
من تمثيل الهامش إلى حماية المركز: العدل والمساواة وتحرير السودان كأدوات وظيفية في بنية القمع السودانية:
خالد كودي، بوسطن, 25/3/25
مدخل:
لطالما ادعت بعض الحركات المسلحة في السودان تمثيلها لقضايا الهامش ورفعها لراية مقاومة التهميش البنيوي والتاريخي. إلا أن التجربة السياسية السودانية، منذ مطلع الألفية وحتى اللحظة الراهنة، أظهرت بما لا يدع مجالًا للشك أن جزءًا كبيرًا من هذه الحركات – وفي مقدمتها حركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم، وحركة تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي – قد انزلقت من موقع النضال التحرري إلى موقع التمثيل الوظيفي لصالح المركز، بل وأصبحت أدوات مباشرة في منظومة القمع التي تدّعي محاربتها.
أولًا: خلفية النشأة وتحوّلات الولاء:
نشأت الحركتان في بدايات العقد الأول من الألفية، في سياق تفجّر مقاومة الهامش في إقليم دارفور، كرد فعل مباشر على التهميش السياسي والاقتصادي المتراكم منذ الاستقلال. غير أن جذور العدل والمساواة، تحديدًا، تعود إلى حركة الإسلاميين السودانيين، إذ أسسها د. خليل إبراهيم، أحد كوادر الجبهة الإسلامية القومية المتشددين، الذي انشق بعد خلافات مع عمر البشير حول توزيع السلطة، لا حول بنيتها.
هذا الانشقاق لم يكن انفصالًا أيديولوجيًا، بل تعديلًا في الموقع داخل البنية ذاتها. فقد احتفظت العدل والمساواة بخطاب إسلاموي تعبوي، مستند إلى مشروع “الإنقاذ الثاني” الذي كان يهدف إلى تقويم الانحراف في المشروع الإسلامي الأول، لا تجاوزه. أما مناوي، فأسس جناحًا من حركة تحرير السودان بدوافع جهوية واثنية وشخصية أكثر منها سياسية، وسرعان ما انتقل إلى أحضان السلطة المركزية، عبر توقيعه اتفاق أبوجا في 2006، ليتحوّل إلى مساعد لرئيس الجمهورية عمر البشير، وهو الموقع الذي استخدمه لقمع خصومه في دارفور أكثر مما استخدمه لنصرة ضحايا الإبادة.
ثانيًا: الارتزاق السياسي والعسكري بوصفه نمط وجود:
عُرف عن الحركتين نمط من السلوك السياسي يمكن توصيفه بـ”الارتزاق الثوري”، أي تحويل الخطاب التحرري إلى ورقة ضغط من أجل الدخول في السلطة المركزية والحصول علي الامتيازات، دون أي اشتراطات تتعلق بتغيير بنية الدولة أو ضمان حقوق المجتمعات المهمشة. فقد شاركت العدل والمساواة في أكثر من جولة تفاوض، أبرزها الدوحة (2011)، دون التزام واضح بمطالب حقيقية، بل وشاركت في هجمات عسكرية على أطراف الخرطوم (2008)، لم تسفر إلا عن تعزيز صورة الحركة بوصفها فصيلًا مسلحًا قابلًا للبيع والشراء لاحقا وبعد مقتل د. خليل إبراهيم وانتقال رئاسة الحركة الي شقيقه.
أما مناوي، فقد أظهر تذبذبًا مفرطًا في تحالفاته، حيث انقلب على حلفائه في الميدان، وتحالف مع النظام الذي ادعى مقاومته، ثم عاد وانضم إلى الثورة بعد سقوط البشير، ليصبح لاحقًا عضوًا في مجلس الشركاء، أحد أبرز أدوات إجهاض الثورة و المرحلة الانتقالية علي سوءاتها، ثم وقف إلى جانب الانقلاب العسكري في 25 أكتوبر 2021
إن سلوك قادة الحركتين يمكن فهمه ضمن ما يسميه فرانز فانون في كتابه “معذبو الأرض” بـ”البرجوازية الوطنية التابعة”، التي لا تمثل الجماهير بل تسعى إلى إعادة إنتاج النظام القديم بشروط محسنة تخدم مصالحها الذاتية، دون المساس بالبنية الاجتماعية أو الاستعمارية الداخلية.
ثالثًا: من تقاسم الغنيمة إلى الاصطفاف مع الفاشية – الدور التخريبي لحركتي جبريل ومناوي:
بعد سقوط نظام عمر البشير في أبريل 2019، بدت لحظة الانتقال السياسي فرصة ذهبية لردّ الاعتبار للهامش، وللثورات التي انطلقت من دارفور وجبال النوبة والفونج الجديد، وتلاقحت مع انتفاضة ديسمبر الشعبية. وكان متوقعًا أن تعيد الحركات المسلحة – لا سيما العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم، وتحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي – تموضعها في قلب المشروع الثوري، لتصبح جزءًا من الجهد الجماعي لتأسيس دولة جديدة على أنقاض التسلط الإثنوقراطي. لكن ما حدث هو العكس تمامًا.
فقد دخلت الحركتان مفاوضات جوبا عام 2020 وفق شروط تخدم السلطة أكثر مما تخدم قضايا المجتمعات المهمشة. لم يكن السلام الناتج عن تلك المفاوضات معنيًا بإعادة هيكلة الدولة، أو بتفكيك المركزية العنيفة، أو بإحقاق العدالة التاريخية، بل تمحور حول تقاسم السلطة والثروة وفق مقاييس نُخبوية، حوّلت “ملف السلام” إلى سوق للمناصب والامتيازات. نال جبريل وزارة المالية، وسيطر مناوي على إقليم دارفور كحاكم، وأُنشئت قوات خاصة خاضعة لقيادتهما، لكن من دون تقديم أي رؤية هيكلية تعالج جذور الحرب أو تنصف الضحايا.
ثم جاءت محطة الانقلاب العسكري في 25 أكتوبر 2021 لتكشف عن حقيقة الانحيازات: وقفت الحركتان في صف الانقلابيين بوضوح، وشاركتا في شرعنة السلطة الفاشية من خلال تبرير الانقلاب بمفردات مخاتلة مثل “الواقعية السياسية” و”توازن القوى”، في تكرار مباشر لخطاب الإنقاذ، ولكن بلون جديد، يرتدي قناع “التمثيل الجهوي”
ثم أتت الحرب التي اندلعت في 15 أبريل 2023، لتُظهر الوجه العسكري الصريح لهذا التواطؤ؛ حيث وتشارك قوات من الحركتين إلى جانب الجيش السوداني والمليشيات الإسلامية في معارك ضد الدعم السريع، تحت شعارات زائفة مثل “الجيش الوطني” و”استعادة الدولة”، في حين أن هذه القوات نفسها كانت ولا تزال مسؤولة عن ارتكاب جرائم حرب وتطهير عرقي ضد مجتمعات الهامش التي تدّعي الحركتان تمثيلها!
رابعا: صمت مخزٍ عن القهر العنصري وتقاعس عن الحماية:
وما يفاقم الخيانة الأخلاقية والسياسية أن قيادات الحركتين، وهما في قمة السلطة، تقاعسوا عن حماية مجتمعاتهم حين واجهت تلك المجتمعات موجات من البطش الأمني والاتهامات العنصرية بالهوية. مثلا، في ذروة الهجمة الإعلامية والأمنية على سكان مناطق الكنابي في الجزيرة – الذين ينحدر كثير منهم من نفس الأصول التي تدّعي الحركتان تمثيلها – لاذت القيادات بالصمت، بل وبرّرت بعض التصريحات الرسمية هذا القمع، في محاولة لتبرئة الدولة ومؤسساتها الأمنية. لم يصدر عن جبريل أو مناوي موقف واحد حاسم يندد بتجريم الأبرياء على أساس العِرق أو الانتماء الجغرافي، أو يطالب بمحاسبة المسؤولين عن التنميط العنصري والتنكيل الجماعي في مدن السودان المختلفة.
هذا الصمت لا يمكن قراءته إلا ضمن بنية الاصطفاف والتماهي الكامل مع السلطة القمعية، التي ترى في قمع الهامش وسيلة لتأبيد المركز، حتى ولو عبر أدوات محلية، ومن يسمّون زورًا بـ”أبناء الإقليم”
خامسا: التخريب المزدوج: السلاح والدعاية معًا:
ولم يتوقف دور الحركتين عند الاصطفاف العسكري مع حكومة بورتسودان وميلشياتها، بل امتد إلى حرب رمزية موازية، تستخدم فيها أدوات الإعلام والدعاية في محاولة لتقويض أي مشروع تحرري بديل. فبعض العناصر المحسوبة على الحركتين – من إعلاميين وناشطين – يعملون على:
– ترويج أكاذيب ممنهجة ضد الحركة الشعبية وتحالف “تأسيس”
– إطلاق بيانات مفبركة، وتحليلات مغلوطة، واتهامات تخوينية ضد كل ما لا يندرج في أجندة سلطة بورسودان
– تصوير الحركات الثورية والمشاريع التأسيسية كتهديدات للوحدة الوطنية، بينما هم أنفسهم يقفون في خندق السلطة التي تمارس الإبادة باسم السيادة.
بهذا، تحولت الحركتان إلى أدوات مزدوجة للهدم: تهدمان بالسلاح على الأرض، وتهدمان بالخطاب في الفضاء العام، وتساهمان بتواطؤهما المكشوف في منع مناهضة أي أفق سياسي جديد في السودان.
سادسا: التمثيل الوظيفي وخيانة خطاب التحرر:
في السياق الأعمق، لعبت الحركتان دور “التمثيل الوظيفي” للهامش. فكما أوضح غاياتري سبيفاك في مقالها “هل يستطيع التابع أن يتكلم؟”، فإن التمثيل الزائف هو أحد أخطر أشكال القمع، لأنه يمنح السلطة صوتًا يتحدث باسم من تُقصيهم. هذا ما يحدث حين يُوظف المركز رموزًا من الهامش لضرب مشروع السودان الجديد، ومهاجمة تحالف “تأسيس”، وخلق انطباع زائف بأن الهامش منقسم على نفسه.
بل إن المركز نجح، مرة أخرى، في توظيف أدوات “التمثيل المزيف” لإعادة إنتاج خطابه عبر أبناء الهامش أنفسهم، تمامًا كما فعل الاستعمار البريطاني حين سلّح زعامات محلية لمواجهة الحركات التحررية، فكانت الخيانة من داخل الجسد نفسه.
سابعا: من تقاسم الغنيمة إلى الاصطفاف مع الفاشية – الدور التخريبي لحركتي مناوي و جبريل:
الحاجة إلى خطاب تحرري جذري وقطيعة معرفية مع النموذج المرتزق:
في لحظة تاريخية فارقة كالتي يمر بها السودان اليوم، يصبح من غير الممكن الاستمرار في التعامل مع مفاهيم “الحركة المسلحة” و”التمثيل الثوري” بمفاهيمها الكلاسيكية التي تشكلت تحت ظل أنظمة قمعية ومفاوضات انتهازية.
لقد أثبتت التجربة بمرارة أن السلاح، في غياب مشروع وطني تحرري، لا يعدو أن يكون أداة تفاوض نيوليبرالية بيد مرتزقة سياسيين، يعرضون شعارات المقاومة في أسواق السلطة، ثم يعودون إلى مناطقهم صفر اليدين من العدالة، وقد استبدلوا البندقية بالبدلة الوزارية!
في هذا السياق، تُستعاد مقولة فرانز فانون العميقة:
“الاستقلال لا يعني فقط مغادرة المستعمر، بل تحرير النفوس من الاستعمار الداخلي.”
وهو ما لم يتحقق في السودان، حيث انتقلت نخب مسلحة – كقيادات جبريل ومناوي – من خنادق القتال إلى بلاط السلطة، من دون المرور بمحطات مساءلة أو تطهير أو إعادة تعريف لموقعها من الجماهير التي ادعت تمثيلها. بل تحوّلت هذه النخب إلى مقاولين سياسيين لدى المركز، يحصّنون بقاءه ويقمعون إرادة الهامش بإسمه.
إن الدولة السودانية القديمة – بما تمثّله من مركز إثنوقراطي استبدادي – لم تعد فقط فاقدة للشرعية، بل باتت خطرًا وجوديًا على فكرة الوطن نفسه. لقد تجاوزنا مرحلة الإصلاح الداخلي، ودخلنا مرحلة تستدعي هدم الأساسات الرمزية والمؤسسية للسودان ما بعد الاستعمار، من أجل تأسيس وطن جديد، يستوعب التنوع والعدالة، ويعيد تعريف الهوية على أساس المواطنة، لا على أساس العرق أو الدين أو الجغرافيا.
ولذا، فإن المطلوب ليس فقط فضح التواطؤ الصريح للحركتين مع قوى الثورة المضادة، بل الذهاب أبعد من ذلك نحو إعادة بناء مفهوم النضال ذاته. نحتاج إلى قطيعة معرفية وسياسية مع النموذج المرتزق الذي تمثله هذه الحركات، بما يعني التحرر من مركزية السلاح والزعامة التقليدية، والانطلاق من قلب الممارسة الشعبية القاعدية، التي تُنتج تمثيلها من الشارع، من الحقول، من مخيمات النزوح، من الكنابي، ومن تظاهرات الشابات والشباب الثوريين في المدن والقرى.
إن ما يدعو إليه باولو فريري في كتابه “تعليم المقهورين” ينسحب على السياق السياسي كذلك:
“تحرير المقهورين لا يمكن أن يتم من خلال منطق السلطة، بل من خلال وعيهم بذاتهم، ونضالهم من أجل صوتهم”
وبالمنطق نفسه، لا يمكن للهامش أن يتحرر عبر وكلاء يتحدثون باسمه في غرف التفاوض، بل من خلال بناء تحالفات شعبية أفقية، تكون فيها الشرعية نابعة من الفعل الجماهيري، والميدان لا من مراكز النفوذ.
وهو ما عبّر عنه نغوغي واثيونغو حين قال:
“المأساة ليست فقط أن العدو نزع سلاحك، بل أن يمنحك قناعه ويطلب منك أن تقاتل باسمه”
إن السودان الجديد لا يمكن أن يولد من رحم الصفقة، ولا من بطون الاتفاقات الجزئية، بل من رحم القطيعة. قطيعة مع اللغة، ومع السلطة، ومع منطق المركز، ومع كل من تواطأ، بوعي أو بجهل، في تمديد عمر الدولة العنيفة التي فشلت في أن تكون وطنًا.
اخيرا: مشروع السودان الجديد عبر “تأسيس”هو المخرج… وسينتصر:
من مأساة دارفور إلى انتفاضة ديسمبر، ظل الهامش هو القلب النابض للثورة السودانية، المورد الأساسي للمعنى، والتضحية، والرؤية الجذرية للتغيير. ومع ذلك، وفي كل محطة تاريخية، يُختطف هذا الصوت، لا عبر القمع المباشر فحسب، بل من داخل الهامش ذاته، على أيدي عملاء جدد يرتدون قناع الضحية ويتحدثون بلغة المقاومة، بينما يمارسون أعتى أشكال الخيانة.
واليوم، تتصدّر حركتا العدل والمساواة بقيادة جبريل ابراهيم وحركة تحرير السودان بقيادة مني اركو مناوي هذا المشهد، مستخدمتين رمزيتهما الجهوية كأدوات لمحاولة تقويض مشروع السودان الجديد، ومحاولين النيل من تحالف “تأسيس”، وإعادة تأهيل الفاشية، ولكن هذه المرة بلون جغرافي مستعار، وتحت لافتة “السلام” و”الواقعية، والوطنية والوحدة وما اليه!
هذه ليست انزلاقات شخصية، ولا مجرد أخطاء تكتيكية، بل ظاهرة بنيوية مركّبة، تعكس مدى اختراق مشروع التغيير من قبل قوى الثورة المضادة، واستخدامها لما تسميه غاياتري سبيفاك بـ”التمثيل المُستعمِر”، أي حين يتحدث المركز بلسان الهامش، ليدمره من داخله. إنها عملية خبيثة لإفراغ المشروع الثوري من روحه، واستبداله بـ”وكلاء ناطقين باسم السلطة”
لكن هذه المرة، لم ولن ينجح هذا المخطط. لأن ما يواجهه السودانيون اليوم ليس مجرد مفترق سياسي، بل امتحان وعي تاريخي، تبلور في مشروع تحالف “تأسيس”، بوصفه الإطار الوحيد الذي يجمع بين الذاكرة النضالية، والجرأة الفكرية، والجذرية السياسية، والعدالة الاجتماعية بوصفها أفقًا للتحرير، لا مجرد مطلب انتقالي.
إن “تأسيس” لا يمثّل تحالفًا تكتيكيًا أو مبادرة لحظة، بل هو المخرج التاريخي الحتمي من انهيار السودان القديم، وبداية بناء وطن جديد على أنقاض دولة الاستعمار الداخلي. تحالف تجاوز الشعارات، وبدأ في صياغة الإجابات الكبرى: من يملك الدولة؟ لمن تُوزع السلطة؟ من يكتب التاريخ؟ وما معنى أن نكون “سودانيين” خارج قوالب الدين والعرق والطائفة والجهة؟
فكما قال إدوارد سعيد:
“التمثيل هو الفعل الذي تُمارَس من خلاله الهيمنة، وكل مقاومة حقيقية تبدأ حين ننتزع حقنا في الحديث بأصواتنا، لا بأصوات وكلائنا المزيفين”.
إن تحالف “تأسيس” هو هذا الصوت المنتزع، هذا التمثيل الحقيقي، وهذه اللحظة التي لا تُخطف.
وسينتصر، لا فقط لأنه يمثل الحقيقة، بل لأنه يحمل مشروعًا يتجاوز الخونة والساقطين، والفاشلين ويسترد الوطن من كل من اختزله في صفقة أو غنيمة أو منصة خطاب مزيف.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.