مطر بدون بُراق !
بقلم: حسن أبو زينب عمر
يحمد لمحمد حمدان دقلو الملقب ب(حميدتي) عفويته التي لا تعرف أحيانا الدسدسة ولا الغطغطة ..حديثه وإعترافه في دارفور (حيث يتواجد حاليا) وأمام قوات من جيشه أن هذه مدرعات الدعم السريع وليست مدرعات الجيش ..هنا تذهب الروايات أنه إما أن بسط سيطرته عليها بعد إنتزاعها من الجيش او بموافقته ولكن مهما كانت التفسيرات فهو إعتراف صريح لنائب مجلس السيادة لمن يهمه الامر ولا يحتاج لدرس عصر أن البلد فيها (جيشان) بخلاف جيوش الحلو ومحمد نور والحركات المسلحة (الله وحده يعرف عددها)..ليس سرا أن الجميع يعرف أن الجيش السوداني يتميز عن الوحدات الأخرى بأنه الوحيد الذي يمتلك وحده هذه القوات الخاصة .. هنا سؤال في حاجة لإجابة ما سبب الصمت الغامض للجيش السوداني الذي يقولون أنه من أكبر الجيوش المحترفة بل يحتل ربما المركز الثاني أو الثالث في أفريقيا في القوة القتالية والتسليح والتدريب؟ .. سيما وهو جيش له تقاليد عريقة راسخة ضاربة في جذور تاريخ السودان وحتى في عهد الإستعمار بمشاركات في حروب ونزاعات بعيدة تمتد من الحرب العالمية الثانية وهم الذين خلدت مشاركاتهم البطولية الفنانة الراحلة عائشة الفلاتية (يجو عايدين ضباطنا المهندسين يا الله ..يجي عايدين الفتحو كرن باينين يا الله) وقبلها من مشاركات في فجاج الأرض وراء الحدود بل حتى لحدود المكسيك عام 1862 حينما شاركت كتيبة سودانية إستنجد بها حاكم باريس وسطرت هناك ملاحم ولا زال هناك حي إسمه الحي السوداني في العاصمة نيو مكسيكو .فماذا حدث ياعباد الله حتى يتراجع دور الجيش؟
(2)
.الذي يسترعي الإنتباه هنا أن جيش حميدتي يتمدد على حساب الجيش رغم أن حميدتي نفسه يعرف أنه مرفوض من القيادات العليا في الجيش التي تعتبره (طابورا خامسا) فهل يفسر صمت البرهان على هذا اللامعقول هو الخوف من الرجل الذي يحمل لقب (فريق الخلا) سيما وأن لا شيء يجمع بينهما سوى التصدي لحراك الشارع المدني ..منذ شهر وأكثر تقريبا يسجل حميدتي نفسه غيابا عن العاصمة في مهمة لم يتم الإعلان عنها إلا أن بعض الروايات كشفت أنه توجه إلى هناك للقيام بدور لم يكن محايدا فيه حينما نشبت مواجهات أهلية تقليدية بين المساليت التي تنحدر من أصول أفريقية وقبيلة الرزيقات العربية التي تنتمي إليها أسرة دقلو والدليل أن قبائل المساليت التي تعرضت لخسائر فادحة في الأرواح والممتلكات تركت أرضها ونزحت إلى مدن زالنجي وبعضها عبر الحدود إلى تشاد بعد أن تقوت عليها الرزبقات بكتائب من الدعم السريع. في الشرق تمكن حميدتي من إحداث شرخ كبير في جسد مجلس نظارات البجا والعموديات المستقلة بعربات تويوتا (دبل كابينة) جديدة (لنج).
(3)
المشهد الآخر لتمدده الذي كان مادة دسمة للإعلام الخارجي والمحلي هو زياراته الخارجية التي نالت تغطية عالية بعقد صفقات وإبرام إتفاقيات من وراء ظهر النوافذ الرسمية بعد فتح قنوات مع العالم الخارجي آخرها كانت مع الإمارات وروسيا وهي دول تبحث عن مصالحها ولا يهمها إن جائها فريق (ياباني) أو فريق (تايواني)…..التفسير الوحيد لحدوث كل هذه التجاوزات مع صمت البرهان وقيادات الجيش هو ألغاز مرشحة بأن تتحول الى ألغام جاهزة للإنفجار إذا واصلت الأمور على وتيرتها إن عاجلا أو آجلا . ربما شاهد الكثيرون شريط فيديو الصوت فيه هو لحميدتي والإيماءات والحركات وتحريك الشفاه تعبيرا غن معاني الحديث والتعبيرات ل(فتاة) رغم صغر سنها إلا أن جاذبيتها للإستماع إليها طاغية ومدعاة للضحك وشر البلية مايضحك ولكن الشريط جمع عدة خطب لمساعد رئيس مجلس السيادة تلخص أفكاره ورؤاه حول الحراك الذي تموج به الساحة السياسية في السودان . كل حديثه يدور حول خلافه مع الشارع في القضايا المطروحة وهو يسوق نفسه بأنه أصبح واقعا لا مفر من قبوله
Status quo
(4)
لا يجدي الهروب منه بل يبدي إنزعاجه وصبره الذي فاق الحدود ..الشريط يحوى أيضا تحديات مسبوقة ب(قسم غليظ) وجاهزية للصمود والمواجهة حتى لو أمطرت السماء الحصي (الليلة قبل بكرة) أو وعوده للشعب السوداني بإنتظار سماء تنشق بطوفان من الماء خال من الرعود والبروق يضرب الأرض على حين غرة (سمعتوا بمطر بدون براقٌ ولا ماعندكم ؟) ولكن الذي يلفت الإنتباه أن الصوت العالي المستفز يتحول إلى صوت ناعم خجول منكسر شبه هامس تفننت فيه (الصبية) في التعبير عنه وهي تتلاعب بباندة شعر حينما أتى الكلام عن جريمة فض الإعتصام مما يقف دليلا دامغا على تورط الدعم السريع في المذبحة ولكنه يؤكد أيضا خيار الدوران في الحلقة المفرغة التي يتمرغ فيها السودان منذ انقلاب 25 أكتوبر معيدا إنتاج الكارثة ( تسلوا لينا سكاكينكم ليل نهار وعايزيننا نمشي الثكنات ..والله مانمشي الثكنات ) .
(5)
بعيدا عن الأزمة الإقتصادية التي تطحن البشر وسياط الغلاء التي تنهال على الظهور والصدور التي ورائها حكم العسكر أصبح الإنفلات الأمنى الذي تغذيه العصبيات والجهالات أكبر مظاهر الإنهيار التي تهدد الوطن ..هناك ردة مخيفة وإنقلاب مرعب على كل الثوابت والأعراف التي كانت أهم مقومات الطابع القومي السوداني في التعايش السلمي وقبول الآخر والتي ترعرع عليها المجتمع السوداني بمختلف إثنياته رغم ان الامية كانت تضرب الوطن ولم تكن مؤسسات التعليم بهذا الحجم والزخم ..المذابح والحرائق التي شهدتها مدينة (الدمازين) خير شاهد على ذلك ..الدمار والتخريب الذي طال البنية التحتية في (كسلا ) على قلتها وهشاشتها يقف تأكيدا على ضياع قيم الطيبة والكرم والتسامح التي جبلنا عليها ..السؤال الطبيعي هنا أين الأجهزة الأمنية وماهي أسباب غيابها وتلكؤها عن التدخل السريع وحسم الامور بقوة القانون أو إستباق الأحداث والمواجهات والحيلولة دون وقوعها . لماذا يأتي التدخل في الزمن الضائع بعد خراب سوبا ولماذا يأتي صراخ الثكالى وبكاء الأطفال كانه آذان في مالطا ؟.
(6)
التدخل بعض وقوع الفأس في الرأس عبث وعدم إتخاذ الحيطة والحذر من أعمدة الدخان التي تتصاعد قبل إندلاع الحريق إستهتار بأرواح البشر، فالقوات الأمنية بكل مكوناتها لديها كما يعرف الجميع قرون استشعار تسمع وتتحسس بها دبيب النمل حينما يتم التعامل والإستعداد لتحركات (أطفال الناس) وتنشط وتستبق الأحداث بتعطيل خدمة الإنترنت وقفل الشوارع والكباري بالحاويات قبل التعامل مع المتظاهرين بالذخيرة الحية وقنابل الغاز المسيل بالدموع والقنابل الصوتية فلماذا تسجل هذ الأجهزة هذا الغياب المزري في مذابح الدمازين وكرينك وحرائق كسلا ؟
التفسير الوحيد ان هذه الأجهزة ترسل رسائل واضحة كالشمس في رابعة النهار لا تقبل التأويل منها ان الشارع الذي يتظاهر ضدها ثم يستنجد بها وقت الحارة ماهو إلا غوغاء ورجرجة ضلت الطريق ولا خيار أمامها لإستتباب الأمن والرفاه إلا تحت مظلة العسكر شاء من شاء وأبى من أبي .ولكن مهما إسودت الدنيا وتزاحمت في سماءها الغيوم الرمادية (فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذۡهَبُ جُفَآءٗۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمۡكُثُ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَال) ومدنياوووو حتى وإن طال السفر .