متحدثي الشيوعي والاتفاق الإطاري، بين الترتيبات الامنية وتسويق الغلط ـ 2-3

بروفيسور. خالد كودي

 

في المقال السابق أوضحنا أن الجيش السوداني وعبر تاريخه كان اليد الباطشة التي عبرت عن سلطة النخب النيلية التي حكمت السودان وسيطرت على السلطة والثروة منذ الاستقلال. في هذا المقال نواصل تسليط الضوء على الخلل البنيوي في تركيبة الجيش السوداني كحارس لمصالح هذه النخب، وهو المؤسسة الأمنية (القومية) الأولى في البلاد. لا يمكن تجاهل او نكران دور الجيش في إقعاد السودان عن التقدم منذ الاستقلال مستصحبين ما ارتكب من جرائم فادحة ومضطردة في حق الانسان السوداني والإنسان في الهامش على وجه الخصوص.

أي حديث عن تغيير جذري في القطاع الأمني في السودان يجب أن يبدأ باختبار بنية الجيش السوداني. والحديث عن ترتيبات أمنية شاملة لابد وأن تبدأ بتغيير جذري في بنية المؤسسة العسكرية، تغيير بحجم دورها في إقعاد البلاد عن أي ازدهار. وهنا نشير الي أن المؤسسات الأمنية الأخرى لا تختلف في تركيبتها عن تركيبة القوات المسلحة السودانية الا ان الاخير هو صاحب السوابق الإجرامية الافدح تجاه الشعوب السودانية، وهو ثاني المسؤولين بعد الحكام عن قطع الطريق أمام بناء وطن حديث وديمقراطي واستقرار مؤسس على دستور يعبر عن كل السودانيين ومواكب للقوانين الدولية. خرج المستعمر، سلم السلطة والثروة إلى من اعداهم من النخب الذين تعاونوا معه، هذه النخب بدورها حافظت على البنية العنصرية لكل المؤسسات السيادية وما دونها، وحافظت على بنية الجيش السوداني التي اعتمدت على تراتبية اثنية موصدة بالضبة والمفتاح ولم تسمح باختراقها إلى يومنا هذا. فضباط الجيش السوداني يتم اختيارهم حكرا على اثنيات النخب النيلية بينما معظم الجنود ينحدرون من الهامش وقليلا من شرائح المجتمعات الفقيرة، وان كانت هنالك حالات من التمثيل الترميزي وسط الضباط إلا أنها دون وزن يذكر. ولكن كيف تأسس هذا الوضع؟

يقول الراحل الدكتور خالد الكد:

(كاذب من قال في ذلك الوقت انه دخل الكلية الحربية لكفاءته فقط، (الواسطة) كانت اهم شئ، فالاختيار للكلية منذ الاستقلال وخروج الانجليز كان انتقاء لعوامل قبلية وحزبية وطائفية واجتماعية، وقد كانت واسطتي في اللجنة الاولى، عمر الحاج موسي وتداخلت فيها عدة اسباب قبلية (ركابية) وحزبية (اتحادية) وقد كان يتتلمذ على الابروفيين والاتحاديين الاوائل .. وفي اللجنة الثانية كان واسطتي عوض عبد الرحمن صغير، وتلك علاقة اجتماعية ام درمانية، (..) امّا أحمد الشريف الحبيب فقد كان يتابع ويتأكد من مروري في كل اللجان حتى اوصلني لجنة نائب القائد الذي كان حسن بشير، وضرب أحمد الشريف الى ابي مساء بعد آخر لجنة قبل لجنة حسن بشير وقال له:ــ (أها انا وصلتو لي سرّكم، لحد لجنتو وبعد دا انا عملت العلي).

كان العدد المطلوب 60 والذين وصلوا حتى لجنة نائب القائد (حسن بشير) كانوا واحدا وستين وما كان له ان يبعدني، بل ابعد مصطفي الياس دفع الله. كان هو وشقيقه صلاح الياس قد مرا من كل المعاينات حتى لجنة حسن بشير، فنفض حسن بشير أحدهما وهو مصطفي وقبل صلاح الذي صار طيارا واصيب في السبعينات في مناورة الفاشر)

صفحة من سجل سلاح الطيران السوداني، وهو أحد وحدات الجيش ذات النفوذ. كل فئات الضباط في هذه الوحدة – تقريبا – ومنذ تأسيسها في 1956 تحتكرها اثنيات بعينها. من انجازات سلاح طيران الجيش السوداني الذي يمتلك 514 طائرة مختلفة، و13.000 فرد في الخدمة بناء على الإحصاءات المتاحة، من انجازاته ان وثقت المنظمات الحقوقية العالمية والإقليمية والمحلية، والمفوضية السامية اللاجئين وغيرها من مراصد حقوق الإنسان في تقارير متعددة: أن الطائرات التابعة لسلاح الطيران السوداني قصفت المدنيين بانتظام في اقليم جبال النوبة/ جنوب كردفان وقد استهدف القصف التجمعات السكانية والمنشآت المدنية بما في ذلك عدد من المدارس والمستشفيات والمنشآت المدنية والمنازل ومضخات المياه، والمزارع، وحظائر المواشي. ووثقت هذه المنظمات أن سلاح الطيران السوداني ظل يلاحق النازحين المدنيين بجبال النوبة والنيل الأزرق حتى بعد نزوحهم من قراهم الي قري جديدة بعيدة عن القصف العشوائي المدفعي. وتقول التقارير إن الطائرات تقصف القرى الجديدة المكتظة بالنازحين عن عمد. وقد قصف سلاح الطيران السوداني مقاطعات امدورين، ودلامي، وهيبان مرات متعددة، وقصف كاودا، وكلوقي، وكركيكا، واندونا، وتنقولي وغيرها من المدن والقري عشرات المرات، وفصلت التقارير في تاريخ القصف، ونوع الطائرات من انتنوف الي سيخوي او ميج او مروحيات، كما فصلت في انواع القذائف من تقليدية إلى عنقودية او البراميل المتفجرة التي لايمكن التحكم فيها ! وايضا وثقت هذه التقارير أسماء الضحايا، نوعهم وعددهم ومكان استشهادهم و بدقة، والأرقام صادمة. اما ان كان هناك من يبرر لقصف المدنيين في الهامش بحجة مايسمونه بالتمرد، وهنالك من حمل السلاح في هذه المناطق، فها هو الصوارمي خالد سعد المتحدث السابق باسم الجيش السوداني يعلن عن تكوين ماسماه ب”كيان الوطن” في قلب الخرطوم، ويقول علي شاشات الفضائيات بامتلاكه السلاح وانه يمثل “اقاليم بعينها” لم نسمع بقصف مواقع قواته ولا برمي البراميل المتفجرة على المدنيين في المدن والقري التي يدعي تمثيلها انتقاما منه ومن (اهله) ! ويجدر بالذكر هنا أن عدد من مليشيات الدفاع الشعبي وغيرها يعلنون انشاءهم للتنظيمات المسلحة في مناطق سيطرة الحكومة تحت سمع وبصر وتواطؤ عناصر من الجيش والقوات الأمنية الأخرى مثل شيبه ضرار في شرق السودان، و ابوعاقله كيكه في البطانه وغيرهم.

الجيش السوداني لم يعرف في تاريخه الالتزام بالاتفاقيات الدولية لحقوق الانسان خصوصاً معاهدات جنيف 1949 والاتفاقيات الملحقة لها، فكيف يمكن أن نقول على جيش بسجل مثل هذا أنه على أي درجة من (السماحة؟) ونتجاوز إلى حقبة أخرى دون اختبار ما جرى وتبني إجراءات توازي حجم هكذا تجاوزات، وتجريد من ارتكبها من القدرة والسند على تكرارها؟! والمقصود السند المعنوي و القدرة المادية، التدريب والعقيدة القتالية والاعداد القانوني والأخلاقي…. وقس على سلاح الطيران وضعية و وتاريخ وممارسات كل وحدات الجيش السوداني الأخرى… وحتى توجد تسجيلات بين الطيارين وقادتهم على الأرض يأمرون الطيارين بقصف وحرق كل ما يتحرك غض النظر ان كانوا مدنيين او عسكريين، مسلحين او غير، رجال او نساء او اطفال او شيوخ !

النخب المتواطئة استراتيجيا مع الجيش، لأسباب مختلفة وبدرجات مختلفة، تحاول نكران وتسويف المسؤولية الأخلاقية والتاريخية للدولة السودانية ومؤسساتها ومن سيطر عليها منذ الاستقلال تجاه فشلها القاتل. وتحاول نفس النخب تسويف وإنكار من سيطر على الجيش تحديدا، الجيش الذي ارتكب جرائم الابادة وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية استجابة لأوامر عرابي الأيديولوجية الاسلاموعروبية. النخب الفاعلة في الساحة السياسية اليوم بما فيها الحزب الشيوعي السوداني وحزب المؤتمر السوداني الذين تحدثوا عن برامجهم للخروج من الأزمة السودانية في ندوة الرتينة موضوع نقاشنا، وعرضوا رؤاهم لقضية الترتيبات / والإصلاحات الامنية، وماذا يكون من امر القوات المسلحة السودانية والمليشيات التابعة لها كالدعم السريع. كلاهما لم يطرح ما يرتقي لتحمل المسؤولية الاخلاقية والتاريخية ويعرف ويعترف بان سودان اليوم كمجتمع يعاني من صدمة تراما سببتها جرائم الحرب وجرائم الابادة الجماعية التي نفذها الجيش السوداني – جيش النخب والمليشيا التي عملت تحت امرته، وكلاهما لايعي ان شرط الخروج من هذه الازمة يتطلب تعريفها والاقرار بها ومن ثم مواجهتها لتغييرها وببرامج ثورية وجذرية وليس إصلاحية ولا اعتذارية.

ما تطرحه احزاب النخب اليوم من رؤى عبر الاتفاق الاطاري مدعومين باليناتيمس، وما يسميه الحزب الشيوعي ببرنامج التغيير الجذري مصممة وبفقر وحياء لتحتال على تجاوزات النظام في مناطق سيطرة الحكومة، وهي تجاوزات لا شك في انها كبيرة، وقد طالت ادارة مؤسسات الدولة بالفساد وصادرت الحريات الأساسية، وسجنت وعذبت وقتلت وارتكبت مذابح مثل مذبحة اعتصام القيادة، وقتل الشباب مجندي الخدمة الالزامية في العيلفون، وقتلت والمحتجين السلميين في كجبار.. الخ، ولكنها لم تعرف وتعترف صراحة بطبيعة التجاوزات التي ظلت ترتكبها الانظمة المتعاقبة المدنية والعسكرية في مناطق الهامش، والتي تجلت في عهد الانقاذ لتصل في درجتها إلى الإبادة وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والتي وفقا للقانون الدولي، تعني: (ارتكاب أي عمل من الأعمال الآتية بقصد الإبادة الكلية أو الجزئية، لجماعة ما على أساس القومية أو العرق أو الجنس أو الدين، مثل:

(أ) قتل أعضاء الجماعة.

(ب) إلحاق الأذى الجسدي أو النفسي الخطير بأعضاء الجماعة.

(ج) إلحاق الأضرار بالأوضاع المعيشية للجماعة بشكل متعمد بهدف التدمير الفعلي للجماعة كليًا أو جزئيًا.

(د) فرض إجراءات تهدف إلى منع المواليد داخل الجماعة.

(هـ) نقل الأطفال بالإكراه من جماعة إلى أخرى.

جرائم النظام السابق ليست متساوية، وشعوب السودان لم تطالها الجرائم نفسها كما وكيفا. ولإحداث تغيير جذري لابد من الاعتراف بأن الدولة السودانية منذ الاستقلال ظلت منحازة المؤسسات، وعبر سياساتها الرسمية التعليمية والاعلامية، ظلت تحرض بعض المواطنين السودانيين ضد البعض الآخر واستطاعت (غسل عقول) بعض المجتمعات بانها اعلى انسانية من البعض الآخر بناء على اثنيتهم ودينهم وجهتهم، وما عداهم بني ادميين اقل ولا روح لهم. فدولة السودانية- كشخصية اعتبارية، مسؤولة عن الايديولوجية والسياسات التي أدت إلى ارتكاب الجرائم الكبرى بعد تبييت النية وإعداد تنظيمي على قرار الفاشية التي طالت كل قطاعات المجتمع بما فيها الشباب، وتم التنفيذ ببرامج مثل اشتراط الحصول على وظيفة في الدولة، أو ربط نيل الشهادة الثانوية والتخرج من الجامعات بأداء الخدمة الوطنية الالزامية او الالتحاق بالدفاع الشعبي ويعني هذا الاشتراك في تنفيذ الجرائم الكبرى فيما أسموه (بالجهاد في مناطق المتمردين)! ولقد تم تجييش المدنيين و الشباب في السودان ابان حكم الاسلاميين اسوا بتجييش هتلر للمجتمع الألماني و للشباب فيما سمي ب (شباب هتلر)، وحتى اليوم، لم تطرح احزاب النخب برامج ثورية لإعادة تأهيل الضحايا الذين اغر بهم و(غسلت عقولهم) في مناطق سيطرة الحكومة فتعاونوا مع الفاشي وانخرطوا في مؤسساته، وقد لعب الجيش دور الأب الروحي في تنفيذ هذه السياسات.

دراسات “الجناسايد” تعلمنا أن الاقتناع بتجريد الآخر من انسانيته عبر البرامج والخطط العنصرية هي أولى مراحل القبول بالاشتراك في تنفيذ الجريمة الفادحة، أو التواطؤ مع من ينفذها او الصمت عليها او لاحقا نكرانها كما حدث ولازال يحدث الآن. احتيال كلا من مدعي التغيير الجذري عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني والمتحدث باسم الاتفاق الإطاري على الواقع ليس سوى استمرار لدعم النخب وتواطؤها مع بنية دولة ما بعد الاستعمار التي وظفت إمكانات الدولة وعلى رأسها الجيش لتمرير الايديولوجية التي أدت إلى واقع السودان اليوم، وهذا عبر الحكومات الديمقراطية والدكتاتورية، وعبر من هم في السلطة والمعارضين على حد سواء. فنظام الانقاذ الذي جيش المواطنين العاملين في أجهزة الدولة في مناطق سيطرته وبطرق ودرجات مختلفة وجيش الإسلامي والذي ادي الي مانحن فيه الان من كوارث، فنظام الانقاذ ليس سوي تجلي لأيديولوجية تمتد جذورها إلى بنية دولة ما بعد الاستعمار. فكيف لثورة أن تقفز على هكذا تاريخ؟

النخب التي سرقت ثورة الشعب السوداني تسعى لإظهار الدمار المادي والنفسي في مناطق الحروب مثله مثل التجاوزات في مناطق سيطرة الحكومة وهذا تزوير غير مسؤول. بالمساواة بين المجرم ومن قاومه لا تستقيم، وهي ما قاد المتحدثين في هذه الندوة إلى عدم تحميل الجيش الذي نفذ ما هندس له وارتكب الجرائم الفادحة اي مسؤولية ولم يقروا بان الاولوية لأي إصلاحات أمنية في السودان يجب أن تبدأ بالجيش وما بني من مليشيات وما ارتكب من جرائم. كلا الاطراف تتحدث عن إخراج الجيش من العملية السياسية، وعودته للثكنات واجراء الاصلاحات التي سيشارك فيها، وهذا لن يفيد!

الموقف الصحيح هو الإقرار والاعتراف والذي يجب أن يتضمن السرد التاريخي الأمين للخلل في بنية جيش مناطق سيطرة الحكومة، وما ارتكب من جرائم وطبيعتها وتسمية المسؤولين عنها وإنفاذ إجراءات عقابية احترازية، والإقرار يترتب عليه بناء برنامج للتغيير الجذري، يستوعب أن واقع جرائم الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية دمر الروابط الاجتماعية ، وقضى على الثقة المتبادلة ، وحطم التماسك الاجتماعي ونكران هذا الواقع لن يفعل سوى تأجيل انفجار تداعيات هذه جرائم.

فقبل أن يتناول مدعي التغيير الجذري، عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي طارق عبد المجيد الجيش الشعبي الذي يجهل ببنيته الثورية بالاقتراحات الصلفة و المتطاولة، عليه إدراك أن الجيش الشعبي يمثل ثورة هدفها تغيير جذري في بنية الدولة السودانية برمتها، وليس إصلاح ما تم في سنوات الانقاذ او بعد انقلاب ال25 من مايو وحسب. فتصورات قبول واعتماد ان الجيش السوداني هو المؤسسة التي يقاس عليها الجيش الشعبي الذي تصدي لجرائمه وقاومه وما استصحب من مليشيات تصورات متواطئة او منحازة للجيش السوداني وما فرخ من مليشيات وما يمثلوا.
نواصل.
بروفيسور، خالد كودي
بوسطن 28/فبراير 2023

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.