مغامرة في رواية كمولو عصر البطولة في جبال النوبة للكاتب آدم أجري (1 – 3)

د. قاسم نسيم حماد

 

اليوم نجترئ نكتب مغامرين في رحاب رواية (كمولو- عصر البطولة في جبال النوبة) للمهندس آدم أجري عثمان، بعد أن تجاسرنا بدفع ورقة عنها في ذلك التدشين المشهود بمنتزه الأسكلا بالخرطوم، فوقفنا أمام من تبقى من صناع البطولة خاشعين، والذاكرة تلفعنا تستحضر صور مماتاتهم مرمية على الطرقات، وعذاباتهم أصواتها تزعج هجيع الليالي الدافئة، ولهيب السياط في أكبادهم يهري الصمود، والرصاصة تقبل جباههم فتزري ببسمة الحياة،، وما وهنوا، ولا ضعفوا، لكنهم ارتقوا عن ذواتهم فما حسوا بلسعة الألم، أو ارتقوا إلى بارئهم تشهق ألسنتهم باسم أهلهم تسبِّح رطبة لا تزال، فاستحقوا التقديس عندهم، وصاروا أربابا في ملكوت شعبهم. ما أنصف قضيتهم! وما أهون مطلبهم حينذاك! كانت فقط معاملة أدنى إلى النَصَف، وأقرب إلى الإنسانية ليس إلا.
ما أمضَّ قراءة هذا الرواية الأليمة وأشقى، كنت كلما أوجعتني مآسيها فهجرتها، هزتني بطولاتها فاقتبلتها، وهكذا حتى أتيت إلى آخرها، وأنا بين حسرة وألم، ونشوة وزخم.
أنا هنا أغامر بتبديد جهدي الذي سكبته في التدشين، فإن ما اشتمله من حديث يناهز الساعة، يرافقه انفعال حكاه وجهي وحرَّك يدي، لا يندحه مقال صحفي له شروطه، لذا كنت أقمت نفسي على تسويد دراسة متأنية، شارحة وواعية، لكن تكاثفني أحبَّة يلحون عليَّ نشر الصحافة، فقذفت بهذه الخلاصة المبتسرة، وأنا أحاذر ما بين قصْر الإشاهة، وبسْر الإخلال.
يصلح أن نتناول هذه الرواية عبر ثلاث تناولات، تناول من حيث هي عمل يتمثل منزعاً في الأدب السوداني طريف، وتناول من حيث هي عمل روائي تاريخي، وتناول روائي محض.
أما التناول من حيث هي تمثل منزعاً في الأدب السوداني فهو أهمها، ومبعثه أن الكاتب أتى بجديد، فغنيٌ عن القول؛ القول بتأسيس حمزة الملك طمبل للأدب السوداني، اسماً ورؤيةً، فالاسم كان مُشكلاً آنذاك، لما أحاطه من نعوت الازدراء والانحطاط حينذاك، وإلا لما أنكره كشة واستبشعه في نزاعه مع علي عبد اللطيف في إهداء ذاك الكتاب، وقد أكدى طمبل وهو يسودن أدبه ويسمه بالوشم والشلوخ، وأغلقت في وجهه المنابر، نُكراً وتأففا، ورغم ذاك فلما نضَّ طمبل من قضايا الثقافة السودانية إلا وشلاً، كذلك كان علي عبد اللطيف في وعيه- فلعله نظر إلى فسيفساء أمدرمان فخالها هي كل شيء فاحتازها وأقامها لنا إنموذجاً، ولم يسبر تباين ثقافات بقية السودان وضرورات احتسابها عارية دون تعرُّب كما شاءت، ثم أطلَّ المحجوب كأحد مثقفي السودان الضخام، يتقدمه وعيه العظيم بتباين ثقافات السودان، فاستقصاها ما بين الغابات الدواغل، إلى الصحراوات القواحل، ومن إيمان الكجور والسحرة إلى إيمان بالله وحده لا شريك له، لكن المحجوب ألزم تلك الثقافة السفور بسمت عربي ودين إسلامي، وهذه هي كبوته، أما كان أجدر أن يتركها تسفر طليقة! كما تركها تصدر طليقة، ولقد علمنا أن أدب الجاهليين معقد مفاخر الأدب صنعه وثنيون، ولقد علمنا أن رؤوس الشعر الثلاثة عند الأمويين أحدهم نصراني، وكان يدخل إلى الخليفة والصليب يتدلى في صدره، وينكر ما عليه الناس من دين في شعره، وأبياته تحشدها الدواوين والمظان، ثم نمضي في قافلة الأدب السوداني نتفرس بحثا عن وجهنا فيه، فلا نملك إلا أن نبدي إعجابا بالمجذوب، لقد أعجب بالحياة الإفريقية وتمناها إذ يقول (وليتي في الزنوج ولي رباب… تميل بها خطاي وتستقيم)، لكن المحجوب كان يتحدث من خارج تلك النفس، فلم يتمثل الإفريقية في نفسه إنما وصفها من الخارج وأبدى افتنانه بها، وهي حياة أحبها بمشاعره الطليقة، ورفضها بعقله الرجيح، يقول (همُ عشقوا الحياةَ فعاشرتهم… كما تبغي المشاعرُ لا الحلوم)، وهكذا إذن عشق الأفرقانية قلبه انسياقاً وراء الملاهي والمشاعر، وعافها عقله احتزاماً للنواهي والزواجر، وهكذا تمضي قافلة الأدب السوداني تقارب تمامه وتنازع زمامه، ولا تبلغ شأوه، حتى وقفنا على عتبات أصحاب مدرسة الغابة والصحراء وسقوفها، كانت همتهم أكبر، وسعيهم أصدق، وفلسفتهم أنضج، لكن كان عوزهم لثقافة الغاب بيِّن، ولعل المجذوب كانت مادته منها أذخر بما كسبه من معاشرة حيواتهم في الجنوب، فمضى أصحاب الغابة والصحراء يتلقطون رموزها يرصعون بها قصائدهم، فالتمعت قصائدهم بلمعة الأبنوس، وارتعشت بهمهمة الكجور، فتمثلوا الإنسان الإفريقي بمسوحه وأسماله وأصدافه وانطلاقه، لكن ركَّبوه في موقف ونفسية وخيال عربي مفارق، فمن للإنسان الإفريقي القُح إذن، إن له آدم أجري
كان آدم أجري إفريقياً في موضوعاته وفي تناولاته، فروايته موضوعها النضال الإفريقي، والحياة الأفريقية في الهامش السوداني-جبال النوبة-يؤرخ لها ويبينها، وينقل صوراً لاسعة من نشيج الاضطهاد، دامية من غرور الاستعلاء، ومن العذابات والآلام التي أفرت أكباد أهله، وما لاقاه المناهضون الأوائل، ومن ترسم خطوهم من ويلات وعذابات وموت.
اصطنع آدم أجرى لموقفه المتمرد على كل شيء يراه منبثاً من الثقافة التي هزمت ثقافته، أو لائطاً منها بسبب- اصطنع أدواته الخاصة، اصطنع لغته وأسلوبه ورموزه وكناياته، كان تراثه الإفريقي طاغياً، إلى حدٍّ يجعلك ترى كل من تنكب الاتجاه الإفريقي قبله كانت محاولاته فجة وفطيرة، وإن ازهتها جمالياتها العالية، وذلك لافتقارهم مادتها، وعوزهم إلى معارفها، فهم لم يكونوا من أبناء الغابات أو الجبال لتتقعد معارفها في نفوسهم، ولم ينهض جيل من أبناء الجبال المتعلمين الأوائل يبين ثقافتهم وينشرها ليسهل على هؤلاء المثقفين درسها وتعمقها، بل قد عافها-أي الثقافة- نفر منهم، ودسَّها آخر، ومن قرب منها منهم إنما فعل ذلك ليتصيد لها مقاربة مع ما تلبس من ثقافات، دنوٌ غير برئ هو إذن.
نرى أجري في بعض الصفحات يستقصي أدوار الكجور حين يقول” من تنبؤ وصيدٍ وغزوٍ وختانٍ وأعياد حصاد واستشفاء وتنبؤ بمصير وتطهير من الخطايا وسوط الكمبلا والبخسة وجدع النار والملمات الكبرى” هذه الفقرة الموجزة تبين لنا بجلاء محورية الكجور في حياة النوبة، إنها أوجز وأشمل عبارة من كل ما يطرح الآن.

نواصل

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.