مداخل لفهم تهافت كل من الجنرال البرهان و دكتور حمدوك .. و عتمات نص الإتفاق بينهما.
ابوبكر عبدالله ادم
جاء الإتفاق السياسي الذي وقَّعه بالأمس رئيس الوزراء السابق للفترة الإنتقالية مع منفذ إنقلاب 25 أكتوبر 2021 مفاجئاً للبعض و مخيِّباً لآمال العديد من مكوِّنات الحركة الجماهيرية الثائرة.
الإتفاق هو في نهاية التحليل رضوخ تام لإرادة الإنقلابين وخيانة فجة لقوى الحرية والتغيير التي أتت بدكتور حمدوك كما هو في نفس الوقت ضربة و طعنة كبرى في ظهور غالبية الثوار الذين وثقوا فيه و إختاروه رمزاً ثورياً لهم ضد حكومة الإنقلابيين.
كشفت السطور الأولى للإتفاق الثنائي بوضوح طبيعة الإتفاق الإنقلابية و من ثم بدأت نصوص الإتفاق بعبارات تبريرية لما تمَّ إتخاذه من ” إجراءات و قرارات من قِبل القائد العام للقوات المسلحة بتاريخ الخامس والعشرين من أكتوبر 2021″ بإعتبار أنَّ ما حدث كان “نتيجة للصراعات التي حدثت بين القوى السياسية التي أصبحت مهددةً لوحدة و أمن و إستقرار البلاد”. إذن “إجراءات وقرارات القائد العام للقوات المسلحة ” ليست بمثابة الإنقلاب على الشرعية الدستورية المتوافق عليها بين قوى الحرية و التغيير والمجلس العسكري الإنتقالي و أطراف إتفاق جوبا للسلام بل هي وفق مبررات هذا الإتفاق في مستهله؛ جاءت “إستشعاراً للمخاطر المحدقة بالبلاد و المهددة للفترة الإنتقالية”.
إنَّ إجراءات القائد العام للقوات المسلحة هي تقويض للوثيقة الدستورية والترتيبات الأمنية للمرحلة الإنتقالية, حيث قام القائد العام في بيانه الأول بإلغاء مجلسي السيادة و الوزراء (بإلغاء المواد: 16,15,12,11 من الوثيقة الدستورية) فضلاً عن التملص من الشراكة التي تأسست عليها المرحلة الإنتقالية بإلغاء المادة 71, بل إنها العودة لمرحلة المجلس العسكري الإنتقالي عندما تمَّ إلغاء المادة 72 من الوثيقة الدستورية التي تنص على أن “يحل المجلس العسكري الإنتقالي بأداء القسم الدستوري من قبل أعضاء مجلس السيادة”.
هذه الإجراءات الأحادية تبعتها ممارسات أخرى متمثلة في عملية خرق صريحة لمواد الفصل الرابع المتعلق بوثيقة الحقوق و الحريات (من المواد 42 إلى المادة 67) بإعتقال أعضاء في الحكومة الإنتقالية ومجلس السيادة و قيادات سياسية و هناك روايات متداولة بين مصادرة متعددة عن تعذيب الإنقلابيين للبعض منهم و في ذلك إنتقاص صريح للحقوق والحريات المنصوص عليها في الوثيقة زد إلى ذلك قتل عشرات المتظاهرين السلميين بدم بارد.
إذا لم تكن هذه الإجراءات العسكرية الأحادية إنقلاباً عسكرياً و تأسيساً لدكتاتورية عسكرية جديدة فكيف ستكون الإنقلابات إذن ؟.
الإتفاق السياسي بين الطرفين كان كارثياً بكل المقاييس لأنه لم يعترف بأن ما حدث في يوم الخامس والعشرين من أكتوبر كان إنقلاباً عسكرياً بل لقد كتب الإنقلابيون في الخمسة وعشرين سطرا في مستهله تبريرات عديدة لخداع الحركة الجماهيرية الصاحية بأن ما قامت به قيادة المؤسسات العسكرية و الأمنية كانت إجراءات دستورية مشروعة.
بل الأدهى من كل ما سبق, أن الإتفاق السياسي جاء “تأسيساً علي قرارات القائد العام للقوات المسلحة” من أجل ” الخروج من الأزمة السياسية الحالية” ! .
أما مضامين الإتفاق الأربعة عشر ماهي إلا مداميك إضافية لبناء شرعية لإنقلاب القائد العام للقوات المسلحة بمساعدة رئيس الوزراء السابق للفترة الإنتقالية.
تمَّ التأكيد في الفقرة الأولى من الإتفاق الثنائي المعزول جماهيرياً على أن الوثيقة الدستورية لسنة 2019م تعديل 2020م هي المرجعية الأساسية القائمة لإستكمال المرحلة الإنتقالية (…)).
عليه نتساءل عن أي وثيقة دستورية يتحدث عنها هذا الإتفاق بعد إلغاء أهم مواده المتعلِّقة بهياكل السلطة ومؤسساتها التنفيذية والسيادية؟ أي وثيقة بقت بعد إنتهاك 25 مادة من مواد الفصل الرابع و وضع الدستوريين وفق نصوصا في السجون لمدة 25 يوما حتي الآن دون إتباع مواد وثيقة الحقوق و الحريات المضمنة فيها.
الفقرة الثانية من الإتفاق تتحدث عن ” ضرورة تعديل الوثيقة الدستورية بالتوافق (…..)) و لكن يبقى السؤال: التوافق مع مَنْ بعد إلغاء الشراكة في البيان الأول للإنقلاب بإلغاء المادة 71 من الوثيقة الدستورية?.
هل هو توافق بين الفريق أول ركن البرهان و الدكتور حمدوك الذي يبدو بأنَّه أصبح ركناً ثانياً للإنقلاب في مرحلته الراهنة? أم هو توافق بين كل الإنقلابيين, الظاهرين منهم و المستترين حتي الآن؟
في الفقرة الثالثة “يؤكد الطرفان أن الشراكة الإنتقالية القائمة بين المدنيين و العسكريين هي الضامن والسبيل الوحيد لإستقرار السودان (….). الطرفان هما الجنرال البرهان والدكتور حمدوك.
إذا كان الطرف الأول في الإتفاقية يمثِّل الإنقلابيين من العسكريين الذين أعطوا البرهان حق تمثيل العسكريين. أما الطرف الثاني فهو دكتور حمدوك الذي تمَّ إختياره من قِبل تحالف قوى الحرية والتغيير, ذلك التحالف الذي كان ممثلاً لإرادة الشعب آنذاك, ليكون رئيسا لوزراء الثورة. بناءً على ما سبق لا يملك دكتور حمدوك تمثيل المدنيين إلا عبر قوي الحرية والتغيير التي أتت به.
بغض النظر عن طبيعة و دلالات التحولات السياسية الكبرى التي حدثت بعد إنقلاب البرهان, لا يمتلك الدكتور حمدوك تمثيل الشارع في هذا الإتفاق بمعزل عن قوى الحرية والتغيير التي تقبع قياداتها في سجون الإنقلابي البرهان و زمرته الإنقلابية من مدنيين و عسكريين و عدد كبير من قيادات قوى الكفاح المسلح الموقِّعة على إتفاقيات سلام جوبا الأولى.
الفقرة الرابعة تتحدث عن الدور الإشرافي لمجلس السيادة غير المحدد الهوية بعد إلغاء المواد 11 و 12 من الوثيقة الدستورية.
في حين أن الفقرة الخامسة من الإتفاق تؤكد “ضمان إنتقال السلطة الإنتقالية في موعدها المحدد لحكومة إنتقالية منتخبة” . وهي فقرة لا معني لها لأن العودة للوثيقة الدستورية تعني الإلتزام بكل نصوصها بما فيها النصوص المتعلقة بالمرحلة الإنتقالية.
في الفقرة السادسة من الإتفاق تمَّ الإعلان صراحة عن حاضنته الإجتماعية ونقضت هذه الفقرة كل الفقرات الخمسة السابقة لها.
نصت هذه الفقرة على أن تكون ” إدارة الفترة الإنتقالية بموجب إعلان سياسي يحدد إطار الشراكة بين القوى الوطنية (السياسية والمدنية) والمكوِّن العسكري والإدارة الأهلية ولجان المقاومة وقوى الثورة الحيِّة وقطاعات الشباب والمرأة و رجالات الطرق الصوفية” . بإستثناء لجان المقاومة وقوى الثورة الحيِّة التي لم تتم إستشارتها حول هذا الإتفاق بل تمِّ تضمينها في هذه الفقرة إقحاما, تكشف هذه الفقرة طبيعة القوى التي سوف يعتمد عليها الجنرال و الدكتور حمدوك وبقية الإنقلابيين في حشد الدعم لإنقلابهم تدعيما للمسعى الذي عمل لها طويلا وكشف عنها مرارا الإنقلابي قائد الدعم السريع حميدتي.
نصت الفقرة السابعة بإستحياء علي “إطلاق سراح جميع المعتقلين” دون الإشارة لعدم قانونية ودستورية إعتقالهم و إدانة هذه “الإجراءات” غير القانونية وغير الدستورية. اما الفقرة التالية لها والمتعلقة ب” تنفيذ اتفاق سلام جوبا واستكمال الاستحقاق الناشئة بموجبه والحاق غير الموقعين علي اتفاق السلام ” فهي زائدة لا معني لها اذا ما سلمنا بما جاء في الفقرة الاولي من الاتفاق حول اتفاق جوبا.
الفقرة التاسعة تعيد تأكيد ما قاله رئيس الانقلاب حول اكمال مؤسسات الفترة الانتقالية من مجلس تشريعي ومحكمة دستورية والمؤسسات العدلية والمفوضيات. وهي استحقاقات دستورية تم تغييبها في سلسلة إجراءات تعويق الانتقال الدستوري تمهيدا للانقلاب. اما الفقرة العاشرة هي أيضا كلام عام ومكرر حول المؤتمر الدستوري.
تتحدث الفقرة الحادي عشر عن ” ضرورة إعادة هيكلة لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو مع مراجعة أدائها في الفترة السابقة, مع رفدها بالكوادر المؤهلة في التخصصات والخبرات الازمة التي تمكنها من أداء عملها بصورة ناجزة وعادلة مع تفعيل لجنة الاستئنافات ومراجعة قراراتها وفقا لدرجات التقاضي المقررة قانونا”. هذه فقرة مبهمة ومضللة, ليس فقط لان الرئيس المناوب وأعضاء هذه اللجنة هم حاليا في السجون وربما تعرض البعض منهم للتعذيب ولكن أيضا لما بها من تغبيش حول المعوقات التي حالت دون أداء مهامها وأسباب عدم تفعيل لجنة الاستئناف. ان الطبيعة الكلبتوقراطية للجنة الأمنية التي هيمنت علي المجال السياسي منذ إزالة نظام البشير وخوفها المرضي من قرارات لجنة إزالة التمكين هي واحدة من دوافع الانقلاب البرهاني وبالتالي ان هذه الفقرة ماهي الا تأكيد علي الغاء لجنة التمكين بقياداته الثورية المعروفة ومحاولة لتشويه التجرية بتعيين انقلابيين لإلغاء قراراتها الثورية والحفاظ علي مصالح الكلبتوقراطيين وشركائهم.
الفقرة الثاني عشر تتحدث عن ” التحقيق في الاحداث التي جرت اثناء التظاهرات من إصابات ووفيات للمدنيين والعسكريين وتقديم الجناة للمحاكمة”. هذه فقرة اخري مضللة ومفخخة جدا. أولا هناك إساءة لطبيعة التظاهرات وسلميتها حيث لم يفقد أي عسكري حياته أثناء التظاهرات حتي اذا سلمنا باحتمال تعرض البعض منهم للإصابات. وعليه كان من المفترض ان تصاغ هذه الفقرة علي النحو التالي : ” التحقيق في الاحداث التي جرت اثناء التظاهرات من إصابات لمدنيين عسكريين ووفيات لعشرات المدنيين وتقديم الجناة للمحاكمة”. ثانيا لم يحدد الاتفاق الخيانة طبيعة التحقيق: هل هو تحقيق من لجنة وطنية, دولية, مختلطة ام هو تحقيق وفق الإجراءات الجنائية العادية؟
الفقرة الثالث عشر هو تأكيد لما جاء في الوثيقة الدستورية واتفاق جوبا حول ” بناء جيش موحد” بخجل واقتضاب. وهي فقرة جاءت استجابة للضغط الدولي حول تكوين جيش موحد تحت إدارة مدنية كما عبر عنه قانون التحول الديمقراطي والمحاسبة والشفافية الأمريكي بتفصيل ووضوح اكبر.
في تقديري ان الاتفاق ما هو الا شرعنهlegitimatisation لانقلاب البرهان, وقراءة البيان وما بين السطوري تدعم شكوك البعض بان دكتور حمدوك كان ركنا في العملية الانقلابية منذ بداياتها الاولي .