
كادقلى… الملف الاسود لضحايا الطابورالخامس(10) جبال النوبة والحرب الدينية
✍️🏽 إيهاب مادبو
الطابور الخامس ( Fifth column) مصطلح متداول في أدبيات العلوم السياسية والاجتماعية نشأ أثناء الحرب الأهلية الأسبانية التي نشبت عام (1936 ) واستمرت ثلاث سنوات وأول من أطلق هذا التعبير هو الجنرال “إميليو مولا” أحد قادة القوات الوطنية الزاحفة على مدريد وكانت تتكون من أربعة طوابير من الثوار فقال حينها إن هناك طابورًا خامسًا يعمل مع الوطنيين لجيش الجنرال “فرانكو” ضد الحكومة التي كانت ذات ميول ماركسية يسارية من داخل مدريد ويقصد به “مؤيدي فرانكو” من الشعب، وبعدها ترسخ هذا المعنى في الاعتماد على الجواسيس في الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكى والراسمالى)…
” هذه سلسلة من مشاهد لجراحات المنطقة المؤلمة لحد الفجيعة لجرائم ارتكبت بحق الإنسانية بما يمكن وصفها بجرائم الابادة الجماعية وهى ماتجعل مرتكبيها مجرمين حرب يجب ان يخضعوا لمفهوم العدالة الإنتقالية تأسيسا لانتقال يسهم فى بناء دولة تقوم على الحقيقة والمصالحة , وهذا النوع من الجرائم لايمكن ان يسقط بالتقادم لأن آثار الجريمة هنا مستمرة بإستمرار الآجيال”
شهدت المساحات الاجتماعية للمسيحين استهدافاً متواصلاً من قبل الإنقاذ، مما مثل إنتهاكاً مستمراً لحقوقهم. إن مظاهر التمييز والهجوم على الحريات الدينية، بات ممنهجاً بصورة اكثر وضوحاً في فترة التسعينات، حيث تكشف عن قيام نظام الإنقاذ عبر آلياته القمعية بتعبئة وتوظيف التباينات الدينية والإثنية والإجتماعية ضمن الصراع السياسي العنيف، وتهدف الإنقلذ عبر هذا المنهج الي استقطاب الدعم من الدوائر الإسلامية المتشددة، بالإضافة إلى تضليل الرأي العام السوداني وتحويل نظره بعيداً عن الأسباب الحقيقية للحروب، بما فيها أزمات الحكم، المظالم السياسية والاجتماعية والثقافية، والتنمية غير المتوازنة وغيرها من قضايا جوهرية تشكل الجذور الحقيقية للصراعات الجارية.
فالإنتهاكات الممنهجة للحريات الدينية التي يتعرض لها المسيحيون في جبال النوبة عمقت من حالة الإستقطاب والتشظيّ الحادث في النسيج الاجتماعي. حيث كان الإصرار على قوانين الشريعة و شن الحرب الجهادية ضد مواطني جبال النوبة،فقد اعطت الانقاذ الحرب فى جبال النوبه بعدا اخر باعلانها الجهاد ضد النوبه واهدار دمهم بمساجد شمال كردفان( 1992) فى عهد الوالى عبدالكريم الحسيني وشرعنة قتلهم ومصادرة ممتلكاتهم كغنائم حرب وعقدت تلك الدعاوي المشكلة لابعد الحدود حيث اتسعت دائرة الحرب فى المنطقة و استخدمت فيه الحكومة كل انواع الاسلحة المحرمة دوليا لقتل النوبه بقصد الابادة الجماعية والتطهير العرقى
وقبل الإنقاذ كان يعيش سكان جبال النوبة في تسامح ديني ومجتمعي، تساكنوا جميعا من دون تمييز علي اساس الدين او العرق، حيث شكلّت “المواطنة” اساساً للحقوق والواجبات ، فدخلنا الكنسية لنتروي من ظمأ العطش ” من يشرب هذا الماء الذي اعطيته فلن يعطش الي الأبد” ولم يدر بخلدنا يوماً أن هذا الموضوع والذي هو عبارة عن ” سبيل” ببوابة الكنسية التي تجاور مركز الشرطة بكادقلي “شركاً” للإستقطاب والتبشير الكنسي، كنا نروي عطشنا من الماء ولم يسألنا احدا عن هويتنا الدينية والثقافية، ثم كنا نحضر افلام “بروسلي” بالكنسية جنباً الي جنب مع صديقي راسخ تيمثاوس كندة ثم نغفل بعد ان يرخي الليل سدوله عائدين الي منازلنا،،
يقول الأستاذ والكاتب عمر مصطفى شركيان ، في إحدي مقالاته والتي حملت عنوان “التطهير العرقي من خلال الرؤية الفقهيَّة وسوداويَّة العيش وسط الحرب” إنه في إحدى الغارات التعسفيَّة على النُّوبة في المناطق الواقعة شرق وجنوب كادقلي قامت الحكومة بحرق القرى في أم سردبة، تيش، العتمور، أم دورين، حمرة، وبرام. وبعدما قتل الجيش معظم القرويين، ثم قاموا باختطاف 600 طفلاً من أبناء النُّوبة وأتوا بهم إلى كادقلي، وكان بعضهم قد تم تعميدهم بواسطة قس كاثوليكي اُستقدِم من كادقلي لأداء هذه الطقوس الدينيَّة. ويحكى شاهد عيان أنَّه حينما استقدم الجَّيش الحكومي هؤلاء الأطفال المخطوفين إلى كادقلي طلبوا من مواطني المدينة أخذ من يرغبون منهم، واستنكر أهل المدينة هذا الصنع الشنيع لأطفال تبلغ أعمارهم بين 9-14 عاماً، وأغلبهم يتامى. وبعد أن قضوا بضع أيام في كادقلي، تمَّ نقلهم إلى مدينة أم روابة في شمال كردفان لأسلمتهم في خلوة الشيخ بكري وقيع الله محمد خير.
ويضيف الكاتب شركيان، إنه في الفترة من 1990-1991م وهي الفترة التي فيها شهدت مدينة كادقلي تصعيداً واضحاً في الاغتيالات الجماعيَّة، أو ما يمكن نعتها ب”الاغتيالات الدستوريَّة” (Judicial murders) – تخصَّص لها مقصلة في حي السَّما، وهو يقع على بعد بضعة كيلومترات من القيادة العسكريَّة في كادقلي باتجاه الشرق. وبعد الإعدام كان يُترك القتلى في العراء، وكانت الجثث المتحلِّلة سبباً في تلوُّث الطقس بالروائح الكريهة، وانتشار الذباب والصقور في الجو، وفي بعض الأحايين حملت الكلاب السائبة أطراف القتلى ودخلت بها إلى حي السما.
ومن القصص المأسوية ما حكاها الأب صمويل علي عن الغارة التي تعرَّضت لها قريتهم في الساعات الأولى من الصباح العام 1992م. فقد قامت القوة المهاجمة بحرق كل الكنائس في القرية. وفي 13 كانون الثاني (يناير) 1993م قامت الحكومة بالهجوم الثاني على القرية، مستخدمة هذه المرة الدبابات والمدفعيَّة الثقيلة، وقتل المهاجمون أناساً كثراً، وحرقوا المنازل والكنيسة التي أعدنا تشييدها، وتركوا مسجداً كان يقف جوار الكنيسة، ولذنا بالهروب. كان هذا هو حديث الأب صمويل علي الذي كان يتحدَّث واقفاً مع الأب بطرس في موقع الكنيسة الأسقفيَّة المهدمة. فقد بدا محدِّقاً إلى ميراث آبائه وأجداده ولم يبق له منه إلا وقفة بين يديه كوقفة الثاكل بين أيدي الأطلال البوالي والآثار الدوارس. ثمَّ جاءت شهادة كمال توتو والتي يندهش المرء الاندهاش كله كيف يقدم الإنسان على القيام بمثل هذه الأفاعيل، التي تقشعر منه الأبدان. إذ يحكي كمال توتو في شريط وثائقي أنَّهم لفي الكنيسة العام 1992م يقيمون الصلوات إذا يحضر جيش الحكومة ويضربوا حصاراً حول الكنيسة، ثمَّ يقبضوا القس متى النور ويذبحوه كما يُذبح الشاه. أما الشمَّاس بوليس والقساوسة الآخرين وهم: مطمور، زكريا، أبو نوك والمصلين الآخرين فقد تمَّ حرقهم كلهم أجمعين أكتعين داخل الكنيسة. ويضيف كمال توتو إنَّهم ربطوني وتركوني في حر الهجيرة لأشاهد ماذا هم بغيري فاعلون، وبعد أن حرقوا الكنيسة ومن بداخلها من الناس، قاموا بقذفي في الكنيسة التي ما زالت تحترق، وغادروا المكان. وأمسى كمال توتو – البالغ من العمر يومذاك 40 عاماً – محروقاً مشوَّهاً لا يستطيع أن يفعل شيئاً بيديه المحروقتين، وباتت زوجه عائشة القوم – البالغة من العمر يومئذٍ 30 عاماً – هي التي تخدمه وتعينه على كل شيء، بما في ذلك إطعامه. هذه هي حال كمال توتو من منطقة نينجيلي ومن قبيل مورو. وفي هذه الأثناء يتحدَّث الأب بطرس عن مقتل قياداتهم بواسطة الحكومة، ومنهم القس هارون الفاضل ومتى النور، واعتقال 15 من أعيان القبيل ورجال الدين المسيحي، لأنَّهم يعلِّمون الناس المسيحيَّة. هذا، وقد تطوَّر الأمر حتى أمسى جند الحكومة لا يكتفون بحرق الكنائس فحسب، بل تعدوا ذلك إلى حرق المساجد، وكانوا يفعلون ذلك ويردِّدون: “أحرقوا مساجد العبيد!” وقد أضرمت النيران التي أشعلتها جيوش الحكومة مسجد كلكدة في شباط (فبراير) 1994م، ومسجد كومو، الذي تم تدميره ونهب ممتلكاته في شباط (فبراير) 1995م، ومسجد طرور، الذي نُهِبت ممتلكاته وتم تدنيسه في شباط (فيراير) 1995م. وأغلب سكان قرية طرور من المسلمين، ومع ذلك تمَّ الهجوم عليها في شهر رمضان، واُختطف ما لا يقل عن 250 مواطناً من القرية التي يبلغ تعدادها 1,950 شخصاً، وكذلك تمَّ قتل 12 قرويَّاً دون أدنى سبب، كما شهد على ذلك شيخ القرية محمد زين. إنتهي الإقتباس من مقال الأستاذ عمر مصطفي شريكان
في حي كليمو والذي يتوسط مدينة كادوقلي، عرف عن تميزه بين جميع أحياء المدينة بالتعايش الإجتماعي والتسامح الديني، كانت تسكنه جميع مكونات جبال النوبة بجانب مجموعات من شمال ووسط السودان، ويعرف سكان حي كليمو العم ” كوكو تية” الباش ممرض بمستشفي كادوقلي ، فقد كان محبوبا بين جميع سكان الحي لصفاته الإنسانية النادرة ، حيث إنه ظل وفياً لعلاقاته الإجتماعية وطقوسه الإنسانية، وكان حينما يأتي شهر رمضان يلتزم بأحضار”صنيته” للضرا ويمازح الصائمون قائلاً:” إنتو لو الآذان دا اتأخر خلوني امشي الكنسية نضرب ليكم الجرس” ويضحك الجميع لقفشاته واسلوبه الذي يتنزع فيه الإبتسامة من الجميع.
وفي يومٍ حضرت عربة تحمل جنودا بالزي المدني وداهمت منزل العم “كوكو تية” واخذوه معهم الي حامية كادوقلي، وهناك التف حوله الغموض وقيل إنه كان يقوم بعملية التبشير الكنسي وسط سكان الحي ، وهو ما اعتبرته حكومة الإنقاذ جريمته كانت عقوبتها هي “التصفية” الجسدية ورمي جثته بخور العفن الذي “تكّفلت” مياهه بموارة جسده الطاهر الثري.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.