤلاء السودانيون من الوصول إلى التعليم، أو العمل في الوظائف العامة، أو امتلاك الحرف الحرة، واقترحت حصرهم في “العمل اليدوي” أو “الخدمة في البيوت”، كما جاء في نصها:
“فإن معاملة من كانوا أرقاء بالأمس معاملة الأحرار من كل الوجوه من الأمور التي لا تجيزها الشريعة الإسلامية ولا قوانين البلاد”.
إن ما تحمله هذه المذكرة هو أكثر من مجرد موقف سياسي، بل هو تعبير عن وعي نخبة سودانية استعارت خطاب المستعمر لتصون امتيازها الاجتماعي والثقافي، لا لتقوّضه. وهذا ما أطلق عليه فرانز فانون في كتابه معذبو الأرض مفهوم “الوعي المُستعمَر” – حين تصبح النخبة المحلية أداة في تكريس النظام نفسه الذي استعبدها.

هذه المفارقة ليست حكرًا على السودان. ففي الولايات المتحدة، وبعد إلغاء العبودية عام 1865، ظهرت قوانين تُعرف بـ”قوانين جيم كرو” في الجنوب الأمريكي، كانت تُقيّد الحقوق المدنية للافارقة المحررين، وتمنعهم من التعليم اوالتصويت أو المشاركة في الحياة العامة، تحت دعاوى “الحفاظ على النظام الاجتماعي” و”الانسجام الأهلي”. وقد قال فريدريك دوغلاس، أحد أشهر المناضلين السود في القرن التاسع عشر:
.”تحرير العبد لا يعني شيئًا إذا لم يُمنح أدوات الحُرية، وأولها التعليم والمشاركة السياسية”
وبالعودة إلى مذكرة 1925، نجد أن ما تطالب به هو الإبقاء على بنية اجتماعية هرمية صارمة، تُصنّف المواطنين لا حسب كفاءتهم، بل حسب أنسابهم، وألوانهم ومكانتهم الوراثية. هذا التصور للسياسة ليس إلا إعادة إنتاج لأخطر أنواع الهيمنة: الهيمنة التي تطلب من المُستبعد أن يحترم مرتبة استبعاده باسم “القانون” و”الدين”.
كتب أنطونيو غرامشي:
.”الهيمنة لا تحتاج إلى السلاح حين يكون المُستبعَد مقتنعًا بموقعه داخل التراتب”
من “كرام المواطنين” إلى سؤال الكرامة الفعلية:
اللافت أن عنوان الوثيقة يتحدث عن “كرام المواطنين”، بينما هي تُقصي غالبية المواطنين من الاعتراف الكامل بإنسانيتهم. فالمواطنة، في هذه الصيغة، ليست حقًا مشتركًا، بل امتيازًا يُمنَح لمن يَملك صفات معيّنة: النسب، المال، الطاعة، ورضى الدولة.
وهذا ما نراه مكررًا حتى اليوم في خطاب النخبة السياسية السودانية. كثير من القوى التي تدّعي التقدمية، تتفادى إلى اليوم الاعتراف الصريح بحق تقرير المصير، أو العلمانية بوصفها شرطًا للمواطنة المتساوية، لأنها – ببساطة – تخشى أن يتصدّع موقعها التاريخي في سلّم الامتياز. هي تُكرّر، بلغة حديثة، ما قاله آباؤها الرمزيون في مذكرة 1925
كتب المفكر الفلسطيني هشام شرابي:
.”الحداثة الزائفة لا تُسائل الامتياز، بل تُعيد تجميله”
أما في السودان الجديد، فإن وثيقة “تأسيس”، عرفت واعترفت أن المواطنة لا تُمنح، بل تُعاد تأسيسها على أنقاض النظام العنصري–الديني–المركزي. وأن الاعتراف بالمساواة لا يكفي، بل لا بد من إعادة توزيع السلطة، وإعادة تعريف العقد الاجتماعي…
وقد قالت روزا لوكسمبورغ:
“لا معنى للحرية، إن لم تكن حرية المختلف، ولا معنى للمساواة إن لم تكن قائمة على تفكيك الامتيازات”
فما لم يتحقق في 1925، ولم تحققه الوثيقة الدستورية لعام 2019، تطرحه اليوم وثيقة “تأسيس” بوضوح: لا مستقبل لوحدة قسرية، ولا وطن من دون عدالة، ولا كرامة تُبنى على استبعاد الآخرين.
كما كتب تشي غيفارا:
.”الثورة ليست وعدًا بالنعيم، بل إعلانٌ ضدّ الجحيم الذي قيل لنا إنه قدر”
ولذلك، فإن من يقف اليوم ضد إعادة تعريف المواطنة، أو يرفض تقرير المصير لأنه “يفتح الباب”، أو يخشى من العلمانية لأنها “تُغضب المتدينين”، لا يختلف – في العمق – عن كُتّاب مذكرة 1925، الذين خافوا من أن “يُساوي العبيد بالأحرار””
لكن التاريخ لا يتوقف، والكرامة التي تُؤسس على العدالة، لا على الامتياز، هي الوحيدة التي تستحق أن تُدعى كرامة.

رابعًا: المقارنة مع التجربة الأمريكية-الإفريقية:
تُظهر المقارنة بين تجربة المهمشين في السودان وتجربة الأمريكيين من أصول أفريقية نقاط تقاطع لافتة، رغم اختلاف السياقات التاريخية. في الولايات المتحدة، بدأت التفرقة العنصرية من مؤسسة الرقّ، ثم أعيد إنتاجها عبر نظام قانوني عرف بـ”قوانين جيم كرو”، الذي أرسى الفصل العنصري على أسس تشريعية. لاحقًا، جاء نضال حركة الحقوق المدنية في خمسينيات وستينيات القرن العشرين ليُحدث تحوّلًا جوهريًا في بنية القانون، لكنه لم يُلغِ الأثر العميق للتمييز البنيوي. فالعنصرية في أمريكا – كما شرحت أنجيلا ديفيس وجيمس بالدوين – أعادت تجسيد نفسها بصيغ “ناعمة”: في نظام التعليم، سوق العمل، قوانين الإسكان، التمثيل السياسي، والعدالة الجنائية…الخ…
في المقابل، لم يعرف السودان لحظة تحرير قانونية أو دستورية مشابهة للحظة الحقوق المدنية في أمريكا. فالدولة السودانية ما بعد الاستقلال لم تُفكك إرث التراتبية الاجتماعية، بل أعادت ترسيخها عبر المركز النيلي الذي احتكر تعريف الوطنية، ورسم حدود “الهوية السودانية” على أساس إثني–ثقافي ضيق. وبدل أن تُبنى المواطنة على قاعدة العدالة والمساواة، صيغت كامتياز للانتماء الجغرافي والثقافي، مما أفضى إلى صيغة سودانية خاصة من “جيم كرو الصامت” – نظام غير مكتوب، لكنه فعّال في إقصاء أبناء الهامش من مفاصل الدولة الأساسية.
ففي وزارات مثل الخارجية، التعليم العالي، القضاء، والأجهزة الأمنية، ظلّ تمثيل المهمشين شكليًا أو معدومًا، تمامًا كما حُرموا من ملكية الأراضي الزراعية الخصبة، أو من النفاذ إلى الموارد، أو من تولّي المناصب السيادية. لا بفعل القوانين وحدها، بل بفعل بنية امتصّت كل الإمكانيات الوطنية إلى مركز لا يعترف بأطرافه إلا كمجال للنهب أو التدجين
وكما قال ويليام دو بويز:
“إن أخطر أشكال العنصرية ليست تلك التي تُشرَّع بالقانون، بل تلك التي تُمارس باسم المصلحة الوطنية، وتُخفي نفسها داخل لغة الوحدة”
فالسودان، مثل أمريكا، لم يتخلص من العنصرية، بل غيّر لغتها، وأبقاها تعمل خلف ستار الخطابات الوطنية، والتمثيل الزائف، والديمقراطية المجتزأة.

خامسًا: الحظوة كميراث استثماري ونسق ثقافي:
في المجتمعات ما بعد العبودية، لا تكمن خطورة الحظوة في لحظة الامتياز فقط، بل في استدامتها عبر الزمن. في السودان، حُرم الملايين من تأسيس أي شكل من أشكال رأس المال العائلي أو المجتمعي الذي يمكن توارثه: أراضٍ، منازل، تعليم نوعي، وظائف مستقرة. الحظوة، بالمقابل، سمحت للنخب التاريخية بتكوين تراكم طبقي عبر ثلاثة أجيال على الأقل، مستندين إلى مفهوم “الجد المؤسس” الذي أخرج أسرهم من الرقيق إلى الرأسمال.

خاتمة: لا عدالة بلا تفكيك منظومة الامتياز – مواجهة مع بنية السلطة وخطاب الهيمنة:
إن بنية الامتياز في السودان ليست تركة من الماضي فقط، بل نظام حيّ يُعاد إنتاجه يوميًا، عبر مؤسسات الدولة المركزية، الأحزاب التقليدية، وجهاز الدولة العسكرية–المدنية، الذي لا يزال يُصاغ في الخرطوم/ بورتسودان باسم “الوحدة الوطنية”. وفي هذا السياق، لا تبرز فقط ازدواجية خطاب قوى مثل الحزب الشيوعي، وبقية أحزاب اليسار، تيارات من حزب الأمة و الاتحادي الديمقراطي، حزب المؤتمر السوداني، والكثير من منظمات المجتمع المدني بل كذلك خطاب الجيش وتحالفاته مع حركات موقعة على سلام جوبا، والتي تقدم نفسها كضامنة “للوحدة” بينما تقف فعليًا في صف النظام القديم، وتُعيد صياغة الاستعلاء من جديد بزيّ ديمقراطي مغشوش.
الخطاب الرسمي الصادر من الجيش السوداني ومن القوى الداعمة له – بما فيها حركات دارفور الموقعة على سلام جوبا – يتبنّى لغة “السيادة” و”الدولة الواحدة” لكنه يفعل ذلك دون مساءلة تاريخية، دون اعتراف بجريمة التهميش، ودون طرح مشروع لإعادة توزيع السلطة والثروة. إنها وحدة مفروضة، لا مختارة، شبيهة بوحدة ما بعد الحرب الأهلية الأمريكية، التي – كما أشار ويليام دو بويز – “انتهت بانتصار الشمال، لكن بقاء العبودية بشكل مقنّع في المؤسسات”
وفي السودان، تُبنى “الدولة الوطنية” مرة أخرى بيد الجيش، غي المناطق المسيطر عليها عبر تعديلات دستورية تُقصي الشعب وتُحصّن النخبة. أعاد البرهان تعريف السيادة بقرار فوقي، واحتكر تعيين مؤسسات الدولة، وألغى أي جسم مدني. أما الأحزاب التي ترفض مشروع “تأسيس”، فإما تتحالف مع هذا الترتيب الجديد باسم “الاستقرار”، أو تصمت كي لا تخسر قبول المركز، ومواقعها فيه.
كما قالت أنجيلا ديفيس:
!”من لا يرى أن الامتياز هو نظام، سيظن دائمًا أن مقاومته مبالغة”
وهو ما ينطبق حرفيًا على خطاب القوى التي ترفض العلمانية بحجة الواقعية، ترفض تقرير المصير بحجة الوحدة، وتُصّر على الاحتفاظ بـ”الجيش القومي” دون تعريف قومي حقيقي، لأنهم ببساطة يعلمون أن أي تعريف دقيق سيطيح بهم من مواقع السيطرة، ويفتح البلاد على تمثيل جديد لا يحتملهم!
كتب جيمس بالدوين:
.”ما لم تتم محاسبة التاريخ، فلن يكون هناك مستقبل – فقط تكرار بصيغة أكثر قسوة”
ما تفعله الوثيقة الدستورية المعدلة في بور تسودان، وتحالفات الجيش، هو تكرار النموذج القديم من الدولة القهرية باسم الوطنية، والدين، والهوية، حيث تظل الخرطوم مركز السيادة، وتظل الحركات المسلحة الموقعة على التسويات أدوات للمناورة، لا شركاء في صياغة الدولة.
إن خطاب الجيش اليوم، ومعه تحالفات “جوبا”، هو خطاب “وحدة بلا عدالة”، و”دولة بلا مساءلة”، وهو امتداد مباشر لما رفضته ثورة ديسمبر، وقبلها ثورات الهامش في السودان الجديد ولما سقط من أجله آلاف الشهداء.
أما أحزاب المركز بيمينها ويسارها ، فترفض مشروع “تأسيس” لأنها لا يريد مواجهة المجتمع السوداني بحقيقة أن الدولة لا يمكن أن تُبنى دون علمانية، دون مساواة، ودون إعادة توزيع السلطة على أساس تاريخي، لامركزي حقيقي!
كما قالت بيل هوكس:
“حين لا يكون للعدالة جذور في الاعتراف، تصبح مجرد لفتة تصالحية لا تعيد أي كرامة لأحد”
وتأسيس، بما فيه من تناقضات، هو المشروع الوحيد اليوم الذي يضع جذور المشكلة على الطاولة، لا يتجاوزها، ولا يؤجلها لمؤتمر دستوري موعود لن يأتي. فهو يواجه بوضوح فكرة أن السودان لن يبقى موحّدًا إلا إذا أُعيد تأسيسه من منظور الضحايا، لا من منظور النخبة، ومن معسكرات النزوح، لا من قاعات الجيش.
قال مالكوم إكس:
.”إن لم تكن جزءًا من الحل، فأنت جزء من المشكلة، سواء نويت ذلك أم لا”
ولهذا، لا بد من تسمية الأمور بأسمائها
– الجيش ليس مؤسسة حيادية، بل مركز إنتاج للعنف والسيطرة القومية
– الحركات المسلحة الموقعة ليست ممثلة للهامش بل أصبحت حارسة لمراكز النفوذ الجديدة
– الأحزاب المدنية التي تصمت عن مواجهة بنية الامتياز، وتؤجل العدالة، تُشارك فعليًا في إعادة إنتاج السودان القديم
– وحده مشروع السودان الجديد، بتحالفاته الجذرية، ومبادئه التأسيسية، وخطابه الواضح في العدالة والعلمانية، وتقرير المصير، هو ما يطرح أفقًا يمكن البناء عليه.
كتب روزا لوكسمبورغ:
“لا حرية لمن لا يُعيد تعريفها من موقع المقموعين. من يكتفي بحرية الأقوياء، لا يطالب بتحرر، بل بتصريح بالعبور”
ولهذا، فالدعوة اليوم ليست للتسوية، بل للتأسيس. لا للانتقال، بل للانقلاب الجذري على مفاهيم الدولة والتمثيل والسيادة. فإما سودان يعترف بجريمة بنائه، ويعيد صياغة نفسه، أو نظام جديد بوجوه قديمة يواصل إنتاج الظلم باسم الوطن.
ولا حياد في هذه اللحظة.

النضال مستمر والنصر اكيد.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.