كوة يوسف كـوّه الشبل!

أدوارد لينو وور أبيى ترجمة : د/ أرثر غابريال ياك

 

كـوه يوسف كوه، الشبل! هـذا الطفل المفعم بالنشاط والحيوية، البالغ من العمرثلاث سنوات آنـذاك، كان من أحب الأبناء إلـى قلب الرفيق يوسف كوه مـكي، ذاك القـائد الكاريزماتي العظيم للحركـة الشعبية والجيش الشعبي لتحـرير السودان الـذي كان متمركزاً، بثبات، في الأراضي المحررة بجبال النـوبة، في قلب دولـة السـودان. بعـد صـراعٍ شرسٍ مع مرض سـرطان البروستـاتا الخبيـث، إنتقـل قـائدنا العظيـم، يوسـف كـوّه مـكي، إلـى الأمجـاد السمـاوية في عيـادة لنـدنية بتـاريخ 31 مـارس 2003. أتمنـى، الآن، أن يـكون صديقـي كـوّه قد أصبح رجـلاً وفـياً و نشيـطاً، ذكـياً و شجـاعاً، ومـدافعاً عن حقـوقه. عشـمي في أن يـكون هكـذا صـارت تلك الشُجيـرة وقـد نمت وإخضـرت، وأصبحت تغطـي وتنشر بظـلالها الـوارفة والملطـفة، المجتمـع بأسـره.
عنـدما زرت جبـال النـوبة للمرة الثـانية، كـثائر، من خلـف مُـدنٍ موبـوءةٍ ب “المجـاهـدين”، في الفترة من ديسمبر إلـى ينـاير 1997-1998، أمـرني القـائد يوسـف كـوّه مـكي، بالـبقاء لأنـوب عنـه كحـاكـم، وقيـادة قـواتنا هنـاك. لا بـد أنـه إتخـذ تلـك الخطـوة، بثقـةٍ، وبتنسيـقٍ مـع الـدكتـور جـون قـرنق دي مبيـور، القـائد العـام ورئيـس الحـركة الشعبية والجيش والشعبي لتحـرير السـودان. لـقد كلـفني بـذلك، لأنـه كـان مقـرراً لـه زيـارة العـاصمة الكينيـة نيـروبي، لحضـور بزوغ أول فرقـةٍ ثقافيـةٍ نـوبيةٍ في أراضـي جبـال النـوبة المُحـررة. لقـد كـان الرفيـق، يوسـف كـوهّ، شـاعرُ مُرهـفُ، وجُنـدي مـلتزم، وقـائدُ جسـور، ومقـاتل شجاع. لـقد كـانت هـذه الخـصال، متـوازنة في داخـل رجُـلٍ له القـدرة في أن يشملـها جميعـاً، بطريـقةٍ تجعلـه يتحمـل كل معضـلات وآلام جبـال النـوبة، ببسـاطةٍ وإخـلاصٍ شـديدين.
لقـد أحب، الرفيق يـوسف كـوّه، شعبه، حبـاً جمـاً؛ حب يصعب إتصافـه بالكلمـات! أحـب الأرض والجـداول والشُجيرات والغابـات، خـاصةً الجبال بكُتلها المُعيقة للمجاري، وآفاقهـا اللانهـائية. كـان ذلك، هو السـر الكبير الكـامن وراء مثابرته، و مقـاومته في قـلب السـودان. يـا لـذاك التحدي الـذي لا يذوي! كـان ليوسف أصـدقاء عظام؛ آشـلي، واجنـر، مـاديسـون، بابا بـي، جـون فرانس وآخـرون كثيرون. لـقد سـاعدوه كثيـراً في تـجهيز الفرقة الـتي سـافرت إلـى نيروبي ليشـاهدها الناس ويعلمـوا، بـأن هـذا الشعب الـذي يقـدم ثقافته الآن، تتم إبـادته بسب نفس تلك الثقافـة. لقـد رأى، الرفيـق يوسـف، أن شعب عظيـم كهـذا، ذو تاريخ نيـلي غني، يعود إلـى عصورٍ قـديمةٍ، إن مثـل هـذا الشعب، يجب أن لا ينسى للحظةٍ واحـدةٍ، في أن ينمي عاداته وثقافـاته. وهـذا لإمـرئٍ، كـان سبباً كافيـاً لشعب في أن يحـرر نفسه. فعنـده، كـانت ثقـافة النـوبة، تعنـي شعب النوبة.
إختـار القـائد يـوسف كـوّه، الـرقيب إسمـاعيل كـونجي لقيـادة فرقة النـوبة الثقافيـة. وقـد كـان كـونجي، أشهـر فنـاني الأغـاني الحمـاسية للجيـش، يجعل الفرقـة أكثر حيـوية ونشـاطاً، بجانب أنه كأن إداري يعتمـد علـيه. كـان، الـرقيب كـونجـي، ممـثلاً مرحـاً وشخصيـةً مفعـمة بالـدفء. كـان يـرفع الـروح المعنـوية للقـوات في سـاحـات الـوغى، كمـا يسليـهم في سـاعات السلـم. و كـان وفيـاً، ومتفـانياً أزاء القضيـة إلـى أبعد ما يـكون. كـان الشـهيد، كـونجي، شهيـراً ومقـاتلاً جسـوراً! في ذلك اليـوم، في “لـومون”، قبل مـغادرتها إلـى نيـروبي، قـدمت الفرقـة عرضـاً حيـاً راقصـاً، بملابس مزركشـة زاهيّـة، متوّجـة بحُلـى وخـرز وقـرون لرقصة ال “كَـامْبَـلا”. رقـصـةُ متقـدةُ فيهـا يُزيّـن رؤوس الرجـال بقـرون ثور ليكـشف عن رجـولتهم بينما هم يضربون الأرض بأرجلـهم، بإيقـاعٍ، وحركاتٍ محسوبةٍ، بإتجـاهٍ عكسـي لدوران عقارب السـاعة، بينمـا النسوة يـزغردن عاليـاً بأغـاني الشجاعة والنبل والكـرم. غالبـاً ما يتم أداء رقصة ”الكَـامْبَـلَا” بالنهـار، وخـلالها يظـهر الأولاد كعجـولٍ بـلا قـرون. بالطبع، كـانوا سيـدات ورجـال عظام!
إن الحـركة الشعبية لتحريـر السـودان، كحركة تحررية شعبية، كان لا بـد عليـها أن تنـوّع من النضـال وذلـك بإضفـاء أبعـادٍ ثقـافيةٍ ذات مغـزى، عليـها. كـان لا بـد للنـوبة من سلك مسيرة النضال لإنقـاذ، وحفـظ، وتطـوير وترقيـة ثقـافاتهـم الأفـريقيـة. كـانت الثقـافة هـي أحـد الأسبـاب التي جعلتنـا نحمـل السـلاح! وقـد كانت تلك هي جـل أهميـة المهـام. كـاد عقـل صغيـرنا، كـوّه يوسـف كوّه، يطـير فرحـاً وهو يشـاهد بأم عينـه ذلـك الأداء الراقص، ومـا كـان منـه إلا أن ذاب في الـرقص مـع أقـرانـه من الأولاد والبنـات. وقـد كان صغيـرنا، كـوّه، يعشق أن يُلتـقط لـه صـورة معـي أينمـا كـان ذلـك ممكـناً. لـذا إلتقـطنا بعض الصـور بالكاميراتان اللتـان كانتـا بمعيتنـا. لقـد قمنـا، صديقـي كـوّه وشخصـي، بتسجيـل أمنيـاتنا و تحيانـا القلبيـة الحـارة للفرقـة والنـاس في نيـروبي والمهـجر. بعـد ذلـك اليـوم الحـافل، أصبــح صديقـي كـوّه أكثر قـرباً إلـي، كـأننـي كنت قـد حظـوت بثقـة والـده لأهتـم بـه خـير إهتمـام، وقـد أصبحنـا صديقيـن حميمين جـداً.
مـا أن غـادر القـائد يوسـف كـوه إلـى نيـروبي، حتـى توطـدت علاقتي بصورة أكبر ب “كـوّه” الصغيـر وذلك لأن مسـكنهم، المـكون من غرفٍ عبارة عن قُطيـاتٍ مسقـوفةٍ بالقش ومسـوّرةً بأحزمـة من القصب، كـان مقسمـاً إلـى قسمين: مسـكن للعائلـة، وأخـرى للضيـوف والـذي بدوره أصبح رئـاسة الحركة الشعبية والجيش لتحرير السـودان في لـومون بجبـال النـوبة. طيلـة إقـامتي في مرتفعـات لـومون، كان صغيرنـا الفضـولي كـوّه أكثر قربـاً إليّ. وكـان جُـل أوقـاته موزعـاً وفقـاً للظروف والبيئة المحيطة، حيث يتنقـل معي أينمـا وُجـد عمل أو منـاسبة: إستعراض عسكري، وصول ضيوفٍ، أعراس، عزاءات، ومناسبات تسمية الأطفال (سماية). لقـد كان، بمـا لا يـدع أي مجـال للشك، كـوّه الصغير، طفـل حـالفه الحظ في أن يـكون لـديه أم تقلق عليه، و تحيـطه بالعناية والرعـاية. مـدام أم ماصار ، كانت أيضـاً هناك، ليعتني به منذ شروق الشمس إلى المساء، حيث تقـوم بإستحمامه وهندمته لينضـم إلـى ركب أطفـال آخرون في “الفصل”، وهم جالسـون علـى صخراتٍ تحت شجر تينٍ شامخٍ.
معظم الأوقات، كان الصغير كـوّه يأتي إلـيّ بعد إنتهاء الـدروس. أحياناً، بعد أن يتفـرّق الأطفال من الـروضة، ويشعر الصغير كـوّه بالتعب، لا يملك إلا الـذهـاب إلـى المنـزل ليجد شيئاً يسد به رمقه، ومن ثم أخـذ قيلـولةٍ. هنـالك، في تلك الروضـة، كان يتم تدريبهم وتعليمهم كيفيـة حفظ الحروف الأبـجدية، كتابتها وقـراءتها، وحـكي القصص، وصناعة براعات يدوية، ترديد وتأليف الأغـاني، والرسم. أيضـاً، تم تعليـم أطفـالنا عمـاذا يفعـلـون في حـالة إن شنت طيـران الخـرطوم الحربية هجمـاتها. إنـه لأمـرٍ مُحزنٍ أن يـرَ المـرء أطفالنـا حول لـومون وكـودا وجيـديل ومنـاطق أخرى، يتلقـون تدريباتٍ في كيفيـة حفر وتنظـيف الخنادق مستخدمين بـذلك أيـاديهـم الغـضّة، وكيف ينبطـحون أرضاً حين تكـون هنالك هجمـاتُ جـوية! ذات مرة، حـاول صغيرنـا كـوّه حفر خنـدقٍ له، لكـنه كـان أصغر من أن يقـوم بـذلك، فما كـان لـذلك الحـدث إلا أن يتحـول إلـى أمر مضـحك.
احيـانـاً، كان الصغير كـوّه، يـأتي إلـي في الصبـاح قبل الـذهاب إلـى الروضة، أو يبحـث عني، بيـأسٍ، قبل أن يشعر بالتعب في منتصف اليـوم. بعد أن يتنـاول طعام غـداءه، واللعب مع أقـرانه، يـأتي إلـي كـوّه، وقد بـدا عليـه الشبع، ومن ثم يبـدأ معـي حـديثه المعـهود، الـذي غالبـاً ما يبـدأه بسـرد الأحـداث التي جـرت منذ الصباح إلـى وقت مجيـئه لي. “شـوف، شوف، شـوف، ولـد داك كان بطاردني… قل لي، إنت تعرف تسوق حاجة أسمه عربية؟” ” إت عارف، كـاكا بتعرف تحلب غنمـاية. هي بت شـاطرة.” “هـاي، قل لي الطيارة بتطير كيف؟” “إذا انت ضربت الحمار شـديد، هل دا بيخليهو يمشي بسرعة ولا بيقيف؟” قـالو لـي الحمار بيقيف، لانه مـا بيحب يتضـرب. الحمـير عنـدهم أمـخـاخ كبيرة!” “شـوف، شوف داك، داك كـومرد جـاي؟” هـو قطـع رقبة خروف بتـاعنا. هسه مـا عنـدنا خروف في زريبة بتاعنا. شُفت، هـو كـومرد كعب. هو قطـع رأس خـروف بتاعنا ورمـاه بعيـد في القش!” “شـوف زول الهناك دا. هـو ماشي يكُب مـوية في بصـل حقتو. هو عنـده مـزرعة بعيـد هنـااااك في الجبـل. أمبـارح مشينـا نشوفا.” رفيق كـات بيقول هو بيـديني ثور كبير وكـت نمشـي معـاه لأبيـي بكـره، أي…” ” كوماندا يـوسف كـارا جـا أمبـارح وكت الشمس ماشي لي تحـت بالمساء. إت قابلته؟ هو صديقـي. هو قـال لي مـا نطلـع بره في الظلام، عشـان في مرفعين كبير، كبير، هو قابله وراء جبل هنـاك، وكت هو كان جـاي. كبير، كبير شـديد، أوووه! المرفعين دا كـان بيـكوريك: وينـو هـوا، هوا، كـوه؟” وبعـدين قـام جرى بسـرعة وكت انـكل كوماندا يـوسف كـارا كان عـاوز يضربـه “تـا، تـا”، في نصف راسه. شُفت، شُفت، شُفت، المرفعين قام هرب بسرعة شديدة. مرفعين دا كان شاطر خلاص. وكمـان جبان. جبان بجد. كان ينتظـر عشان يشـوف شنو كان بيحصل ليهـو، أيوا. أيـوا، أنـكل يوسـف كارا كان مـاشي يضربوا، تـاااا، في الرأس!”

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.