مصير الوحدة مرهون بين قضية الدين والدولة والدستور القومي .

نضال الطيب حامد

 

نلاحظ التباين الواضح حول مدى تأثير العامل الديني على العملية السياسية في الواقع السوداني، فلم يكن هناك إجماع على ضرورة فرض الشريعة الإسلامية، كما ليس هناك إجماع أيضاً على فرض العلمانية، إلا أن الفريق عبود قام بطرد القساوسة وابتكر عملية الأسلمة والتعريب في جنوب السودان وجبال النوبة، لاعتقاده أن ذلك هو الطريق الوحيد لتحقيق الوحدة بين الشمال والجنوب، ولكن تحولت القضية لدى الحكومة المركزية، لتصبح صراعاً بين العرب والافارقة، والمسلمين مع غير المسلمين.

وبعد أن رسخت الحركة الإسلامية أقدامها في حكم السودان، تحت شعار ثورة الإنقاذ الوطني لتمرير مشروعها الإسلامي القائم على الأسلمة والتعريب، وحكم الشريعة الإسلامية، فعبرة الحركة الإسلامية عن الدستور المعدل عام ١٩٦٨م متحدثة بإسم الإسلام لتحقيق الدولة الدينية، مستبعدة بقية القوى السياسية بحيث شهد مفهوم الدولة الدينية خلال تلك الفترة خللاً في النظرية والتطبيق.

صاحب مفهوم الدولة الدينية عند الترابي أطروحات براغماتية تمرحلة مع الخطاب الديني فهي التي جعلت السودان بعدها يدفع ثمناً باهظاً بمعاناة إستمرت ثلاثة عقود من الزمن بأسباب الحرب والعزلة الدولية.
فتجربة الدولة الدينية الإسلامية السودانية، لم تستخلص العبر والدروس من الدولة الإسلامية الأولى بضرورة إحترام التعدد، بل إنها اختلفت معها في بنياتها الأساسية، مما أكد أن عيوب التجربة والتطبيق والممارسة في الحالة السودانية، كانت طاغية على قصور المفهوم نفسه، في حالة من عدم إكتمال أركانه الأساسية. وهذه الأركان الأساسية استلفها الإسلاميون مماهو موجود في مصطلحات الإسلام السياسي وتجاربه في العالم العربي، خاصة عند الثورة الإسلامية الإيرانية، إلا أن عدم الإعتراف بقضايا الديمقراطية والحريات وطرح بدائل مشوهة لها بعد كثير من الضغوط، زاد من الشقة بين مفهومي الدولة الإسلامية والدولة الديمقراطية.

نجد أن بعد ما استولت حكومة الإنقاذ على الحكم عام ١٩٨٩م انقلبت على دستور عام ١٩٥٦م المعدل في عام ١٩٦٨م المعيب في بعض جوانبه وطرحت بديلاً له الدستور الإسلامي عام ١٩٩٨م الذي شابهه في الإسم وتناقض مع سماته العامة.. فبينما ينص دستور ١٩٦٨ على أن الإسلام عقيدة أهل السودان وهو دين الدولة، يأمر بما أنزل الله… فل ننظر إلى هذا الخطأ التشريعي فكيف يكون الإسلام عقيدة أهل السودان مع وجود مكونات أخرى سودانية غير مسلمة، فيعتبر هذا مبدأ إقصاء لكل المجموعات من المواطنة والانتماء لغير المسلمين__ وهل قبل الإسلام الدكتاتورية والسيطرة و عدم الحرية الدينية.. إلا أن مواد رئيسية أسقطت واستبدلة في دستور ٩٨ مثل ارتداداً عن إقرار حرية التنظيم السياسي، والتداول السلمي للسلطة والإصرار على النظام الشمولي، كماحزفت المادة التي تتحدث عن حق المواطنين في الأمن والطمأنينة وعدم التعرض للتعزيب وضمانات الإعتقال.
وبينما حصر دستور ٦٨ مصادر التشريع في مصدر وأحد قائلاً : إن الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي لقوانين الدولة (المادة ١١٣) وتجاهل حتى مناهج استنباط الأحكام في الشريعة الإسلامية كالاجماع والقياس والاستحسان جاءت حكومة الإنقاذ في دستور ٦٨ بمصادر أخرى للتشريع، فقد أكدت أن الشريعة الإسلامية وإجماع الأمة استفتاء ودستوراً وعرفاً هي مصادر التشريع، ولا يجوز التشريع تجاوزاً لتلك الأصول، ولكنه يهتدي برأي الأمة العام وبأجتهاد علمائها ومفكريها ثم بقرار ولاة أمرها.. نلاحظ من هذا النص المعدل، هو اتحات الفرصة لشيخهم الترابي، رئيس البرلمان في ذاك الوقت وعراب الإنقاذ من أجل الاستفراد بالحكم والتشريع، فما هو مقياس العلماء والمفكرين في الدستور، فضلاً عمن يحدد صلاح ولاة الأمر من غيره.. ومن خلال إستعراض الدستوريين يتضح لنا أن الدولة كمؤسسة سياسية لم تستطيع تطبيق معيار الدين أو الإعتقاد السليم فيه، وإنما كان عبارة عن إستغلال لمؤسسات الدولة المختلفة لتنفيذ السياسات بإسم الدين.
فيما ازكر تحدث الرئيس المخلوع عمر البشير، في خاطبه بالقضارف، بلغة مشحونة بالأفعال قبل أسابيع من الإستفتاء لجنوب السودان، وتعهد بأنه إذا حدث انفصال للجنون نتيجة للاستفتاء فإنه سيغير الدستور لتكون الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع في السودان.. وفي هذا القول عبارة تأثيمية تتمثل في في أبلسة الآخر، فحين يعلن فرض الشريعة بمجرد مغادرة الجنوب، نتساءل : هل كانت الشريعة معطلة يوماً ما بسبب وجود الجنوب في حضن الوطن؟ طبعاً لا.. فالشريعة الإسلامية تم المزايدة على تطبيقها منذ عهد الرئيس الأسبق جعفر نميري لأغراض سياسية معلومة، كما أن دستور ١٩٩٨م في عهد الإنقاذ __وماتلاه من تعديلات.. صيغ كذلك ليتواءم مع ما استنته الإنقاذ من مشاريع بإسم الإسلام.. مثل المشروع الحضاري.

هذا المشروع تميز بخطابه الأيديولوجي، الذي ينادي بالشعار الإسلامي والتركيز على مظاهر التدين، دون جوهره وضمان الجنة للمؤيدين وتكفير المعارضين، في إمتداد الوطن لمبدأ الحاكمية لله، الذي نادت به الجبهة القومية الإسلامية.

سوف نتعرض للمشروع الحضاري في مقال آخر.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.