مشاهدات من الإنتهاكات والجرائم بجبال النوبة في الحرب الأولى:(1984-2005).
بقلم: النور كوة مكي
(الحلقة الخامسة)
(كاكا تشاركنا الزنزانة).
إعتدنا على كل أنواع وصنوف العذاب:(القتل، الضرب، البذاءة اللفظية .. إلخ). ولكن واحدة من معاناتنا التي إعتدنا عليها ولازمتنا طيلة الثمانية شهور التي قضيناها بالحامية هي رائحة الجروح المتقيحة لكثير من الرفاق وزوار الزنزانة. كنا نبذل قصارى جهدنا لمعالجة هؤلاء الرفاق ولكن تتجدد الحالات بالقادمين الجدد.
المتعاطفون من القوات المسلحة كان يأتون بالأدوية والأشرطة والأربطة، بل يقدمون خدمات التمريض. وحقيقة الإنسانية لا قبيلة لها.
أحد أفراد القوات المسلحة وكان بإستمرار في خدمات الكركون يدعى حمد النيل من إحدى القبائل العربية بدارفور ( هباني) كان يقدم كل الخدمات حتى شراء الأطعمة من ماله الخاص.
وكم من الرفاق الذين إلتهبت جراحهم سيقوا إلى الإعدام للتخلص منهم حتى الذين كانوا بالمستشفى يتلقون العلاج لم يسلموا بسبب هذه الجروح.
(كاكا) كان إعتقالها مؤلماً لها وأشد إيلاماً لنا. (كاكا) فتاة تبلغ من العمر العشرين ربيعاً جيئ بها إلى المعتقل تمشي على إستحياء وعيناها تنمُ عن حِيرتها مما هي فيه وكنا نحن أكثر منها حيرة وإستفهاماً عن سبب إعِتِقَالُها.
لم يكن متاح لنا تبادل الحديث مع القادمين الجدد إلى المعتقل إلا خلسة. وكنا ننظر إليها وهي تبادلنا النظرات وتستنجد بنا وبعد حين علمنا إن جُرم هذه الفتاة فقط إنها كانت على علاقة ودٍ مع أحد أبناء (أنقولو) – (أبو جوجو) القائد المرعب الذي يكفي سماع إسمه أن يتحسس الأعداء مواضع سلاحهم. وهو القائد المحبوب لكل الفئات والمدافع الجسور عن الجميع. كان وحده يمثل ألف كتيبة، وهو خطيبها بل زوجها.
وهذا المعشوق قد كان مناضلا شرسا بالحركة الشعبية والجيش الشعبي وحامي حمى (أنقولو) وقد إشتهر بحمل مدفع على كتفه ويقوم بصد كل من تسول له نفسه من الأعداء بالتقدم نحو (أنقولو) – ويتخذ من مداخلها أبراج مراقبة له، يراقب منها حركة القادمين إليها. ويأذن بفطرته لمن يأذن من الحلفاء والأصدقاء بالدخول، ويصد الأعداء عنها بشراسة مشهود له بها.
وما آلمني أكثر في قصة إعتقال (كاكا) أنا وبقية الرفاق المعتقلين – إنه وفي أثناء تواجد (كاكا) بيننا ولطبيعتها كأنثى جاءها المحيض (العادة الشهرية) ولم يكن معها ما تستر به حالها وكنا ننظر إليها ولمدى ما أصابها من حيرة وحرج وخجل ونحن كذلك أصابنا مثل ما أصابها؛ لا هي تستطيع أن تبوح لنا ولا لجلاديها وهي لا تحمل معها سوي ما ترتديه من فستان وتوابعه وتبدو بقع الدماء حولها. وكان لابد من كسر حاجز هذا الخجل والحرج فعمدت إلى خلع فنيلتي الداخلية من القطن، كنت أرتديها. وكذلك فعل معي بقية الرفاق وأعطيناها الفنايل. ولكن المعضلة الحقيقية الأخرى كانت هي كيف يمكن أن ترتب حالها فى مثل هذا الجو وهذه الظروف ؟؟. حيث أننا آنذاك في شهري أكتوبر ونوفمبر نقوم بقضاء حاجتنا في العراء وتساعدنا الطبيعة بستر عوراتنا خلف الحشائش الكثيفة ونغتسل بأغصان هذه الحشائش، أو بما جرى من ماء الأمطار. تجرأنا وأخبرنا أحد الجنود المتعاطفين معنا (إبن الهبانية) بالمعتقل بحالة (كاكا) فأخذها إلى حيث تتمكن من ترتيب حالها.
عادت (كاكا) بعد حين وقد كان يبدو على محياها الراحة وتنم نظراتها عن شكر وإمتنان لنا. وكنت حريصاً على التأكد من سلامتها. فأخبرتني إن الجندي أخذها إلى مكاتب المجندات وقد ساعدنها ومدنها بما يلزمها من معينات (صابون وغيره)
وقد علمنا فيما بعد إن ذلك المعشوق الشجاع الذي أرعب جيش النظام هو (أبو جوجو) مما دعاهم إلى إنتهاك خصوصيته وإعتقال (كاكا) ذات العشرين ربيعا دون ذنباً سوى (إنها) من أصفيائه.
وقد ألقي القبض عليه وتم إعدامه ومثلت بجثته لاحقاً.
ولكن يموت الثائر والأرض تنبت ألف ثائر.
والحق يقال إنّ تلك النيران لم تكن لتزيد الذهب (النوب) إلا بريقاً ولمعاناً.
نواصل
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.