ما بين أركماني وأحمد زكريا وذاكرة ديودورس و اتصال التاريخ ..

 

ستبقى السيرة ما بقي النضال..

لا أظن أنني قد قابلتُ رجلًا ثوريًا مخلصًا لوطنه ومتقنًا لعمله ومنتميًا لمشروعه مثل أحمد زكريا، زكريا الذي اشتهر بين الناس بأركماني Arkamani – نسبةً لحبه للملك النوبي أركماني الذي حكم في القرن الثالث قبل الميلاد لمدة عشر سنوات، عمل خلالها على فك الهيمنة المصرية على الحضارة السودانية وحررها وأعاد إحياء اللغة النوبية مثل كتابة الأحرف والرموز النوبية المروية، كما عمل على نشر عبادة أباداماك المعبود النوبي القديم بدلًا من المعبود المصري آمون. وأظن أن استدعاء اسم الملك (أركماني) وتسمية أحمد زكريا به لم يكن خبط عشواء، بل لأن أحمد كان مؤمنًا حد اليقين بمشروع السودان الجديد الذي أفنى فيه كل حياته حربًا وسلمًا. بل كان أحمد زكريا، ورغم انخراطه في الكفاح المسلح، يؤمن إيمانًا قاطعًا بأن ليس هناك أي حل للمشكلة السودانية إلا عبر الدولة المدنية. لم تكن هذه شعارات بل كانت حقائق ملموسة، فالدكتور أحمد زكريا كان داعمًا رئيسيًا لكل حراكات الأطباء من قلب المناطق المحررة، مثل إضراب 2016 الشهير، وحينما اشتدت القبضة الأمنية بعد استشهاد د. بابكر عبد الحميد سلامة، أرسل د. أحمد رسالة مؤثرة من قلب مستشفى كاودا كانت بردًا وسلامًا ودعمًا للإضراب.لم يكن اسم Arkamani الذي أطلق على أحمد زكريا من فراغ، فقد ذكر المؤرخ ديودورس أن الملك أركماني قد حارب برجاله كل الكهنوت المتسلطين وأنشأ دولةً عظيمة قوامها العلم، وصفها المؤرخون بأنها أقرب للدولة الحديثة، وهي ذات الدولة التي عمل لأجلها أحمد ورفاقه.وعلى الرغم من أن أحمد زكريا إسماعيل ينحدر من جبال النوبة، لم يكن الرجل أسيرًا لمنطقته بل كان منحازًا للسودان الوطن الواحد. وأعتقد أن تنقل أحمد بسبب طبيعة عمل والده كان له أثر بالغ في تشكيل وعي الرجل، فقد درس الأساس بمدينة بارا، والمتوسطة ببارا والنهود، ثم الثانوي بمدينة عطبرة ثم الخرطوم القديمة ومدرسة الأميرية بالنهود، ثم التحق بكلية الطب جامعة كردفان. هذه الرحلة الطويلة ساهمت في تشكيل وجدان أحمد، فقد اكتسب أحمد ثقافة الاتصال والتواصل مع الآخرين، حتى أن أحمد في أواخر سنواته في الجامعة وعلى الرغم من انتمائه للحركة، كان ابن الجميع، حاضرًا في كل أنشطة الروابط الإقليمية بخطاباته التي تهز الوجدان وتحمل الهوية المشتركة للسودانيين، وهذا ما أهله ليكون رئيسًا لاتحاد طلاب جامعة كردفان بإجماع كل الناس.عاش أحمد زكريا حياته متواضعًا بين الطلاب، فأذكر أننا كنا بصدد تدشين معرض لصالح الجمعية الطبية الطلابية KOMSA عن جرائم التطهير العرقي، فطلبت منه بعض النصائح فقال لي “أحسن يكون جرائم النظام (الإسلاموي في حق السودانيين)”، فقد أهدانا حينها 10 بوسترات، 8 منها عن جرائم كجبار ومعاناة شعب البجا ودارفور وصورة الشهيد علي فضل، وصورتين فقط من جرائم القصف بالطيران في جبال النوبة. فقد كان أحمد سودانيًا محبًا لهذه البلاد من نملي لحلفا.لم يكن أحمد سياسيًا فقط خلال فترة دراسته، فقد امتلك أحمد أو (سكسك) كما يلقبه بعض أصدقائه المقربين، موهبة كبيرة في الرسم والتحدث والتخاطب. فقد ذكر لي أحد الأصدقاء أن أحمد زكريا كان رسامًا بارعًا، وقد كنت أحد المحظوظين الذين قرأوا خطاب الدورة والميزانية لدورته التي ترأسها من ضمن أرشيف رابطة الطلاب الاتحاديين، فقد قدم الرجل خطابه باللغتين العربية والإنجليزية، وكان منحازًا لقضايا طلابه يمثلهم ويمثلونه.أحمد زكريا لم يكن سياسيًا فقط، بل كان متميزًا تقابيًا وأكاديميًا، فقد أسس أحمد جمعية علم وظائف الأعضاء التي تهتم بالنقاشات العلمية في وظائف الأعضاء وتقيم المسابقات العلمية، وقد أسس مع آخرين رابطة أبناء جبال النوبة، وكان السكرتير العام لتجمع شباب الحركة الشعبية بجنوب كردفان ومستشار رئيس الحركة بولاية شمال كردفان، وهو متزوج وأب.سيرة أحمد زكريا لم تنقطع من الذاكرة، على الرغم من صعوبة التواصل بسبب ظروف عمله في المناطق المحررة. فقد عمل منذ تخرجه طبيبًا متطوعًا في المناطق المحررة لأكثر من 14 عامًا، وتبوأ منصب سكرتير عام الصحة بحكومة المناطق المحررة. قبل أسابيع قابلتُ أ. عمار أمون، تحدثت معه على عجالة وكان أغلب حديثي معه عن السؤال عن أحمد زكريا، فقد ذكر لي أنه بخير وصحة، يخدم أهله بكف ويحمل مشروع السودان الجديد بكف آخر. لم يسعفني الزمن لألتقي بالرجل، بالرغم من أنه قد جاء قبل شهور لجوبا، ولكن ستبقى سيرته حية وذاكرتنا ثرية بما قدمه.وستبقى مقولته المشهورة في باب اتحاد الطلبة وهو رئيس الاتحاد عندما جاء إليه آلاف الطلاب للخروج في مظاهرة للشارع “موش قلتو كدة، We Should Go”.

رحم الله الرفيق أحمد زكريا والحقه برفاقه الميامن د.موسى حمدان ود.شرنوبي عثمان دقنة ، ود.أيمن بوركنجا وحسن طيارة وكل رفاق الحركة الطلابية.

انا لله وانا اليه راجعون.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.