مرثية لنجم بعيد

بقلم : أحمد المعتز

لا يمكن التعامل مع نص ضخم يوثق لتاريخ ثورة ضد المستعمر كرواية وصية شيلاما إلا عبر تجزئته فالنص حاشد بالتدافع على البطولة و يفجعك بحقيقة الخيانة دون مواربة فهو نص لا مكان فيه للفانتازيا و أضغاث الأحلام و ابعد ما يكون عن النعومة تحت غطاء ما يسمى دجلا و زورا بفن الممكن…
نص فاضح لفظائع الكولونيالية بحق شعب السودان فالمستعمر أستخدم كل الأسلحة من حصار و تجويع و تخريب للبيئة و بارود لم يستثني شيخا و لا رضيعا…
آلاف الكوشيون المرويون بقيادة السلطان عجبنا و الأميرة مندي صنعوا تلك الملاحم المنسية التي آن أوان الاقتراب منها و التعرف عليها عن كثب.
~~~~~~~~~~

“عليكن الإقتصاد في استهلاك الماء إلى أقصى حد فقد استولى الغزاة على آبار شلينج يا لهم من خبثاء عديمي رحمة… سأتجه إلى سلارا لإيصال الخبر حتى يعرف قادتها ما وقع فيقرروا ماذا يرون فيما يتعلق بحماية آبارهم فالدور آتيهم لا ريب”

يا سيد البيض يا سيد الخيل
ماذا تريد من الذاهبين الى شجر الليل؟
عالية روحنا و المراعي مقدسة
و للنجوم كلام يضيىء
إذا أنت حدقت فيها
قرأت حكايتنا كلها
ولدنا هنا بين ماء و نار
و نولد ثانية في الغيوم
على حافة النهر اللازوردي بعد القيامة….. عما قليل
فلا تقتل العشب أكثر
للعشب روح يدافع فينا عن الروح
في الأرض
فعلم حصانك….. أن يعتذر
لروح الطبيعة …. عما صنعت باشجارنا
(محمود درويش – خطبة الهندي الأحمر الأخيرة )

هرولت الأميرة مندي نحو مصدر الخبر…. شيلاما… ماذا تقول؟ احقا احتلت الآبار؟…. ايتها النسوة لقد طفح الكيل لن ننتظر… الموت هو الموت… و خوض المعارك بات فرضا على الجميع نسوة و رجالا “

أما آنَ أَنْ نلتقي ياغريبُ
غَريبين في زَمَنٍ واحدٍ؟
و في بلدٍ واحدٍ مثْلما يلتقي
الغُرباءُ على هاوَية؟

لنا ما لنا …و لنا مالكم من سَماءْ

لكُمْ مالكُمْ …و لكم ما لَنَا
من هواءٍ و ماءْ
لنَا منْ حَصىً… و لكم مالكم منْ حَديدْ
تَعالَ لنقتسمَ الضوءَ في قُوةِ
الظِلّ خُذْ ماتُريدْ
منْ اللّيْل و اترُكْ لنا نَجمتيْن

لندفنَ أَمواتنا في الْفَلك
و خُذْ ماتُريدُ من الْبَحْر
و اتْرُكْ لنا َموْجتَيْنِ لصَيْدِ
السّمكْ
و خُذْ ذَهَب الأْرض
و الّشمْس و اتْرُكْ لنا أرضْ
أسْمائِنا (محمود درويش- خطبة الهندي الأحمر الأخيرة)

حملت طفلها بين ساعدبها فباتت ترضعه استعدادا للخروج به ثم أقبلت على ربطه بحزام جلدي على وسطها…
فجعلته على ظهرها في وقت تحلقت نسوة حولها في محاولة لاثنائها عن الخروج…
أخذت عصاتها فخرجت بطفلها ثم خاطبت من تجمهروا حولها قائلة :ارجوكم وسعوا لي الطريق… من يقاتلون هم فلذات اكبادنا… أناس مثلنا… و المعتدون كذلك بشر… دعوني اذهب الى الحرب كما يذهب الغير دعوني آتيكم بالماء قبل أن تنقلوا المزيد من الجثث إلى دومانغ “”
مندي اتظنين أننا مقصرون في عملنا… ذلك الذي يترصد ببندقيته أليس هو سوروف بيلا! الا ترين امامك برشيمه كولال، كناسا، أؤيد سعانا، ليمان تروه، و ادوور، اقرين قيدوف، كودباي، سوار عصر، دانغا و مشين.. أليسوا صفوة فرسان السلطنة فماذا يأتي بك إلى هنا؟ حتى كورماي سلوف الكسيح موجود معنا و يقوم بعمل جيد.. ابتعدي عنا رجاء حتى لا نقلق عليك و على صغيرك…
(آدم أجري… وصية شيلاما ص 218)

“و توارت الشمس بالحجاب و بَزَغ القمر يفضّض حواشِ الماء و حملقت النجوم تنظر إلى هذا الأسطول اللَّجب يمخُر عُباباً من خلفه عُباب و يطوي لجَّة من ورائها لجُة و المَلاَّحون دائبون ماينون مرسلين في اللانهاية ألحانهم مرددة الرياح أغانيهم و أنغامهم و القادة متكبكبون حول القائد الأعلى حول اجاممنون يدرسون تلك الخطة و ينقدون هذه الفكرة
و يدبِّرون من أمرهم مايصل إلى نَصْر عَزيز.
(هوميروس الالياذة)

لم تكترث بما يحيط بها ترمي كما يرمون تصيب و تخطئ كما يفعلون فكانت المعركة الأشد حماسة شارك فيها كبار السن إلى جانب المراهقين
سمعت الزغاريد عن قرب
و مع كثافة الضغط الجماهيري و قرب حلول الظلام تمكنت الحملة الشعبية من طرد القوات الغازية من آبار شيلنج
دحرجتها عبر موصلا إلى مسافة أبعد…
فحلول ظلام عليهم و هم في وضع كهذا سيعرضهم حتماً لحصار لن ينجو منه أحد..
لقد دمرت الآبار ألقيت فيها الصخور و الأشواك و جثث القتلى و تحتاج لعدة أيام عمل ليلاً و نهاراً …
لكنها مهمة أسهل ..فهناك من الخبراء من سيتولون أمرها…

رواية وصية شيلاما و إن نكأت جراح خيانة لأفراد و نخب إلا انها نجحت في تخليد بطولات لم يتعرف عليها الناشئة بعد و لم يسمع بها معظم الكبار بفعل عوامل التغييب الممنهج و الإصرار على التمسك بقناعات كئيبة و بليدة و عاجزة عن خلق وطن حر يعيش فيه شعب حر…. لم يتم التعامل مع الملاحم الوطنية في الأطراف كإرث شعبي
شعبي سوداني أصيل و لم تجد تلك البطولات حظها من التناول في الإعلام المسموع و المرئي… معارك المساليت مع الفرنسيين و استشهاد السلطان علي دينار في دارفور و مساهمات الدينكا في المهدية جميعها صفحات بيضاء لم تجبر بعد و لم تصبح جزء من ذاكرة أمة….
الفنان السوداني الشاب محمد عمر عثمان أهداني لوحة نصفية للأميرة مندي احتفاء منه بذلك النجم البعيد.

مندى بت السلطان عجبنا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.