لماذا اندلعت الحرب في الخرطوم؟
شمائل النور
لم يكن التحشيد العسكري سوى بداية لمعركة كبيرة ستنطلق من داخل العاصمة في 15 نيسان/أبريل (Reuters)
لأكثر من شهرين، كانت رائحة الحرب تفوح في شوارع الخرطوم وصحافتها وأحاديث سكانها في مجالسهم الخاصة والعامة، فلم تتوقف التقارير الصحافية عن بث أخبار الاستعداد العسكري لطرفي الحرب (الجيش وقوات الدعم السريع)، ولم تخلُ الشوارع من مظاهر الاستعداد كأن كل شيء يقول إن ساعة الانفجار باتت قاب قوسين.
كان سباق التحشيد العسكري بين الجيش وتلك القوات التي يتزعمها محمد حمدان دقلو المعروف بـ«حميدتي»، قد انطلق منذ المرحلة التي أعقبت انقلاب الأخير وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان، في تشرين الأول/أكتوبر 2021، على الحكومة المدنية التي تكونت عقب سقوط عمر البشير في نيسان/أبريل 2019.
فبدأ التحشيد في إقليم دارفور غربي البلاد، الذي كان قد شهد حرباً واسعة في سنوات مضت بين الجيش و«الدعم السريع» من جهة، والحركات المسلحة المتمردة من جهة أخرى. وبلغت الاستعدادات مستوى جعل آخر تقرير للخبراء الأمميين يحذِّر من أن الإقليم المأزوم يشهد سباق تجنيد واسع النطاق بين القوّتين العسكريتين الرئيسيتين في البلاد، ليتبين لاحقاً أنه لم يكن سوى تحضير لمعركة كبيرة ستنطلق من داخل الخرطوم في 15 نيسان/أبريل الجاري.
من هي قوات الدعم السريع؟
تأسست «الدعم السريع» رسمياً عام 2013، ووضِعت تحت إمرة جهاز الأمن الوطني بعِداد خمسة آلاف مقاتل لا يتجاوز عدد آلياتهم العسكرية الألف. وهي مليشيا قبلية تشكل امتداداً للمليشيات العربية الذائعة الصيت، المعروفة محلياً بـ«الجنجويد»، التي أسسها الزعيم القبلي موسى هلال لمساندة الجيش في حربه على التمرد عام 2003، فيما يعدُّ حميدتي تلميذ هلال وتربطهما صلة دم وثيقة. لكن بعدما أظهر الأخير طموحاً إلى الحكم، لجأ نظام البشير إلى تقديم حميدتي عليه في محاولة لكبح طموحه الجامح، إلى أن تمرد ثم اعتقِل نهاية 2017.
ساندت هذه القوات الجيش في حرب دارفور (2003 حتى سقوط البشير) وحققت مكاسب عسكرية نوعية، ما سيجعل «الدعم السريع» تتوسع في عمليات التجنيد بميزانيات تبدو مفتوحة. ولأنها كسرت بحق شوكة التمرد في الإقليم، منحها البشير ميزة خاصة حينما استصدر لها قانوناً عام 2017 لتصير قواتٍ نظامية مستقلة عن الجيش بدرجة كبيرة.
مع استقلاليتها العسكرية التي مكنتها من تحقيق عمليات تسليح خاصة بها، استطاعت «الدعم السريع» أن تحقق استقلالية اقتصادية منافسة للجيش، حتى تحولت إلى جيش موازٍ للنظامي. وحينما اندلعت حرب اليمن عام 2015 وأعلنت السعودية التحالف العربي العسكري، كان لها نصيب وافر من المشاركة، ونجحت في بناء تحالفات إقليمية مستقلة عن الحكومة السودانية، جعلتها أقرب إلى النفوذ الإماراتي.
توسعت هذه القوات رويداً رويداً ومنحت ولاءها التام للبشير الذي كان كثيراً ما يباهي بها، في استفزاز واضح للجيش النظامي الذي تسيطر على قيادته الحركة الإسلامية التي أتت به إلى الحكم قبل أن تقع مفاصلة كبرى بينهما عام 1999 أدت إلى خروج مؤسسها حسن الترابي، فيما فضلت بعض القيادات البقاء مع الرئيس في السلطة قبل توالي الخلافات مجدداً.
قرّب البشير «الدعم السريع» إليه أكثر كلما تفاقمت الأزمات عليه، وميّزها عن الجيش ظناً منه أنها سوف تكون سنده إذا احتدم الوغى، أو على أقل تقدير، ستقف عائقاً أمام الجيش إذا قرر خلعه. لكن، وعلى غير ما أراده، اتخذت هذه القوات موقف الحياد مع بداية تحركات الشارع الاحتجاجية في كانون الأول/ديسمبر 2018، ورفضت المشاركة في قمع المظاهرات السلمية.
وقتذاك، أدرك حميدتي أن حكم البشير اقتربت أيامه الأخيرة، وأنه آن الأوان ليرتاح من هجير المعارك ويتحول من قائد عسكري تحت إمرة نخبة الخرطوم إلى حاكم للعاصمة، وهو في تقديره أبسط ما يمكن أن يجنيه من ثمار ما زرعه.
وحينما بدأ قادة في جهاز الأمن والجيش إعداد سيناريو إزاحة الرئيس في نيسان/أبريل 2019 ظهرت «الدعم السريع» بالفعل كعقبة كؤود، فكان ضمان حيادها عن الرئيس أول وأهم خطوة لخلعه. وبالفعل، انخرطت في الانصياع لضغط الشارع لتفرض نفسها عنصراً أساسياً في خلع الحاكم منذ نحو ثلاثة عقود، ولتحجز مكانها في مقدمة قطار التغيير.
ما الذي استجد؟
منذ الإطاحة بالبشير، واصل قادة الجيش ترداد أن «الدعم السريع» جزء لا يتجزأ من المؤسسة العسكرية، في استمرارية لخطابه منذ تأسيسها. لكن تصاعُد الخطاب جاء في محاولة لكبح الأصوات التي تعالت مع «ثورة ديسمبر» للمطالبة بإبعاد المليشيا عن قيادة الدولة.
سيشغل حميدتي (يمين) منصب نائب رئيس «مجلس السيادة» عبد الفتاح البرهان (يسار) (AFP)
أكثر من ذلك، تآمر الجيش و«الدعم السريع» على الثورة بمجزرة فض «اعتصام القيادة العامة» في حزيران/يونيو 2019 في محاولة للانقلاب عليها. وبعد عملية التفاوض بين القوى المدنية والعسكريين، التي كانت قد أعقبت خلع البشير وانتهت باتفاق شراكة بينهما في آب/أغسطس من ذاك العام، تسيّد دقلو منصب نائب رئيس «مجلس السيادة» المشكَّل لكنه ظل في المقابل محتفظاً بمنصبه العسكري قائداً تلك القوات.
هذا الوضع الدستوري منح قواته حركة تنقل وانتشار غير مسبوقة داخل الخرطوم، ثم في بقية ولايات السودان، مع العلم أنها كانت في السابق تحصر وجودها داخل إقليم دارفور بحكم العمليات العسكرية التي كانت تخوضها ضد الحركات المسلحة هناك.
وبدعم الجيش السخي، سيتمكن حميدتي أن يرث مواقع حزب المؤتمر الوطني المحلول ومقراته كافة إلى جانب بعض مقار «الأمن الوطني» عطفاً على الانتشار في ثلاثة معسكرات رئيسية تطوّق العاصمة، وهو ما جعله يفرض نفسه أمراً واقعاً وقوة لا يستهان بها.
الانقلاب الذي غيَّر كل شيء
بعد انقلاب البرهان-حميدتي في تشرين الأول/أكتوبر 2021 على الحكومة المدنية برئاسة عبد الله حمدوك، والذي قوبل بمناهضة شعبية عنيفة وسط عجز قادته عن تشكيل حكومة، بدأت مواقف قائد «الدعم السريع» تتغير في محاولة للتملص من مسؤولية الانقلاب الذي لم يأتِ إلا بالمزيد من سفك الدماء والشلل الكامل للبلاد التي كانت قد بدأت تتعافى على بعض الصعد.
لم يقدم انقلاب الجنرالين شيئاً إلا فك الخناق عن وجوه النظام السابق الذين عادوا تباعاً إلى مواقعهم في أجهزة الدولة. كيف لا وهم أول الداعمين لـ «انقلاب أكتوبر» والراقصون له، بل تجدر الإشارة إلى أن البرهان وحميدتي لم يقطعا بعد خلع البشير علاقتهما برموز نظامه وظلا محتفظين بشعرة معاوية رغم محاولة الثاني تأكيد أنه تخلص منها تماماً، فيما لم يبدِ البرهان حرصاً على إظهار ذلك.
ربما أدرك حميدتي أن الانقلاب كان خطأ فادحاً، ليس لأنه انقلاب على حكومة مدنية أتت بها الثورة، بل لأنه صار عائقاً أمام تقدم مشروعه السياسي الذي راح يربطه مذّاك بخطاب ثوري ينشد الديمقراطية بهدف أن يعيد تقديم نفسه إلى الشارع الثوري الذي لا يحظى فيه بقبول، وإلى المجتمع الدولي.
ثم حينما نجحت القوى الدولية في الضغط على الأطراف السودانية، المدنية والعسكرية («تحالف الحرية والتغيير»، والجيش، و«الدعم السريع»)، بالتوقيع على «الاتفاق الإطاري» في كانون الأول/ديسمبر 2022، الذي هدف إلى إنهاء الانقلاب والانخراط في عملية سياسية، تصدى حميدتي مراراً للدفاع عنه وتأكيد التزامه.
لكن الاتفاق لم يحظَ بقبول وسط بعض قوى الثورة، كما شن عليه أنصار النظام السابق حرباً علنية داعين الجيش إلى سحب يده منه. وبالفعل، أبدى قادة الجيش مراراً أنهم لا يلتزمونه بذريعة أنه لم يجد قبولاً واسعاً، وهو حق أُريد به باطل في نظر كثيرين.
مع تمسك «الدعم السريع» بالاتفاق وحرصها عليه، نشأ ما يشبه التحالف غير المعلن بين هذه القوات و«الحرية والتغيير» الذي يُعدُّ تحالفاً سياسياً رئيسياً قاد «ثورة ديسمبر» مع «تجمع المهنيين السودانيين». فقد وجد «الحرية والتغيير» نفسه أمام أمرين أحلاهما مر: إما التحالف مع الجيش الذي يسيطر على قيادته عناصر النظام السابق، وإما مع قوات حميدتي التي تعدُّ مليشيا قبلية لها مشروعها السياسي للحكم، وهو ما فضَّلته.
خلق هذا الوضع حالة اصطفاف حادة بين مؤيدي «الاتفاق الإطاري» ورافضيه، وسرعان ما تحول الأمر إلى «جيش في مواجهة الدعم السريع» وسط نفخ في نيران التعبئة العسكرية داخل القوتين الرئيسيتين المتنافستين على حكم البلد بدعم إماراتي لحميدتي وقواته ومساندة مصرية للجيش.
ميّز الاتفاق وضعية «الدعم السريع» في الاستقلالية، وهو ما يفسر تمسك حميدتي به، لكن أيضاً لم تكن في الساحة السياسية خيارات مطروحة لإخراج البلاد من عنق «انقلاب أكتوبر» باستثنائه. أما في الشارع، فكان الجميع في الشهور الأخيرة التي سبقت إطلاق الرصاصة الأولى في قلب الخرطوم، يتابعون عمليات نقل جنود واسعة من خارج العاصمة إلى داخلها لمصلحة «الدعم السريع»، وتصاحبها عمليات نقل آليات عسكرية خفيفة وثقيلة. خلق هذا الوضع استفهامات كثيرة على غرار: لماذا يصمت الجيش حيال هذا التحرك الحربي الواسع؟ وقبل ذلك، لماذا لجأت قيادته إلى بناء سور ضخم حول مقر القيادة العامة لتحصينها من دك الأسلحة الثقيلة؟ بدا جلياً أن ذاك اليوم آتٍ لا محالة، وما لم يكن معلوماً هي الساعة الصفر فحسب.
نقلا عن مجلة المراسل