“معذبو الأرض” لفرانتز فانون.. لماذا لا تزال أفكار الفيلسوف الفرنسي المناهض للاستعمار ملهمة؟
المفكر والفيلسوف والطبيب النفسي الفرنسي فرانتز فانون ركزت أعماله على مقاومة العنصرية والاستعمار وأفكار التحرر الأفريقية . يتناول هذا التقرير اهم محطات حياته وملامح من افكاره.
المصدر : ذا كونفرسيشن
من الطب النفسي إلى النضال السياسي لمواجهة الاستعمار، ومن النشأة فرنسيا في ما وراء البحار إلى المقاومة في صفوف جبهة التحرير الجزائرية؛ تلك هي رحلة فرانتز فانون (1925-1961) الذي ولد في جزر المارتينيك (المستعمرة الفرنسية الكاريبية) لأبوين من أصول أفريقية وألزاسية (شرق فرنسا).
في صباه سقطت فرنسا في قبضة النازيين عام 1940، وحاصرت قوات حكومة فيشي الفرنسية (الموالية للنازيين) جزيرة المارتينيك، وأساؤوا معاملة السكان المحليين، مما عزز مشاعر الاغتراب لدى الصبي الذي استاء مبكرا من “العنصرية الاستعمارية” فهرب في سن 17 إلى دومينيكا للانضمام إلى القوات الفرنسية الحرة المناهضة لنظام فيشي.
رحلة بين القارات
انخرط فانون في جيش فرنسا الحرة، وانضم إلى حملة الحلفاء التي وصلت الدار البيضاء، ثم نُقل في ما بعد إلى قاعدة للجيش في بجاية على ساحل القبائل الجزائري، وغادر فانون الجزائر من وهران وخدم في فرنسا، لا سيما في معارك الألزاس، وعندما هُزم النازيون وعبرت قوات الحلفاء نهر الراين إلى ألمانيا، شعر بالتنكر لإسهام المقاتلين من فئة الجنود غير البيض لا سيما الجنود الأفارقة-الكاريبيين الذين تم نقلهم إلى نورماندي في انتظار إعادتهم إلى وطنهم.
وبعد أن وضعت الحرب أوزارها عام 1945، عاد فانون إلى جزر المارتينيك، وانخرط في الجدل الشيوعي، ثم عاد لفرنسا مجددا لدراسة الطب النفسي في ليون، حيث تعرف أيضا على الأدب والدراما والفلسفة، وخلال تلك الحقبة كتب مسرحيات أدبية وحصل على صفة الطبيب النفسي الذي حفز تفكيره في دور الثقافة في علم النفس المرضي.
أثناء إقامته في فرنسا، نشر فانون كتابه الأول “بشرة سوداء، أقنعة بيضاء” (1952)، وهو تحليل للآثار النفسية السلبية للقهر الاستعماري على السود. وكانت ردًّا على العنصرية التي عانى منها فانون أثناء دراسته الطب النفسي في جامعة ليون، ووصف فانون في الكتاب المعاملة غير العادلة للسود في فرنسا، وكيف رفضهم البيض، إذ كان لدى السود أيضًا شعور بالدونية عند مواجهة البيض.
واعتقد فانون أنه رغم أنهم يستطيعون التحدث بالفرنسية، فإنهم لا يستطيعون الاندماج بشكل كامل في بيئتهم البيضاء.
سافر فانون بعد ذلك إلى الجزائر، حيث اتسعت خبراته العلاجية في الطب النفسي بالتوازي مع تبلور أفكاره، لا سيما من خلال تطوير العلاج الاجتماعي للتواصل مع الخلفيات الثقافية لمرضاه الذين كانوا من طرفي الصراع، وبعد اندلاع الثورة الجزائرية في نوفمبر/تشرين الثاني 1954، التحق فانون بجبهة التحرير الوطنية متأثرا بتضامنه مع ضحايا التعذيب، وبحلول صيف عام 1956 أدرك أنه لم يعد قادرًا على مواصلة العمل لصالح الحكومة الفرنسية، حتى بشكل غير مباشر من خلال عمله في المستشفى. وقدم “خطاب استقالته” الذي أصبح لاحقًا نصًّا مهما في الدوائر المناهضة للاستعمار بالتأكيد على كون الصمت خداعا للأمانة.
ورحل فانون إلى تونس للعمل مع جبهة التحرير، وإضافة إلى عمله طبيبا عمل محررا في صحيفة “المجاهد” الناطقة باسم الجبهة، وشارك في مهام تنظيمية ودبلوماسية وحتى عسكرية، إذ رأى أن مقاومة الاستعمار لا تصلح من دون القوة، وعمل سفيرا لدى غانا لصالح الحكومة الجزائرية المؤقتة الموالية للثورة، وتنقل بين مدن وعواصم أفريقية عديدة، قبل أن يصاب بسرطان الدم ويذهب للاتحاد السوفياتي للعلاج.
وعندما عاد إلى تونس مرة أخرى، أملى كتابه الشهير “معذبو الأرض”، وألقى محاضرات لضباط جيش التحرير الوطني في غارديماو (غار الدماء) على الحدود الجزائرية التونسية، وسافر إلى روما للقاء الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر (1905-1980) الذي تأثر به وكتب مقدمة كتابه الشهير.
نقد الإمبريالية
من خلال تحليل ونقد القومية والإمبريالية، يقدم فانون مناقشة حول الصحة العقلية الشخصية والمجتمعية، ومناقشة كيفية تطبيق استخدام اللغة (المفردات) على تأسيس الهويات الإمبريالية مثل المستعمِر والمستعمَر، والقولبة النفسية.
يقترح فانون أن على الثوريين أن يستعينوا بالبروليتاريا المتناثرة (الطبقة الأدنى في التقليد الماركسي)، خاصة الفلاحين منهم لتوفير القوة المطلوبة للتمكن من طرد المستعمرين، مشيرا إلى أنهم يتمتعون باستقلال فكري كافٍ عن الأيديولوجية المهيمنة للطبقة الحاكمة الاستعمارية، ورأى أن المهمة تتمثل في إقناعهم بأنهم قادرون على التمرد ضد الوضع الاستعماري الراهن وبالتالي إنهاء استعمار أمتهم.
افترض فانون أن الاستعمار آلة عنف صريحة “تستسلم فقط عندما تواجه عنفا أكبر”، واشتهرت تلك المقولة التي تبناها نيلسون مانديلا (تلميذ غاندي) بعد أن توجه المؤتمر الوطني الأفريقي إلى “الكفاح المسلح” ردًّا على مذبحة ضد السود في جنوب أفريقيا، حسب عرض لمجلة “نيويوركر” (The New Yorker) الأميركية.
من وجهة نظر فانون، كانت البرجوازية الغربية “عنصرية في الأساس”، و”أيديولوجيتها البرجوازية للمساواة والكرامة كانت مجرد غطاء للجشع الرأسمالي الإمبريالي”، وأشار إلى أن “الأسس المادية والأيديولوجية للغرب تكمن في تفوق البيض”، واتهم الإمبرياليين الأوروبيين “بالتصرف مثل مجرمي الحرب الحقيقيين في العالم المتخلف” عبر سياسات “الترحيل والمجازر والسخرة والعبودية” لتجميع الثروة.
ومن بين “أبشع جرائمهم” تمزيق هوية الرجل الأسود، وتدمير ثقافته ومجتمعه، وتسميم حياته الداخلية بشعوره بالدونية. كتب فانون أن الفكر الأوروبي تميز بـ”حوار دائم مع نفسه، ونرجسية بغيضة على نحو متزايد”.
في الوقت نفسه، حث فانون المستعمَرين على “التوقف عن اتهام” أسيادهم البيض، والقيام بما فشل الأخير في فعله بشكل واضح؛ وبدء “تاريخ جديد للإنسان” يعزز “القيم العالمية”.
في رأيه، كانت القومية المناهضة للاستعمار مجرد خطوة أولى نحو نزعة إنسانية راديكالية جديدة “لأوروبا، لأنفسنا وللإنسانية”. ونأى بنفسه بالفعل عن المطالبات بهوية وثقافة محددة عنصريًا، وكتب أنه لا ينبغي استبدال “الخطأ الأبيض الكبير” للغطرسة العرقية بـ”السراب الأسود العظيم”، محذرا “المحرومين” من تكرار الأخطاء.
عندما أنهى الإمبرياليون الغربيون احتلالهم الطويل لآسيا وأفريقيا، أصبح فانون مهووسًا “بلعنة الاستقلال”، وخائفا من تحول الدول الجديدة “لقوقعة فارغة” ووعاءً للعداءات العرقية والقبلية والقومية المتطرفة والشوفينية والعنصرية، وقدم تشخيصا حادا ومخيفا لحالة ما بعد الاستعمار، مناقشا كيف سيسعى الغرب للحفاظ على النظام الدولي الجائر الذي جعله غنيًا وقويًا، وكيف ستفشل الطبقات الحاكمة الجديدة في دول ما بعد الاستعمار في ابتكار نظام قابل للحياة خاص بها.
ورغم تحليله المميز للفجوة السياسية بين الازدهار الحضري والفقر الريفي، والعواقب الوخيمة للتنمية غير العادلة، وخبرته كطبيب نفسي التي جعلته مهتما بتأثيرات القوة النفسية وإسقاطاتها على الصور التي يفرضها المستعبدون على المستعبدين، فإن كثيرا من الانتقادات التي وجهت له أشارت إلى ضعف خبرته بالمجتمعات المحلية التي عاش فيها.
“معذبو الأرض”
وفي التقرير الذي نشره موقع “ذا كونفيرسيشن” (The Conversation) الأسترالي، تطرق نايجل سي غيبسون إلى بعض الاقتباسات المهمة من كتاب “معذبو الأرض”، بالنظر إلى أنه كان يكتب في وقت حصلت فيه أكثر من نصف دول أفريقيا على الاستقلال، فإن نقده للطبقة الوسطى والأحزاب القومية كان يُقرأ مثل سيناريو تكرر مرارًا وتكرارًا.
يقول عن دول الاستقلال الناشئة بنبرة متشائمة “تتضاعف الامتيازات وينتصر الفساد… اليوم النسور كثيرة جدًا ونهمة للغاية بما يتناسب مع الغنائم الهزيلة للثروة القومية. والحزب أداة حقيقية للسلطة في أيدي البرجوازية، يعزز عمل الآلة ويضمن تطويق الشعب وشل حركته”.
وعن تفكيره في نزعة إنسانية جديدة، يقول في خاتمة كتابه “إذن، أيها الرفاق، كيف لا نفهم أن لدينا ما هو أفضل للقيام به من اتباع أوروبا”.
أدرك فانون تمامًا حقيقة أن الاستعمار الجديد يمكن أن يكون أسود أو عربيًا، وانتقد الدول الأفريقية المستقلة حديثًا لعدم فعلها أكثر من مجرد اتباع نموذج أوروبي حتى عندما استخدمت لغة الاشتراكية، وتطلعها إلى السيطرة على الأداة الاستعمارية -دولها ومؤسساتها- لخدمة مصالحها الخاصة. اعتبر فانون هذا نتاج أزمة الفكر وغياب فلسفة التحرير.
وأضاف “في أوروبا نفسها، حيث لم ينتهوا أبدًا من الحديث مع الإنسانية، لم يتوقفوا أبدًا عن التصريح بأنهم كانوا مهتمين فقط برفاهية البشرية. نحن نعرف اليوم ما دفعته البشرية من معاناة مقابل كل انتصار للعقل”.
ويرفض فانون النزعة الإنسانية المعلنة في أوروبا القائمة على أساس الاستعمار والاستغلال والعبودية والعنف، لذلك قال إنه “يجب أن نجد شيئًا مختلفًا”، وإنه “إذا لم يتم تعديل ظروف العمل، فستكون هناك حاجة لقرون من العمل على أنسنة هذا العالم الذي أجبرته القوى الإمبريالية على النزول إلى مستوى الحيوانات”.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.