مائة عام على إشتهاء الموت السلطان عجبنا يفدي ويعرج
✍🏿 د.قاسم نسيم حماد حربة
مدخل :
أنا هنا لا أؤرخ لثورة لبست الخلود إزارا، ولا أسرد قصة شعب خاط المجد دثارا ،فختم بانبلاجها حقبة ، واستقبل بطيها أخرى ، فبطولة السلطان عجبنا لا تحتويها صفحة، ولا يسعها كتاب، ونضال شعبه الذي أدهش التاريخ، واعتقل المجد، عصي على السرد والاحاطة، لكن حسبي أن أنقل صوراً من الملاحم رائعة، ونتفاً من العبرات ذائعة، نحتها شعب ماجد، ونقشها سلطان خالد، على مسلة الدهر، وصفحة الخلود، وكلما خبأتها ذواكرنا ومناهجنا، غازلتها مآسينا ومباهجنا. وببزوغ فجر هذا اليوم تتقضي مائة عام على شنق السلطان وعروج روحه الى آبائه, فتعالوا نحتفل بذكراه. تأملا في مسيرته، واستلهاما لثورته بكل زخم الميثلوجيا الشعبية. اصطفافا لذكرى مئويته
نشبت الحرب هناك بعيداً في السماء، فامتطى (وِجي) Wiji فرسه (مومونا) momuna وحمل أسرته وأنعامه وهبط إلى الأرض عبر ثقوب النجوم، هبط أعلى جبل (أورم) Uwum بمنطقة النتل حيث لا تزال آثار أقدامه وحوافر أنعامه على الصخور بائنة للعيان ، يراها الناس في موسم طقس قتل الثور اكتشف (وِجي) هناك أن الناس يأكلون طعامهم نيئاً ، فأرسل كلبه (فوديل) Foidel إلى السماء ثانية فخطف جذوة من نارٍ خفيةً وطواها بذيله وآب إلى الأرض ، لكن قبل بلوغه الأرض أحس بفعله أهل السماء فغضبوا فأمطروه وابلاً من الصواعق إلا أن مهارته في الروغان تخطتها جميعا حتى بلغ الأرض، ومن ذلك اليوم تعلم الناس طهي الطعام بالنار.
تكاثرت عائلة (وِجي) واختلفوا بينهم حول بقرة مقدسة تُدعى (كارو) فاقتتلوا حتى بلغت دماؤهم الأرض وفنوا جميعا ، إلا أبوهم (وِجي) الذي عرج إلى السماء مرة ثانية، وامرأة حبلى تدعى (أدونية) نجت من المهلكة واستعصمت بكهف.
كان السلطان (مسود) سلطان النيمانج (الأما) في ذلك الوقت، الذي تخلق وخرج آباؤه من جبل النمل الأبيض – كان مقيما أسفل الجبل، فلما رأى الدماء تتدفق من قمة الجبل بعث أبناءه ليستجلوا الأمر، فوجدوا أن القوم قد فنوا جميعاً، إلا تلك المرأة (أدونية) فحملوها إليه، فتكفلها مسود، فلما جاءها المخاض سرى صوت من تحتها: أن أدهني بالزيت على ركبتك ، فلما فعلت انشقت ركبتها عن طفل وضيئٍ كالقمر جاءها من خضم المعاناة تكلم جنينا في بطن أمه وفي المهد وبلغ السعي في أربعة أسابيع فقط اسمته (وُلا) Wula ، ثم استولى (وُلا) على العرش من (بيري) Beri ابن السلطان مسود وولي عهده بعد وفاة مسود بخوارقه التي تملكت الأسرار وخاتم انزال المطر ، وبذا تولى السلطة ولم تزل في نسله من بعده حتى بلغت السلطان عجبنا السلطان الثالث عشر من سلالته سلطان الأما وعراف المطر وقد تناهت الآن عند حفيده السلطان عبد الله بيتر السلطان الحالي.
حافظ النيمانج(الأما) على سلطنتهم وظلوا أحرارا طوال مسيرة حياتهم فاستعصوا على التركية السابقة واستعصوا على المهدية وقاتلوها دفاعا عن حريتهم وطريقتهم في الحياة ، وظلوا كذلك حينما استوى الإنجليز على حكم البلاد سنة 1899 فلم يخضع لهم النيمانج وظلوا في حالة خروج وحرب عليهم حتى فبراير 1918 بعد شنق سلطانهم وانكسار مقاومتهم .
حينما ضاقت مساحات النيمانج(الأما)عليهم وعلى زرعهم وأنعامهم في النتل، تحركت عشائرهم وأفخاذهم سعيا إلى أماكن أرحب ، فخرج زعيم فخذ (كلانق)الكجور (كَوُرْ) حتى بلغ جبل الفوس فوجده يهتز ككأس من جلي فضربه بصوته فاطمأن الجبل ثابتاً فأقاموا فيه، وصار (كَوُرْ) بعد وفاته روحا تكجر في أبنائه بما ملكته من أسرار فهي التي وهبتهم هذا المكان ووطأته لهم .أتى فخذ (فاندي) أيضا لجبل الفوس وكان زعيمهم كاهنا للروح (سِلِنغي) التي تتملك أسرار انزال المطر والنحل ، لم تكن الروح (سِلِنغي) في مبدئها بشراً كشأن أكثر الأرواح التي تصير بعد موت صاحبها أروحا تحل في أبنائه من بعده بل كانت منذ مبدئها من عالم الأروح حلت في شجرة الهجليج ثم تنقلت في البشر حتى تملكها الكجور دارجول.
ناوأ الكجور دارجول الأنجليز منذ مقدمهم وأعلن ذلك فابتعثوا له عيناً في شكل تاجر ليحصي قدراته العسكرية ، كشفت الروح (سِلِنغي) لكاهنها الكجور دارجول حقيقة التاجر لكن دارجول لم يعتقله بل تركه يمضي حال سبيله، فحرب دارجول حرب شريفة لا خداع فيها ولا مخاتلة ، لكنه أيقن بوقوع الحرب فأعد لها.
في فجر الثالث من نوفمبر بلغت حملة عسكرية إنجليزية بقيادة القائممقام (لامبر) تخوم جبل الفوس وأمطرت الجبل وابلا من نيران مدفعيتها، انطلقت قوات الكجور دارجول بقيادة ابنه جبري تصد هجوم الإنجليز واستمرت المواجهات سجالاً، وأحدث جبري وقواته خسائر في جيش العدو واحتسب عددا من الشهداء، هنا حينما انتصف النهار كان للكجور دارجول وروحه (سِلِنغي) أمر آخر، وتدبير ماكر، فأوحى لابنه جبري أن ينحاز قليلا نحو الغرب ليفسح له المجال ، فما هي إلا غمضة عين وانتباهتها حتى اجتاحت جيوش من النحل بأمر الكجور دارجول جنود العدو ، خرج النحل المسعور من بين فجاج الأرض وشقوق الجبال وفضاءات السماء وأطبق على العدو لسعاً قاتلا ، بضراوة وإصرار، فإنه مأمور، فلم يجد العدو بداً من الهرب، وولى تتقدمه خيبته نحو الدلنج ، لقد تملك الفزع جند الإنجليز وتهولوا العودة، فسعت قيادتهم إلى عقد صلح مع الكجور دارجول وهكذا انتهى أول فصل من فصول حروب النيمانج للإنجليز ، لينفتح فصل جديد بطله السلطان عجبنا.
في يناير سنة 1906 ومارس سنة 1908 على التوالي زار حاكم عام كردفان ديار النيمانج (الأما) ليقنعهم بضرورة الانصياع للحكومة الجديدة كما قابل أيضا مفتش مركز الدلنج (ولسون) زعماء قبائل النيمانج الثمانية لذات الغرض لكن دون جدوى، ثم في سنة 1908 قابل عجبنا الحاكم الإنجليزي في الأبيض نيابة عن والده السلطان أروجا الذي كان قد تقدمت به السن، وعند عودته نصب الأمير عجبنا سلطانا على النيمانج وأجريت له الطقوس وتملك أسرار آبائه. أرسلت الحكومة الإنجليزية السلطان عجبنا الى الخرطوم ليقف شاهداً على قدراتها فيرعوي لكن عند عودته بدأ يحرض أتباعه على التمرد ورفض مقابلة مفتش الدلنج من بعد ورفض دفع الضرائب.
لم يكن شِيلاما كجوراً، لكنه كان من أصحاب الكشف، رأى ذات ليلةٍ ناراً تبرق في الأفق فهب من نومه منزعجاً وأخذ كبشاً وذهب إلى الكوير (جُولفا) كبير كجرة سلارا وكاهن الروح (سَالى) وسأله إن كان قد أخبرته الروح شيئاً، فأجابه بالنفي، فطاف على كجرة الجبال السبعة فأجابوه أيضا بالنفي، فعاد إلى سلارا وذهب إلى الكجور (وُنِشي) كاهن الروح (كُدولا) روح فخذ (كينا) خؤولة السلطان عجبنا، فأخبره الكجور أنه رأى فرسين وثلاث نياق بأوسمتها تحمل رجالا وستحل في موقع (كوديلي بونغ) بسلارا وأن هؤلاء الرجال هم عيونٌ للإنجليز، فقال له (شِيلاما) صدقت أنت من رأيت حقا ووهبه الكبش، وأعلن في الناس أنه في العام المقبل سيأتي رهط من الأجانب حمر الوجوه يمتطون فرسين وثلاث نياق هم أعين للإنجليز فإن أتوا فاقتلوهم وأذبحوا نياقهم وقسموا لحومها بين الكبار والشباب وأعطوني حظي من لحمها وقطعوه قديدا وانشروه على سقيفتي فسأصنع من دهنها المتساقط عملا يقبض هؤلاء الغزاة كما يقبض المحجم ظهر الإنسان ، ولن يصيبكم من بعدُ أذىً ، لكنه استدرك قائلا : سيمنعكم الكجور (جُولفا) عن قتلهم بحسبانهم ضيوفه فإن أنتم نزلتم على رأيه فسيأتي الغزاة من بعد ويقتلونكم شر قتلة وحينها إذن لن أسمع أنا أصوات النيران –كناية عن موته حينذاك- وبالفعل بعد أقل من عام أتى هؤلاء العيون وأراد الشباب قتلهم عملا بوصية (شيلما) إلا أن الكجور جُولفا أبو زيد منعهم، وتوفى بالفعل (شيلما) قبل نشوب الحرب وصدقت رؤيته وقد ترتب على مخالفتها كل الأحداث اللاحقة.
ظل عجبنا طوال هذه الفترة متمردا على سلطات الإنجليز، رافضا دفع الضرائب والأتاوات، مستقلا بسلطته، يرسل غاراته على المناطق الخاضعة لهم استهزاءاً بهم وطعنا في قدرتهم على حماية مستجيريهم،مما جعل الإنجليز يفكرون جديا في وضع حدٍ لهذا الوضع المهين لكبريائهم، فقد صاروا حقيقة لا يستطيعون حماية مناطق نفوذهم، فشكلت تجريدة بقيادة مفتش الدلنج آنئذ البكباش هتون (Hutton) والبكباش ويلي (Wille) تحركت القوة من الدلنج بتاريخ 16 ديسمبر 1916 ونزلت في منطقة (كويداروا) قرب معقل السلطان عجبنا وأرسل هتون إلى السلطان داعياً أياه الى التسليم، ومهددا ومتوعدا السلطان حال رفضه ، ما كان للسلطان أن يستجيب بل كان يستدني هذه اللحظة التاريخية فعزم على القتال صونا لمجد آبائه، وأمر بضرب البورشير (القرن) اعلانا للحرب ولَبِس لامة الحرب واستحضر أرواح آبائه ومع أول خيط للفجر في يوم الثالث من إبريل 1917 هاجمت قوات السلطان العدو تتقدمها الأرواح المقدسة تحدد للفرسان أماكن الأهداف المميتة في رؤوس وقلوب الأعداء ، فاخترقت رصاصة رأس القائد (هتون) وأخرى قلب البكباش (ويلي) في معركة حامية الوطيس فصرعا في الحال، وكثر الموت فولت الجنود هاربة يضربون أدبارهم والخدود، تتشوى جلودهم من نار فرسان السلطان وتطير قلوبهم لسرعة انقضاضهم فقلت –من كلمة طويلة تصف المشهد
نضجت جلودهمو وما نضجت لنا
قدر الطعام وقهوة النهال
الرعب غشى للمشاة فبينهم
مستذهل ومقطع الأوصال
من فر منهم باللسان متمتم
بعدا لحرب النوب في الأدغال
هذا وقد احتسب السلطان 26 من فرسانه في هذه المعركة.
بعد هذه المعركة صار الفرسان من مناطق النيمانج الثمانية يخفُّون إلى جبل دوما بسلارا حيث تتجمع قوات السلطان بعد أن كانت قواته وقفا على منطقتي سلارا وكلارا اللتين بايعتاه منذ أول وهلة ،وانتزع السلطان زمام المبادرة فهاجم في السابع عشر من مايو القوات الإنجليزية في منطقة تندية وزلزل الأرض تحت أرجلهم لكن لما كانت قوات الأنجليز متحصنة وقوات عجبنا هي المهاجمة وقع منها عشر فرسان وقضى من قوات العدو ضابطا وجنديين، ثم باغت عجبنا في العاشر من يونيو 1917 قوات العدو في كلير وأذاقهم مر قتاله، وانتقاما منه قامت قوات العدو باحراق أربع قرى بالكامل وقتلت كل البهائم فيها. هنا وقف السلطان عجبنا يناجي أجداده ويستدعيهم لمؤازرته استعدادا لمعركة سلارا وبدأ الكجرة وعلى رأسهم الكجور سباي كلكون وزير السلطان والكجور ليمان تروا وبقية كجرة الجبال يستدعون أرواحهم لتقاتل معهم فقد أضحى الأمر واقعا.
كانت روح الكجور(شِلْما) الذي طهر الأرض ووطأها لقومه حين كانت تسكن باطن الجبل مخلوقات مرعبة وغريبة تصدر أصواتاً مفزعة فتقدم إلى الجبل ورفع سوطه عاليا وهوى به أعلى الجبل فانفلق الجبل وخرجت تلك المخلوقات الغريبة المخيفة فانهال عليها ضربا بسوطه ففرت من غير أوبة، واطمأنت الأرض من بعد للقبيلة – كانت روحه قد رأت حكمة القدر في خسارة السلطان لمآل الحرب من قبل أن تنشب وانقضاء عهد رعاية السماء لقبيلته بعروج الأرواح المقدسة إلى آبائها، فتوقف كثيرا من هول المأساة يبتغي حيلة أو تصريفا يصارع به مقتضيات القدر بمحاولة توقي وقوع الحرب،وجاهد في توقيها، فلما لم يفلح رفض حرمان فرسانه من شرف الموت في آخر المعارك المقدسة التي ستختم عهد رعاية السماء لقومه الذي بدأ بهبوط (وِجى) من السماء . ولا يمكن أن تغيب هذه النبوءة عن السلطان عجبنا ، فقد كان يرى أيضا أقدار السماء بجلاء، لكنه تحدى القدر فحولةً وشجاعةً وتمكناً، لقد جاهد في تغيير أحكامه التي كشفها، وهذا هو المحال منطقا، لكنه المجد واقعا، فهزمه القدر وتأتى له المجد ، فعرج مع القدر وأنال قومه المجد. وبالتالي اندفعت كافة فرسان النيمانج للموت مجدا، كانوا يتهافتون على الموت كما يتهافت الفراش على النار، يتداعون إليه كما تتداعى الأكلة على قصعتها ، ويرقصون في أرض القتال … نعم إنها معركة سلارا فوقفت الروح (سالى) أعلى جبل دوما تنظر إليهم كيف يقاتلون وتسكب عليهم بركاتها… وجاءت الروح (كفينج) ممتطية بعجة تؤز المقاتلين أزا، وجاءت الروح (كدولا) في صورة صقر الشاهين المقدس تحلق فوق أرض المعركة وتشير على مواقع الأعداء وتحمي أبناءها، فهُزم العدو شر هزيمة واضطر الى الهرب فقد ظهر كونغول في شكل أفعى ضخمة تبتلع الأعداء ابتلاعا، وآخرين تقضم رؤوسهم أو صدورهم وتترك بقية أجسادهم أشلاءً ليراها الأعداء إفزاعاً فبلغت قلوبهم الحناجر ولاذوا بالفرار ولم يقوَ العدو على التقدم ثانية بعد أن رأى من آيات الأرواح وعزم الرجال .لقد أنتزع فرسان عجبنا المجد عن جدارة واقتدارا في هذه المعركة حتى لكأن التاريخ تمطى وأشهد للمتنبي هذه الصورة تمشي بين الناس لا خيالات شاعر حينما قال:
حتى رجعتُ وأقلامي قوائلُ لي
المجدُ للسيف ليس المجد للقلم
نعم كانوا لا يعرفون إلا السيف والرمح ، ينحتون أمجادهم على ديباجة التاريخ وهامات الجبال ولسان حالهم يقول:
ولو أن الحياة تبقى لحيٍ
لعددنا أضلنا الشجعانا
غير أن الفتى يلاقي المنايا
كالحات ولا يلاقي الهوانا
هو كان ينظر إليهم دون ريب عبر شرفة الزمن حينما التقط مخياله هذه الصورة الرائعة منهم.
ثم حل فصل الخريف، فانتهز الإنجليز هذا الفصل ليغيروا استراتيجيتهم بعد الخسارة الكبرى في معركة سلارا ، فتم تغيير القوة تماما فلم تعد تطيق رؤية ديار الأما وأصاب بعضها الجنون من هول ما رأى، فأرسلت قوة كبرى جديدة قوامها أكثر من ثلاثة آلاف مقاتل بقيادة الأميرالاي سميث تمركزت في ثلاثة مواقع وطوقت مصادر المياه بالألغام والأسيجة والتسميم وأقامت نقاطا وزرائب وأسلاكا شائكة بين الجبال لمنع السلطان وقواته من الحركة والتنقل وحصرهم ومنع الفرسان من بقية المناطق من الالتحاق به، لكن عجبنا كانت له أيضا خطة فزرع في أعالي الجبال وتحسبا للعطش وقلة المياه في الصيف زرع مساحات كبيرة بثمرة البطيخ وخزن غلة الذرة.
بعد انقضاء الخريف وفي نوفمبر تحديدا بدأ الإنجليز في مهاجمة السلطان والتضييق عليه وفق الخطة الجديدة وبهذا العدد الهائل فتقدم المحوران الشمالي والجنوبي واحتلا جميع مصادر المياه ودُفعت قوات السلطان نحو الغرب لتقع في كماشة المحور الثالث. ثم بدأ الإنجليزية في حرق القرى وقتل البهائم وتسميم بقية مصادر المياه ، ثم بدأ اطلاق مدافع الغاز على الكهوف حيث تتحصن قوات السلطان ويتحصن أيضا المواطنون من النساء والأطفال والعجزة فيضطرون إلى الخروج من كهوفهم فتقتلهم قذائف المدافع الجبلية وذخيرة رشاشات البرين والماكسيم … وصار الإنجليز يضيئون ليل الجبال بالقنابل المضيئة لمنع حركة الجنود ليلا ، فاشتدت ضراوة القتال وتأزم الموقف، فهبت مندي بنت السلطان عجبنا لنصرة والدها رغم أنها كانت نفساء تحمل طفلتها الرضيع(مكانا) ، لم تستجب مندي لرجاءات ذويها لثنيها عن القتال بحجة نفاسها فرمت ببخسة كانت في يدها على الأرض فتكسرت إلى أجزاء صغيرة كناية عن التصميم ، وربطت ابنتها في ظهرها وركبت فرسها وأدركت السلطان وقاتلت مع جنده يدا بيد وكتفا بكتف حتى فاضت روح ابنتها وهي على ظهرها فوصفتُ الصورة فقلتُ أصف المشهد-من قصيدة طويلة-:
لامن شافت فرسانا
اتجرتقوا بالجبخانة
وعجبنا بي نفسو بقاتل
كلكون حير أعدانا
ربطتْ في ضهيرها وليدها
خاضت حالا نيرانا
رقصتْ في أرض المقتل
ووليدها رضع دخانا
لامن فاضت أنفاسو
أصغر فرسان قتلانا
فلا جَرَمْ ألا يني هذا الرحم من إرفاد هذه الدنيا بماجدات طالما ظلت السموات والأرض، ولا حيف أن تكون احداهن في هذا الحاضر التقية النقية المحسنة الحاجة عوضية عبدو (سمك) التي ضربت المثل في الإحسان وتحدت القدر في العصامية فلا أعاقتها اعاقة فتمجدت ، فهذه من تلك. والأمثال تترى.
أهلك العطش جند السلطان فقضى كثير منهم مسموما في موارد الماء وفتك بطاقتهم الجوع ولم تتوقف المدافع عن دك الجبال واطلاق الغازات المسمومة، فاتجه السلطان ووزيره الكجور سباي كلكون غربا وهنا رصدته العيون فوشت به، فداهمته مفرزة من جيش العدو في كهفه والقت القبض عليه في السابع والعشرين من ديسمبر ، أبدا لم يستسلم السلطان ولم يني فرسانه من القتال وهم يأكلون الثرى من العطش.
رفض السلطان الذهاب إلى الخرطوم لمقابلة الحاكم العام كما أراد ذلك الإنجليز وفضل الموت ، فحكم عليه بالإعدام ووزيره الكجور كلكون ، فهتف قبل أن يعتلي منصة الإعدام : من لم ير السلطان عجبنا فليأت ليراه اليوم ، ولوح بمنديله على عموم النوبة وحلفائه الحوازمة الذين جاءوا لوداعه ثم تقدم بثبات وصعد المنصة ، وأعدم.لكن الحرب لم تنته بعد فقد ظل جنوده يقاتلون حتى 21 فبراير 1918 حيث آخر المعارك ، وقد بلغ أسرى النيمانج لدى الإنجليز أكثر من أربعة آلاف أسير وأبيدت كل الماشية ونفيت أسرة السلطان إلى شندي.
حينما تدلى جسد السلطان عجبنا الطاهر من على منصة الإعدام أبرقت السماء وأحمرَّت وأصفرَّت واخضرَّت ثم أسودَّت ، وانهمرت الأمطار وكانت أبخرة كثيفة تخرج من الأرض صاعدة إلى السماء، وأصوات مختلطة تنبعث من كهوف الجبال وغاباتها غير مُميزة وغير مدركة إنها أصوات الأرواح تُهِمُ بالعروج والعودة، فقد عرجت روح السلطان بزخم أسرارها كما عرج من قبل (وجي)، عرجت بعد أن أكملت مهمتها فصعدت روحه تشايعها صعودا عشرات الأروح …. كافة الأرواح، تتقدمها أرواح كجرة الجبال السبعة … عرجوا وما آبوا… إنه العروج الأخير ليعلن القدر انتهاء عصر أسباب الخوارق ورعاية السماء وبزوغ فجر الواقع والعلم .
إلى كل ماجد وكل ماجدة مرت أعينهم على حروفي … توقفوا برهة، واصطفوا على صعيد واحدة لتخرج المئوية في أبهى صورة وأنضر وجه ، فروح السلطان الشهيد تنزعج من أصوات الخلاف والاصطخاب ، هذا هو أقل ما يمكن إهداؤه لروحه.