مذلون مهانون .. رائعة دوستويفسكي الخالدة
بقلم ✍️: شامخ الشندويلى
عندما تشرع في قراءة رواية اسمها “مذلون مهانون”، فلا بد أن تكون مستعدًا تمامًا لتحمل مسؤوليتك عن مقدار الأسى والدموع الذي ستصادفه.
ماذا تتوقع؟ أنت تقرأ في هذا العمل قصص أشخاص مضطرين لقبول الذل والإهانة طول العمر على يد جبابرة ظالمين وقساة القلوب وبلا ضمير، يتحكمون بأموالهم وسطوتهم في مصائر الناس، فيبدو لك هؤلاء الضحايا كأنهم لا يملكون أي خيارات بديلة في مواجهة هذا الوضع سوى القبول والإذعان.
لكن هل هذا جديد ليقدم إلى القارئ؟ أم سبقته روايات وأفلام كلاسيكية تحكي قصص حب بين طبقات متباعدة، وما تعانيه الحبيبة التي وقعت في غرام شاب ثري ووقع هو في غرامها؟ مثل ما في رواية “أنا كارنينا” مثلًا وغيرها، وحتى في الأفلام الرومانسية القديمة من ميلودراما وظلم ودموع!
بالطبع لن يكون جديدًا على القارئ، فما الذي سيجذبه إذًا لرواية مثل هذه تحكي عن فتاة فقيرة وقعت في غرام شاب ثري لأب ظالم ومستبد، علمًا بأنها من أشهر وأهم روايات دوستويفسكي؟ الحقيقة أن الممتع دائمًا عند دوستويفسكي ذلك الغوص الخيالي الذي لا مثيل له في المشاعر الإنسانية بخبرة ومهارة لا يبدوان أنهما بمقدرة البشر العاديين، أنا عن نفسي لو صادفت من يبحث عن نموذج للعبقرية في الأدب لأرشدته إلى دوستويفسكي وأنا مطمئن لنصيحتي ومستريح الضمير.
لعل أكثر ما يثير عجبي في كتابات دوستويفسكي أنه ولد منذ أكثر من مئتي سنة ومع ذلك لا أشعر بعصرية كاتب وتفتحه مثلما أشعر بذلك وأنا أقرأ له، كأنه أديب شاب من الجيل الجديد، ومن السهل أن تتفق معي على أن القاسم المشترك في كل رواياته مهما كانت القصة هو ذلك الفهم العميق للنفس البشرية، والتحليل الثاقب الدقيق للحالة السياسية والاجتماعية والروحية للمجتمع الذي يعيش فيه.
كما أنه يفعل ذلك بينما يعرض في نفس الوقت كثيرًا من المواضيع الفلسفية، مما يضفي على أعماله –بالإضافة إلى إثارة المشاعر لدرجة البكاء– ذلك الثراء وتلك المتعة وهذا الاحترام، فعندما يكون الأديب جادًا وموهوبًا وواسع الثقافة في نفس الوقت فلا بد أن يعطي القارئ ذلك الإحساس بالاحترام، فيشعر بأنه يحترم الكاتب في كل كلمة وفكرة وخاطرة، لا لأنه يغذي أفكار القراء فحسب، بل ويغذي مشاعرهم ويوقظ أحاسيسهم ويرقق قلوبهم، كأنه يغسلهم من الداخل مرات ومرات.
دوستويفسكي من أمهر الكتاب في الإمساك بالخيوط، خيوط الشخصيات الكثيرة داخل رواياته، وخيوط الأحداث الكثيرة الناتجة عن تفاعل هذه الشخصات معفكرت في أن أورد ملخصًا للرواية، وهي طويلة تقع في 555 صفحة، فوجدت ذلك صعبًا لأن فيها عدة قصص تسير متوازية ومتداخلة معًا لتؤدي لنفس النتيجة في إطار الفكرة العامة، وهي القهر الذي يتعرض له الضعفاء في مواجهة أصحاب المال والثروة ممن لا يرحمون ولا يتواضعون ولا يكتفون من الطمع والأنانية.
لكن أبرز الخيوط الدرامية في الرواية قصة ناتاشا، التي يحبها بطل الرواية الأديب الفقير صاحب النفس النبيلة الشاب إيفان، الذي كان أيضًا جديرًا بأن ينال حبها وهو الأديب والمثقف والصادق المحترم، لكنها أحبت الفتى أليوشا ابن رجل الأعمال الثري الماكر المتسلق، الذي حطم كثيرين في سبيل جمع ثروته وما زال يتلاعب بمصائر الناس بلا رحمة، الذي عندما علم بقصة حب ابنه لهذه الفتاة الفقيرة دبر لأبيها الرجل الشريف المحترم تهمة سرقة، فألحق به عارًا لا يليق بشخص محترم مثله، فكان من الطبيعي أن يرفض أبوها بدوره زواجها من ابن ذلك المجرم.
لكن الحب تغلب على ولائها لأبيها وأمها، فهربت الفتاة إلى ذلك الفتى فخسرت أباها من ناحية، ومن ناحية أخرى لم تستطع الفوز بحبيبها بسبب ظلم أبيه، فصارت عالقة لا تستطيع العودة إلى أسرتها ولا تستطيع الفوز بأليوشا.
يسعى إيفان لإنقاذها من هذه الورطة لأنه يحبها حبًا نبيلًا خاليًا من الأنانية، كما أنه يشعر بمأساة والديها اللذيْن تركتهما وهربت فضاعفت من جراحهما.لا بد أن القارئ سيتعجب من افتتان ناتاشا العاقلة الطاهرة بشاب شديد التفاهة والهوائية والتقلب مثل أليوشا، الذي لا يستطيع أن يفي لها بوعد ولا أن يحميها من جبروت وظلم أبيه، ولا أن يصمد أمام شهوة أو إغراء، شاب لا يستطيع أن يكون رجلًا.
لقد أراد دوستويفسكي أن يعبر عن طغيان الحب وكيف أنه لا يخضع لمنطق، ما جعل ناتاشا الجميلة العاقلة تغرم بشاب مثل أليوشا بكل تفاهته وترفض إيفان بكل عمقه وثقافته.
تستمر الأحداث في الرواية التي تتلاحم فيها الفلسفة بالمشاعر بالنقد الاجتماعي في انسجام وتمكن أدبي نادر المثال، هذه الجدية المتناهية من الكاتب في مناقشة قضايا الإنسان والمجتمع مع الموهبة الخيالية وخصوبة الخيال والإبحار الممتع الرائع غير المسبوق في المشاعر الإنسانية، هو الذي جعل كتابات دوستويفسكي باقية، وجعل الإقبال عليها متجددًا لا يتناقص بمرور الزمان، كأنها من الذهب الذي يزداد قيمة كلما مرت عليه الأيام والأعوام والقرون.
لا تشذ “مذلون مهانون” عن تلك القاعدة، فهي من أعمال دوستويفسكي الشهيرة التي حققت انتشارًا واسعًا في العالم كله، ورغم أنها ظهرت لأول مرة في منتصف القرن التاسع عشر، فإنها ما زالت من أمهات الأعمال الأدبية، وما زالت تطبع وما زال الناس في كل مكان في العالم مقبلين على قراءتها، وما زالت من الكتب الأكثر مبيعًا في روسيا وخارجها.
الحقيقة أن اسم الرواية “مذلون مهانون”، ليس مجرد تعبير عن مأساة شخصيات داخل الرواية وحسب، بل هم في الواقع مجرد أمثلة لكل المذلين والمهانين. كلمة مذلون مهانون هي في الحقيقة تعبير عن المجتمع بأكمله، بل وأكثر من ذلك، عن الحياة الإنسانية بما فيها من ظلم الإنسان للإنسان، وهي صرخة من أجل إصلاح ميزان الحياة لكي يحقق العدالة والرحمة للجميع.
ذات مرة تأملت ملاحظة عابرة سمعتها عن أدب دوستويفسكي؛ أن أبطاله غير طبيعيين أو غير أسوياء، الحقيقة أن سبب ذلك الإحساس أن دوستويفسكي يتعامل مع الإنسان الذي بداخل الإنسان وليس الإنسان الذي نراه، لقد اعتدنا أن نرى الناس على الطريق مجرد ناس على الطريق، لا تنم مظاهرهم عما بداخلهم ولهذا يبدون عاديين، فلا مشكلات ولا صراعات.
أما دوستويفسكي فهو يتعامل مع الحزن والقلق والحيرة التي في أعماق الإنسان، فيصور الصراعات النفسية التي تعصف به ولا يشعر بها غيره، وهكذا نرى الناس في أعماله منكشفة الخبايا ظاهرة التناقضات واضحة الصراعات، وهذا هو الفرق، وهذا ما يجعل شخصياته الروائية تبدو مليئة بالاضطراب أكثر مما يبدو عليه الناس الذين في حياتنا.
كلما قرأت لدوستويفسكي رواية أجدني أشرد عن الرواية إلى دوستويفسكي نفسه، وذلك من شدة تعجبي من موهبته الروائية الكاسحة وأسلوبه الطاغي وذكائه النادر، وأتساءل كيف استطاع كاتب أن يصل إلى هذا المستوى الذي لم يتفوق فقط في زمانه بل وفي زماننا، وهذا من عجائب موهبته.
قد يكمن بعض الجواب عن هذا السؤال في نشأته المتميزة، لقد نشأ دوستويفسكي في أسرة تعشق العلم والأدب، لم يكن ينام كل ليلة قبل أن تحكي له أمه حكاية أو تقرأ له قصة، وفي سن الطفولة المبكرة عرّفه أبوه وأمه بأعمال أشهر الكتاب الروس مثل شيلر وبوشكين ووالتر سكوت، كل هذا جعل الأدب شغله الشاغل في سن مبكرة، وفي تلك السن بدأ يمسك بالقلم ليكتب.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.