مأساة القوى السياسية المدنية
قصي همرور
لا تشغلني البتة محاولات ربط الحرب الأخيرة بمؤامرات شاركت فيها قوى لا تحمل السلاح في السودان. وبالأخص، ما أراه أن أي محاولة لتصوير قوى الحرية والتغيير (قحت) باعتبارها انحازت لطرف من الأطراف المعتركة من قبل بداية الحرب، هي محاولة بائسة.
هذه الحرب ليست في مصلحة قحت، من أي زاوية أتيتها، فمع دوي السلاح تخفت أصوات أي قوى غير حاملة له، وإنما الحرب من مصلحة فاعلين سياسيين آخرين ساعدهم ضعف قحت وتراخيها عن لعب دورها المطلوب منها. لكن الأهم من ذلك أن محركات هذه الحرب أكبر من قدرات قحت ومن استيعابها. قحت ضعيفة لأنها فرّطت في المتطلبات الفكرية والتنظيمية للعمل السياسي المدني الجاد. حتى الآن لم يبرز لنا من بين أدبيات قحت – أو المتوائمين معها – تحليلا للواقع السوداني بمستوى عميق ومتعوب عليه، بلهَ أن يكون صحيحا. قحت ما فتئت تتحدث عن المنعطفات الصعبة التي مرّت بها البلاد منذ حراك ديسمبر 2018 بطريقة أن الأمور كانت دائما تجري على ما يرام قبل أن تحصل مفاجأة ما، مصدرها حدث أو شخص غير محسوب ولولاه لكانت مساعيهم وتخطيطاتهم الذكية والاستراتيجية ماضية بشكل جيد. قحت تحلل محركات السياسة السودانية الكبيرة بالأحداث وبالأشخاص المباغتين للمشهد العام، كما تقول للجماهير إن ما يقال أو يتقرر في اجتماعات غير مسجلة وغير ملزمة رسميا يعتبر خطوات وإنجازات؛ كما يطيب لها نسب تعقيدات المشهد إلى جهات يسهل الإشارة لها وتكرار اسمها بدل الانخراط في فهم وتحليل واقع معقّد ومشتبك وذي جذور تاريخية متراكمة مثل واقع السودان. قحت لا يبدو أنها تدرك أن ليست هنالك حروب كبيرة تُقدَح بين ليلة وضحاها، بسبب كلمتين أو ثلاثة أو خلافات بين نفر لا يتجاوز أصابع اليد (فمجرد أن هؤلاء النفر القليل لديهم القدرة على زعزعة دولة كاملة في فترة زمنية وجيزة يعود لأسباب متراكمة لفترة وتستدعي نظرة فاحصة ومتعمقة للوضع العام). قحت تتعامل مع الإعلام العام وكأنها تدخل في انتخابات غدا ولا تريد أن تعترف بأخطاء سياسية حقيقية أمام الشاشة والناخبين، بينما نحن في أوضاع ثورة وإعادة بناء دولة.
ثم إن قحت، كغيرها من مجمل القوى السياسية المدنية في السودان (إلا من رحم ربي)، وبسبب تنازلات متتالية وضيقة النظر منذ مفاوضات بداية الفترة الانتقالية وأثناء الفترة الانتقالية، أصبحت فاقدة لأي قوة ضغط كبيرة على أصحاب الترسانة المسلحة في مركز الدولة (وهم ليسوا جهة واحدة، للأسف – أي أصحاب السلاح – وهذا الوضع من أكبر تجليات تعقيد الأمور وحاجتها لنظرة فاحصة). معنى ذلك أن قحت – رغم كل ما تدعيه عن نفسها وعن تحريكها للعملية السياسية – لم تعد لديها مراكز قوة وضغط تطبقها على أصحاب الترسانات المسلحة كيما تحصل تغييرات ملموسة على أرض واقع السلطة والقرار في السودان. ثم هي حاولت تغطية عجزها ذلك بالاتكاء على من سمّتهم بالقوى الخارجية التي تستطيع الضغط على المسلحين، في سذاجة متراكمة جعلت تلك القوى الخارجية أقرب لاستعمال قحت لمآربها بدل العكس. ذلك تخبط مردّه أنهم أنفقوا ما لديهم من رأسمال سياسي (أو مقدرات الضغط) مبكرا، بل يمكن أن نقول إنهم لم يقدّروا حجم رأسمالهم السياسي (أي السند الشعبي الثوري) تقديرا صحيحا إلى أن فقدوه. ولا يغرّن أحد تكاثر الاجتماعات، وتضاعف السفرات واللقاءات مع “المسؤولين” في الخارج. هذه ليست معايير ناضجة لمستوى الفعل السياسي والتأثير السياسي في المجال العام وفي الأحداث الكبيرة. لدينا في السودان قوى سياسية مدنية لم تعِ يوما مصدر قوتها، ولذلك فرّطت فيه كذا مرة، حتى عندما أتاها كهديّة من نوادر هدايا التاريخ – مثل حراك ديسمبر 2018 ومثل حراك يونيو 2019 ومثل الهبة الشعبية الضخمة ضد انقلاب 25 اكتوبر، ومثل الموقف الثوري الجماهيري الكبير ضد الشراكة مع المجلس العسكري في ابريل ومايو 2019 – ثم بقيت تلك القوى السياسية المدنية تحوم في المجال العام وهي ضعيفة، منكسرة، تظن أنها بكثرة اللقاءات والتصريحات تخفي ضعفها ذلك، وما هو بخافٍ عن المتربصين لها من الفاعلين السياسيين الآخرين في البلاد (ومن خارجها). لا توجد في الميدان العام اجتماعات “عالية المستوى” تكفي لتغطية الهزال الفكري والتنظيمي…. ومنذ أيام نظام الكيزان كان بعض المتأملين في المشهد يشيرون إلى أن نظام الكيزان ليس قويا فعلا، إذا قسنا درجات القوة تلك مع الأنظمة الشمولية الأخرى التي نعرفها في العصر الحديث، لكن طال عمر الكيزان في الحكم، رغم تخبطهم وتشاكسهم وضعف حوكمتهم، لأن المعارضة السياسية لهم ضعيفة تنظيما وفكرا.
قحت اختارت لنفسها أن تكون مجموعة من الساسة (politicians) فحسب، بدون أن يكون لديها رصيد ملموس من أهل صنعة الدولة (statecraft). [في كتابات سابقة ذكرنا معالم التمييز بين السياسي وبين رجل الدولة]. وكساسة، فهم بالدرجة الأولى مقاولو قوى (power brokers). لكن تخيّلوا مقاول منشآت لا يملك مواردا لتحريك مواد البناء، كما أنه خسر مجمل علاقات العمل التي تجعله مفيدا للربط بين أصحاب المشاريع الإنشائية وأصحاب مواد البناء. مأزق هذا المقاول هو نفسه مأزق قحت الحالي.
لذلك، فالتآمر الاستراتيجي، أو الخداع المخطط للإعلام، ليس من صفات قحت، إذ كما قال الرابر “إمورتال تكنيك” عن كونه لا يرى أن جورج بوش الابن كان له أي دور في أحداث 11 سبتمبر 2001 (حسب بعض نظريات المؤامرة):
And I don’t think Bush did it
Because he isn’t that smart
ولا أعتقد أن بوش فعلها
إذ تعوزه الحنكة الكافية
وهذا يقال مع صرف النظر عن كوننا نبتعد، وسنظل نبتعد ما استطعنا، عن اتهامات سوء الظن في مجمل القيادات السياسية المدنية، أي سوء الظن في نواياها وفي دوافعها الواضحة بالنسبة لها. بجانب أننا لا نرى أدلة على سوء الطوية – بل أحيانا نجد أدلة أكثر على حسن النوايا وحسن القصد – كذلك نرى أن إساءة الظن في تلك القيادات لا يجدي شيئا، للأسباب المذكورة آنفا. قياداتنا السياسية المدنية مشكلتها الأولى أنها “مسكينة”، بصورة عامة، فكرا وتنظيما، وتتحرك وهي فاقدة للرؤية وللمنهج، فاقدة لمشروع حقيقي (ولست أقصد هنا موضة “المشروع الوطني” التي راجت لفترة، بدون معالم أو نكهة)، وتعتقد أن بعض التلاتيق التي لديها من الشعارات والمصطلحات وكلام الاجتماعات يسمى فكرا سياسيا. ثم هي لا تعدم من يزيّن لها فعلها وقولها من أصحاب الأقلام (والذين بدورهم كثيرا ما يكتبون أكثر مما يقرأون). الشعب سعى ويسعى لإنقاذ نفسه بنفسه – وسوف يفعلها، رغم تكالب الخسائر والآلام – أما قحت فتحتاج لمن ينقذها من نفسها.
لذلك فقحت إجمالا بريئة، في نظري، من أي ملابسات مساهمة واعية في سوق البلاد إلى ما آلت إليه. بيد أن هذه البراءة ليست كلها مما يتمناه المرء للقيادات السياسية في بلاده، لأنها براءة زائدة عن الحد–براءة كبراءة أهل القرى الافريقية من المشاركة الواعية في إضرار البيئة الطبيعية وإضرار رئات أطفالهم، بسبب استخدامهم الكثيف لخشب الغابات كوقود للطبخ لأنه أرخص وأقرب ويحل مشاكل اليوم باليوم…. براءة على مستوى النوايا وقصور إدراك الأبعاد؛ براءة تتوفر فيها حسن النية كما تتوفر فيها السذاجة التي لا يليق تمجيدها والجهل الذي لا يُمدَح، وإنما ينبغي التنبيه له وتغييره، خاصة عندما يأتي من متعلمين وممن يفترض أنهم قادة الرأي في البلاد (بخلاف أهل القرى الافريقية، المُبعَدين عن أدوات الفهم ودواعي التأثير العام).
لكن، بوصفنا مدنيين، فنحن ما زال لدينا استثمار في قحت، وما زلنا غير راغبين في أن نخسر علاقاتنا معها – وإن ظنّ بعضهم عكس ذلك – وما زلنا نريد لها أن تنهض مما هي فيه وتواجه مجالها بالجدية المطلوبة، وتعود لاستدراك رأسمالها في القواعد الجماهيرية، لأن كل ذلك في مصلحتنا كمدنيين، على المدى القريب وعلى المدى البعيد. لا يمنعنا إحباطنا من قحت حتى الآن أن نتذكّر أننا نشترك في مصلحة أن يسود المناخ الذي يقوّي من فاعلية وقرار المدنيين في الدولة ويحصّنها من تغوّل ذوي العسكرة في ما لا شأن لهم فيه ولا يحسنونه–وهو بناء الدولة التنموية الديمقراطية.
بيد أننا أيضا نذكّر قحت، ونذكّر أنفسنا، أن ليس بيننا (من المدنيين) من هو غير قابل للاستبدال–أفرادا أو تنظيمات. مسيرة الشعب قادرة ولو بعد حين على استبدال من لا يلعب دوره التاريخي جيدا. إذا لم تعد قحت لتقوية قواعدها الشعبية قبل فوات الأوان – وكما قلنا فأحيانا فإن العمل في مستوى القواعد الشعبية في فترات الكوارث (مثل كارثتنا الحالية) يمكن أن يفعل فعل السحر في إعادة تقوية الدعم الشعبي للسياسيين المدنيين وإعادة التئام التنظيمات السياسية بحاضناتها الاجتماعية – فإن على قحت أن تتهيّأ للإزاحة، عاجلا أم آجلا، بواسطة تنظيمات سياسية جديدة (أو جديدة-قديمة)، نشأت وصعدت من القواعد الشعبية، المذكورة آنفا، وتكتسح التأثير السياسي المدني في الساحة. ما رأيناه في السنتين الأخيرتين من انزعاج قحت وأبواقها من لجان المقاومة، مثلا، جاء من كون الأخيرة أصبحت تشكّل منافسا سياسيا جديدا في الميدان الذي ظلت “تقدل” فيه قحت في السنوات البضع الماضية بدون منافسة كبيرة. نبشّر الجميع بأن التاريخ يقول إن مثل هؤلاء الفاعلين السياسيين الجدد قادرين على الالتحام بقواعد جماهيرية فقدت الثقة في الفاعلين القدامى–وقد رأينا بوادر ذلك عبر تشكّل تحالفات جديدة بين التجمعات العمالية وحركات الحكم المحلي والأجسام المطلبية ولجان المقاومة (وتنظيمات أخرى متباينة الأطياف). ربما لا يحصل اختراق جديد تماما منذ البدايات بالضرورة، لكن فرص التطور والتعلم بسرعة، واختيار الدروب غير المطروقة مسبقا، تكون أكبر مع مثل هذه التجديدات.
ومن المؤكد أن هنالك استثناءات من الوصف أعلاه، بين أهل الأعلام السياسية وبين أهل الأقلام (خاصة من داخل قحت)، وقد رأينا بعض أولئك الاستثناءات وتعاملنا معهم، لكن حتى أولئك الاستثناءات سرعان ما يتبلّدون فكريا وتنظيميا عندما تزيد حركتهم وسط السياسيين وتقل وسط القواعد الجماهيرية النشطة، فمن عاشر قوما [….]. “الأعلام والأقلام، اليوم، عند غير أهلها” عبارة تُنسب للأستاذ محمود محمد طه منذ 1967، وللأسف، ما أشبه “اليوم” بالبارحة، حتى الآن…. وللحديث شجون.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.