الأوضاع الاقتصادية ونذر الكارثة الأمنية !
بقلم عثمان نواى
عندما ينظر الكثيرون لتدهور الأوضاع الاقتصادية فى السودان يتحدثون عن جانب أساسي وبديهى وهو المعاناة اليومية وشظف العيش وتفاقم الفقر وازمة الأمن الغذائي وغيرها من التأثيرات المباشرة لتدهور الاقتصاد وانهيار مستوى المعيشة. ولكن فى دولة مضطربة وذات نظام سياسى وامنى فى حالة تفكك بعد انهيار حكم دكتاتورى ايدولوجى فاسد لاكثر من ٣٠ عاما، فإن الأزمة الاقتصادية الراهنة يمكن ان تتفجر سريعا وان تتحول الى أزمة أمنية حقيقية .
فمع تدهور قيمة الجنية وتحول المرتبات التى تم رفعها مؤخرا الى مجموعات من الاصفار الى جانب رقم ما، فان مرتبات العاملين فى الدولة التى تقل قيمتها الشرائية بشكل يومى تضع الكثيرين من الموظفين فى الدولة فى مواجهة مع خيارات لن تكون صعبه عليهم فقط ولكنها ستكون كارثية على البلاد ونظامها الأمنى. فسنجد ان العاملين الذين يعتمدون على مرتباتهم يجدونها غير مجزية ومن الاسهل لهم الانخراط فى أعمال ربما تحتاج مهارات اقل لكنها تدخل لهم قيمة أعلى فى الأعمال اليومية او القطاع الغير رسمى او الهامشى. وأصحاب ما تسمى بالمهن الهاشمية او الغير رسمية ابتداءا من السماسرة مرورا بعمال اليومية وسائقى المركبات العامة او المستأجرة، يعملون فى مهن لها قدرة مرونة عالية فى الإستجابة لتغير الأسعار المستمر بخلاف الثبات المستمر فى المرتبات فى الأعمال الرسمية.
وبالتالى سوف نرى انتقال مستمر نحو العمل فى السوق الموازي لكل السلع والخدمات بما فى ذلك للخدمات التى تقدمها الدولة مثل التعليم والصحة. ولكن الخطورة الأكبر هى فى كمية المنافسة التى ستضغط على القطاعات الاقل مهارة والأكثر فقرا التى كانت تعمل فى هذه المهن الغير رسمية والهامشية، مما سيؤدى بالتأكيد الى زيادة الفقراء فقرا. وبالتالى فإن دخل الكثيرين منهم سوف يتقلص وربما يؤدى بهم الى الدخول فى براثن الأعمال الغير شرعية للحصول على الدخل المحدود لتوفير المعيشة، وهذا يعنى باختصار الانحراف نحو الجريمة وربما الجريمة المنظمة.
فى المقابل فان مستوى المعيشة لكثير من الأسر التى تعتمد على دخل المغتربين سوف يتأثر أيضا ولكنهم سيحتفظون بطلب بقدر مستمر من الطلب على السلع والخدمات، ولكن مع انهيار العملة فان الفوارق بين أصحاب الدخل المنتظم وخاصة اسر المغتربين وبعض العاملين في القطاع الخاص وبين أصحاب الدخل الغير منتظم سوف تكبر الى حدود كارثية.
خطورة هذه الوضعية تنعكس على جانب هام جدا مرتبط أيضا بأن العاملين في الدولة وخاصة فى مجال حفظ الأمن مثل الشرطة او غيرها، خاصة فى الرتب الدنيا سوف يتسربون أيضا الى مهن هامشية، فقد كان وزير الداخلية قبل الثورة قد اعلن انه يواجه أزمة حقيقية فى نقص اعداد الشرطة من المجندين وتسربهم نحو العمل فى التنقيب او غيره، وبالتالى فإنه مع وجود فجوة دخل كبيرة للغاية فإن البلاد تدخل فى خطر إيجاد مناخ لعمل الجريمة المنظمة وغير المنظمة وشبكات فساد منظمة مرتبطة ليس فقط بالنظام السابق ولكن تتوسع أيضا مع ضيق المعيشة فى قطاعات مختلفة . ومع ارتفاع نسب التسرب من المدراس والكوارث البيئية مثل الفيضان ووجود آلاف النازحين والمهجرين وتفجر النزاعات القبلية والعنف فى مناطق زراعية واسعة من شرق وغرب البلاد، فإن الخرطوم فى طريقها ان تكون فى حالة حصار من الفقراء الغاضبين والمستعدين الى الدفاع عن حقهم فى الحياة ولو بنزع حياة او ممتلكات الآخرين. بالتأكيد فإن الأوضاع فى الولايات اكثر قتامة، فتجدد النزاعات القبلية والعنف المتزايد له جذور فى الأزمة الاقتصادية أيضا التى تحاصر السودانين فى الريف وتضغط عليهم بشكل يهدد يوميا الأمن والسلام بسبب الصراعات على المرعى والمسارات والزراعة وملكية الموارد.
هذه هى الصورة القاتمة التى ربما تجعل كارثية الوضع الاقتصاد تؤدى الى إنهاء السلام الاجتماعى فى البلاد، خاصة وان ازدياد فقر الفقراء يزيد من غنى الكثير من الاغنياء الذين يستثمرون فى المعاناة. حيث تظل مظاهر البذخ المعيشى المنفصمة تماما عن واقع بقية المجتمع السودانى تزيد شعور من هم فى أدنى السلم بالاستفزاز الشديد. فيستغرب المرء من الكافيهات الفارهة والمطاعم التى تفتح كل يوم وعروض الازياء ومظاهر كثيرة للرفاهية لمجموعات يبدو أنها تعيش فى عالم مختلف. وهذه الفواصل المتوسعة هى التى سوف تصنع الكارثة.
ونعلم جيدآ ان هناك اموال ضخمة تمر عبر شركات الجيش والامن والدعم السريع وقوى راس المال التقليدية والحديثة وأنها تسهم جميعا مع بقايا النظام القديم فى توطيد الكارثة، لأنها تحسب ربحها فقط حتى وان خسر الوطن . فرغم بوادر تحقيق السلام ووقف الحروب المحترفة، فإن صراعات اجتماعية طبقية حادة ربما تؤدى الى انهيار البلاد الوشيك تلوح فى الأفق. واذا كانت الحكومة تبحث عن حلول اقتصادية، فإن الحلول الأمنية ليست كافية ، وهى بحاجة الى الضرب على مواقع الألم والسيطرة على موارد البلاد الموجودة في ايدى محدودة ومعلومة لم تلمسها لجنة التمكين بعد. وعلى الجيش السودانى وبقية القوى الأمنية المسيطرة على موارد كبيرة ان الأوضاع الاقتصادية المعيشية للمواطنين هى اهم قضية أمن قومى، ولذلك يجب أن يوجه جميع طاقاته لتوفير المعيشة للمواطن مع الحكومة . حيث ان تهديد الأمن القومى وتضيق المعيشة لن يرتد ايجابيا على الجيش كما يعتقد لانه الان شريك فى السلطة ولن تتحمل وزر الكارثة الاقتصادية الراهنة والكارثة الأمنية المقبلة الحكومة المدنية وحدها.
الصورة من مقال اليوم على فاينانشال تايمز الأمريكية بعنوان “السودان ما بعد الثورة يواجه اوضاع اقتصادية كارثية”
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.