ملامح التسوية السياسية الخاسرة
بكري الجاك
ميانمار (أو بورما سابقا) لها تجربة تشابه الواقع السوداني من حيث التنوع الاثني و التعقيدات السياسية من شاكلة سيطرة الجيش علي الحياة العامة و تدخلة في شؤون السياسة و الحكم. و دون اطالة هنالك محاولتين حديثتين لتوطين الديمقراطية في ميانمار أولهما في 1989 في أعقاب حركة احتجاج واسعة بدأت في عام 1988 قادتها Aung San Suu Kyi آنق سان سو كي و هي ابنة الجنرال آنق سان أحد ابطال حركة الاستقلال في عام 1948، آنق سان سو كي احتجزت قي منزلها قيد الاقامة الجبرية منذ العام 1989 لمدة 15 عام و فازت بجائزة نوبل في حجزها، و في عام 2011 قامت المجموعة الانقلابية بحل نفسها و كونت برلمان مدني الأمر الذي جعل من آنق سان سو كي الزعيمة الموضوعية للحراك في 2015 الا أن الدستور لم يمكنها من أن تصبح رئيسة للجمهورية. و بعد فوز حركتها National Democracy League التحالف الوطني الديمقراطي بالانتخابات دخلت في شراكة مع العسكر وقبولها بشرط في الدستور يشير الي أن للعسكر الحق في تعيين 25 في المئة من اعضاء البرلمان و أن اي تعديل دستوري يتطلب اكثر من 75 في المئة من اعضاء البرلمان مما يعني استحالة حدوثه، و في هذه الاثناء قام العسكر بارتكاب مذابح ضد اقلية الروهينقا و سكتت عنها آنق سان سو كي بحجة أنها كانت تسعي الي عدم اثارة حفيظة العسكر حتي يتثني لها توطين الديمقراطية في بلدها. في هذا العام و بعد أن استخدم العسكر اسم آنق سان سو كي للحصول علي قبول دولي و اصلاحات اقتصادية ومكاسب في عدة اتجاهات رفض العسكر نتيجة الانتخابات التي فاز فيها حزب آنق سان سو كي و لقمع الاحتجاجات قتلو الالاف من انصار الديقمراطية في ميانمار و أهتم الاعلام بالأمر في باديء الأمر و من ثم انتهي أمر السلطة في يد العسكر كما هوالحال منذ الاستقلال ولم نعد نسمع شيء من ماذا سيفعل المجتمع الدولي لاستعادة العملية الديمقراطية في ميانمار.
و بالنظر الي تجربة الشراكة خلال العامين الماضيين و بعيدا عن الكثير من الهرج السياسي من شاكلة ضعف الحكومة المدنية وصغائر الأمور مثل التراشق السياسي بين أطرف قوي الحرية والتغيير هنالك حقائق لا يمكن الجدال حولها، أولها :أن المصالح الاقتصادية للمنطومات العسكرية و الأمنية و النخب التي تدور في فلكها و تنتفع من ريعها لا يمكن أن تسمح بعملية انتقال سياسي تقود الي نظام ديمقراطي حقيقي يكون فيه للشعب السوداني الحق في معرفة اصوله و مقدراته وأملاكه بما في ذلك التي تدار تحت منظومة الصناعات الدفاعية و الشركات الأمنية. هذا هو سبب الأزمة السياسية الراهنة المتمثلة في الانقلاب علي السلطة الانتقالية و ترتيباتها الدستورية وهذا ايضا سيكون السبب في الانقلابات القادمة التي هي في جوهرها أعراض لأمراض بنيوية تتعلق بطبيعة و وضعية المؤسسات العسكرية والأمنية وعلاقتها بالدولة و السياسة. و في حقيقة الأمر مواجهة المؤسسات العسكرية و الأمنية لابد لها ان تتطلب عملية مفاصلة سياسية إذا ما كان للسودان أن يؤسس تجربة ديمقراطية حقيقية، و إذا ما لم نقم بذلك الآن فهذا يعني محض تأجيل لهذه الموا جهة فالظرف مؤاتي للقيام بهذه المفاصلة الآن و هي مفاصلة سياسية كاملة مقتضاها خروج القوات النظامية من الحياة السياسية مرة واحدة و الي الأبد والظرف سياسي بامتياز، اذا ما فعلنا ذلك بامكاننا معالجة الأمراض البنيوية بدلا من التركيز علي الأعراض المؤقتة مثل انقلاب الخامس و العشرين من اكتوبر.
عليه اذا صحت الاخبار التي ترشح عن أجتماع ظل منعقد الآن في القيادة العامة منذ البارحة و أنه تم التوافق علي تشكيل حكومة برئاسة الدكتور عبد الله حمدوك وفقا لشروط التحالف الانقلابي و دون أدني اعتبار لتطلعات السودانيين الذين خرجوا في المواكب في كل شبر من هذا الوطن و هتفوا للحرية و العدالة و السلام و اختنقوا بالغاز المسيل للدموع و استقبلوا الرصاص بصدورهم العارية في مليونيات يوم 21 اكتوبر و يوم 30 اكتوبر و يوم 13 نوفمبر و يوم 17 نوفمبر و قدموا ما يربو عن ال 45 شهيدا علي أقل تقدير فهذا يعني أمرين: أولهما أن رمزية حمدوك و دوره في قيادة الثورة السودانية الي سدرة منتهي تطلعاتها تكون قد شارفت علي الانتهاء، و ثانيها أن من يفكّر و يصنع هذه التسويات ليس له أدني معرفة بما يدور في صدور السودانيات و السودانيين في هذه اللحظة من غضب و أسي و حلم بالمستقبل. و اذا كان بديل حمدوك هو دكتور مضوي ابراهيم كما رشح ايضا من هذا الاجتماع فسيكون مصيره نفس المصير. ثورة دسمبر تجاوزت الشخوص و الرموز الي الحلم في رسم ملامح دولة تحقق المواطنة المتساوية و تصون الحقوق و تحفظ الكرامة.
ثم ماذا بعد؟ اذا تمت هذه التسوية بغض النظر عن من سيكون واجهتها المدنية هي فاشلة و قصيرة الأجل لا محالة، ستتواصل المسيرات و المواكب و كافة أفعال المقاومة الثورية لأن هنالك حلم بحياة كريمة بل ايضا لأنه ليس هنالك حياة، فثورة ديسمبر اعادت تعريف معني الحياة لجيل كامل مع الأخذ في الاعتبار أن السودان مثل بقية القارة الافريقية يختبر ظاهرة ديمغرافية لأول مرة في تاريخه حيث أن غالبية سكانه هم من فئة عمرية ما بين 15 الي 40 و مع الأخذ في الاعتبار أن الخليج انتهي كخيار و اوروبا و الذهاب الي الدهب ليس بهما سوي احلام اسطورية نادرا ما تصدق، ليس هنالك أمل سوي بناء هذا الحلم و في هذه الأرض التي هي لنا كسودانيات و كسودانيين. ماذا سيفعل الانقلابيون؟ سوءا بحمدوك أو بمضوي او بغيرهما السبيل الوحيد للبرهان و بقية التحالف الانقلابي لتأسيس نظام سياسي جديد حتي ولو أتو بشق من حزب الأمة (يقال أن فضل الله برمة ناصر في اجتماع القيادة ايضا) و شق من حزب مولانا الميرغني هو عنف واسع كما اشرنا لذلك في مقال سابق. هذا العنف له احتمالان: الاحتمال الأول هو أن يكون عنف منظم و بتعتيم اعلامي كما حدث في ميانمار التي لا وجود لها في الاعلام الآن حيث هزم الجيش بالقتل اي حركة للمقاومة، هذا للأسف يمكن ان يحدث في السودان اذا ما صرف العالم النظر عن ما يحدث في السودان أو حدثت اشياء كبري في مكان ما مثل انهيار الدولة في اثيوبيا. هذا السيناريو سيضمن استمرار مصالح المنتفعين و موت المقاومة الي حين اذا ما تمكن التحالف الحاكم من المحافظة علي تناقضات المصالح التي تعج في أوساطه كما اوضحنا في مقال سابق. الاحتمال الثاني وهو رهين بفشل الاحتمال الاول حيث أن التحالف الانقلابي قد يتعرض لضغوط دولية و تصدعات داخلية مثل خروج بعض القوي الموقعة علي اتفاق جوبا مما يعني عودة الحرب و ربما لجوء بعض شباب المقاومة الي صيغة ما لعمل مسلح، في هذا الاحتمال ستمضي دولة الكارتيلات في خلق وضعية شبيهة بما يحدث بالكونغو حيث مجموعات مسلحة تسيطر علي الذهب و أخري تسيطر علي الثروة الحيوانية وأخري تسيطر علي السمسم و أخري علي الصمغ العربي و تخرج الدولة بالكامل من فعل اي شيء خدمي من تعليم و صحة و شرطة و دفاع و اي شكل خدمي و يحل محل الدولة مجموعة شبكات تجارية ذات علاقة بهذه الكارتيلات تقوم بكل شيء علي شاكلة الصومال التي تمثل نموذج لدولة اللادولة Stateless State . هذا النموذج قد يبدو غريبا للبعض الآن و لكن هنالك مؤشرات عن تراجع الديموقرطية الليبرالية في امريكا وفي بولندا و في المجر، هنالك مؤشرات اننا قد نكون ازاء عالم مغاير في اقل من اعوام خصوصا اذا ما اخذنا في الاعتبار التداعيات الاقتصادية لجائحة الكرونا و التحولات الكبري التي يشهدها العالم في مسائل ال supply chain خطوط الامداد و غيرها.
خلاصة القول أن هذه محض قراءآت و سيناريوهات و ليس علي الفرد سوي العمل علي ترجيح السيناريو الأمثل و ترك الأمور التي خارج قدرته و طاقته للتاريخ و المشيئة الكونية، السيناريو الأمثل هو العمل علي تأسيس دولة سودانية علي اساس المواطنة المتساوية و بمشروع وطني نهضوي قوامه العدالة الاجتماعية و العدالة النوعية و يعبر عن قطاعات عريضة من السودانيات و السودانيين، مثل هذا المشروع لا يمكن أن يتأسس بتسوية لا تقود الي انتقال ديمقرلطي حقيقي حيث أن التجربة العملية علمتنا أن السودان ليس له اما أن يكون دولة ديمقراطية موحدة أو أن لا يكون البتة، و من نافل القول الاشارة الي أنه لو كان هنالك نظام ديمقراطي حقيقي يفتح الفضاء العام و يضمن حرية التنظيم و التعبير و العقيدة و الضمير ربما لم يكن هنالك دولة في الجنوب اسمها دولة جنوب السودان.
بكري الجاك 21 نوفمبر 2021